بقدر ما أن الإدانة السورية المعارضة، للقوى المتحمسة للتطبيع مع السلطة في دمشق، ضرورية ومحقة، بقدر ما أنها تحتاج إلى تطوير، لتلحظ تحولات مرت بها المنطقة منذ 2011 وحتى الآن، وكذلك، الانتباه للافتقار إلى معيار واضح أو سقف سياسي، يدان على أساسه المطبّع.
انتفاضة 2011، هُزمت، لأسباب ذاتية تتعلق ببنى المجتمع السوري، وسوء أداء المعارضة، وأخرى موضوعية تتعلق بطبيعة التحالفات في المنطقة، والتدخلات الخارجية لصالح النظام، لكن هذه الهزيمة مرّت بمراحل، كان خلالها المندفعون للتطبيع مع النظام حالياً، رأس حربة في المعركة لإسقاطه. وموقعهم السابق، لم يكن بالتأكيد، إيماناً منهم بحرية الشعب السوري وديمقراطيته، بقدر ما كان استجابة لتحول دولي وإقليمي فرضته الانتفاضة، وطمعا بلعب دور وتحقيق نفوذ، وحجز موقع في أي خريطة جديدة سترسم.
ما يعني أن تحول هؤلاء الآن تجاه النظام، متعلق بتغيرات تلازمت مع الهزيمة التدريجية للانتفاضة. والبعد الأخلاقي، الذي يُنتقدون على أساسه من قبل المعارضين السوريين، لم يكن موجودا في السابق، أي عند عدائهم للنظام، كي يكون مرجعا لإدانتهم عند تقاربهم معه.
اختلفت وتضاربت استراتيجيات الدول الداعمة للانتفاضة، لاسيما بعد 2013، وبدت المعارضات عاجزة عن التقاط التحولات المفصلية
وبالتوازي مع التسليم ببديهية انتفاء البعد الأخلاقي، لا بد من التسليم كذلك بأن، لا يوجد نظام أو دولة في المنطقة، ستمنح الانتفاضة، صكا على بياض، وموقفا أبديا بالوقوف معها، بصرف النظر عن التحولات وتغير الاستراتيجيات حيالها. هذه الدول، محكومة باعتبارات تحدد وجهتها، والاعتبارات تلك، لا يتغير تأثيرها، بتغير طبيعة نظام الحكم، إن كان سلطويا أو ديمقراطياً.
فرنسا نفسها حين تصاعدت فيها العمليات الإرهابية، منح رئيسها الأولوية، لخطر التطرف، على خطر النظام، مبرراً معادلته بأن الأخير عكس الأول لا يهاجم فرنسا. معادلة إيمانويل ماكرون، آنذاك، كانت سطحية وغير أخلاقية، لكنها بدت استجابة لموقعه كرئيس محكوم بمعادلات السياسة الداخلية في بلده، وصعود منافسين له من اليمين، والحاجة لمخاطبة رأي عام، ينتظر حلولا سريعة. إذن، هي التحولات، التي تغير المواقف والاستراتيجيات، وتجعل الدول تنتقل من الحماسة لإسقاط النظام، إلى الحماسة للتطبيع أو التنسيق الأمني معه، أو تقليل خطره.
والمعارضات السورية غالباً ما كانت ضعيفة التأثير في هذه التحولات، وغير قادرة على تجييرها ولو جزئيا لصالحها، وأحياناً غير مدركة لأثرها في تغيير موقف الدول والأنظمة. في مسألة الإرهاب مثلا، الذي بنى عليها ماكرون، مقاربته السيئة حيال الملف السوري، لم يجر تطوير موقف واضح ينبذ الإرهاب من داخل الفصائل المقاتلة، ويترجم عملياً، وهو ما خلق هواجس لدى الأمريكيين أيضاً.
اختلفت وتضاربت استراتيجيات الدول الداعمة للانتفاضة، لاسيما بعد 2013، وبدت المعارضات عاجزة عن التقاط التحولات المفصلية، ليس فقط نتيجة لقصور في فهم موازين القوى، بل بفعل تركيبتها الأيديولوجية، الإسلامية واليسارية الكلاسيكية، التي تفضل الحصول على كل شيء، وترفض مراكمة مكسب من هنا أو إنجاز من هناك، عدا عن ارتباطاتها الخارجية، والوصايات عليها.
والنتيجة كانت تحوّلات على حساب الانتفاضة، تراكم خطوات إضافية، نحو هزيمتها. ومع تسارع التحولات وبطء حركة المعارضات، انتزعت المبادرة تماماً من المعارضات، وصار جزء منها يفاوض، من أجل تغيير في نص الدستور لا أكثر. ما يعني أن هناك فجوة بين الشعار والممارسة، لدى المعارضة، الكل يريد التخلص من النظام، والكل منخرط في تحالفات وارتباطات مع قوى تغيرت استراتيجياتها، سواء لناحية التقرب من السلطة في دمشق أو التنسيق معها. وعليه، يصبح، مجهولاً، في السياسة، المعيار الذي يدان على أساسه المطبّع.
صحيح أن هناك رأيا عاما معارضا رافضا بالمطلق للتطبيع مع النظام، لكنه غير مؤطر سياسياً، يكتفي بالتعبير عن نفسه، عبر مواقع التواصل، بمفردات تعفي الذات من المسؤولية، بلغة أخرى، إدانة التطبيع، ما لم يتم تطويرها، ستظل مجرد شعار، وربما تكون، تحولا جديدا، ينهي هذه المرة الانتفاضة، فيما مناصروها مشغولون بإدانة خالية من السياسة، تتجنب طرح أسئلة حول ضعف التأثير في الأحداث، وتسليم قرار الانتفاضة للغير، منذ 2011 وحتى الآن.
إيلي عبدو _ القدس العربي