أكثر من عشر سنوات من الحرب السوريّة؛ مدة زمنية طويلة ومرهقة للبشر والحجر، حتى أن هناك مقولةً سرت بين عموم الناس الذين أنشبت الحرب مخالبها في قلوبهم وحيواتهم، مفادها أن من مات استراح! فحرب لقمة العيش أشد ضراوةً، وعوض الموت الواحد، يموت الفقير ألف موتة في اليوم، بسبب المعاناة ثقيلة الوطأة التي يكابدها في تأمين الحاجيات الضرورية فحسب، والتي تبقيه على قيد الحياة؛ واقع اقتصادي قاسٍ، وشعور هائل بالظلم وانعدام الجدوى، وارتفاع جهنمي في الأسعار مع كل هبوط لقيمة الليرة، والأهم خصوصاً في مجتمع “بطريركي” كالمجتمع السوري، هو غياب الكثير من الذين يعيلون أسرهم وعوائلهم من الرجال، إما بسبب الموت، أو بسبب اختفاء الأثر إثر هجرة غير موفقة، مما أثقل كاهل النساء السوريات، بأحمال وأعباء معنوية ومادية لا ترحم، وكما في كل حرب، لن تكتفي الظروف بالأثمان الباهظة التي دفعنها مقدماً، من فقد وحزن وقهر، بل إنها ستدفع بالكثيرات منهن إلى خوض حروب لقمة العيش، وسط منافسة مستعرة، ويا لها من حرب لا هوادة فيها.
قلّة الحيلة
ما من حيل متبقية في ذاكرة الأمهات السوريات! لقد استنفدن كل ما تعلمنه من حيل الأمهات عن الجدات في إدارة القهر والفاقة.
الثلاجات فارغة، يعصف بين رفوفها البؤس، و”قطراميزات” المكدوس ممتلئة بالفراغ، وزيت الزيتون الذي خلطنه بزيت الإعانات المرّ اختفى من رفوف مطابخهن، وما نجا من مونة الشتاء، تلاشى قبل أن يأتي. محافظهن اليدوية نظيفة إلا من بضع أوراق صغيرة، عليها أرقام لا يعرفن لمن هي، وبطاقة شخصية، وصور صغيرة عدة للأبناء، والأخوة، والأهل، وربما مقص حواجب عاطل عن العمل، يعود لحقبة بعيدة، ولو كان لديهن غاز للطبخ، لأوقدنه تحت وعاء البحص! أرغفتهن الحنونة، فارغة إلا من أكبادهن المتبلة بالدموع!
ما من حيل متبقية في ذاكرة الأمهات السوريات! لقد استنفدن كل ما تعلمنه من حيل الأمهات عن الجدات في إدارة القهر والفاقة.
اختفت رائحة الفانيلا وماء الورد من مطابخهن، وحلّت عوضاً عنها رائحة الحسرة. لقد استنفذن كل شيء، حتى الحنان، الذي صار سكيناً ترشح من نصله الحرائق والمرارة!
هكذا أفرغت الحرب حمولتها الثقيلة في وجدان الأمهات السوريات، اللواتي وجدن أنفسهن في مواجهة الواقع الذئب، يصارعن بأيدٍ عارية غول الفقد وعنقاء الفاقة وفي أرواحهن رمت الأقدار أحجارها الثقيلة، إلا أن الاستسلام للموت، ليس إلا ترفاً لا يملكنه، فثمة حيوات معلقة في رقابهن، وهذا ما لا يمكن أن يدِرن له ظهورهن مهما كان الثمن باهظاً.
أم سهيل: عجنت بالحبق الظهيرة كلها
ما من خلاف سيحدث مع أم سهيل (60 عاماً)، أو أي من زبائنها حول سعر خبيزتها وسِلقها وبقدونسها الذي جنته يداها من سهوب “سعسع”، الأمر الذي ينسحب أيضاً على جبنها وقريشتها وسمنها البلدي، المعمول يدوياً “هاند ميد” -ما يفضل البرجوازيون قراءته على السلع التي تباع لهم- أما بضاعة أم “سهيل” فهي مئة في المئة شغل يديها، حتى لو لم يُطبع عليها ذلك، ولسوف ترضى بعد كلمة طيبة أن ينخفض السعر حتى النصف تقريباً، إذ يلعب التعاطف الإنساني دوراً كبيراً عند هذه السيدة المحترمة، مع فقراء الناس المقبلين للشراء من عندها.
تهبط “أم سهيل” من قريتها الواقعة في ريف العاصمة مع الفجر، وربما قبله، ببضاعتها المحمولة على الرأس وباليد التي صنعتها، قاصدةً أحد أسواق دمشق، تعرض بضاعتها النظيفة، جالسةً على “بلوكة” وبيدها سكين العمل ومنديل قروي مطرز بنقوش بديعة، يروح ويجيء بكفّها العجوز. يد قُدّت من شجرة جوز يَبست عروقها، لكنها قوية كالصخر، كريمة كغيمة، بمنديلها المشجر تمسح عرق جهاد الروح، وبه ترطب قلب القسوة الفاردة جناحيها فوق البلاد.
تنفق أم سهيل على ثلاث عائلات، من نساء وأطفال، بعد أن خرج الرجال إلى الحرب ولما يعودوا بعد.
تنفق أم سهيل على ثلاث عائلات، من نساء وأطفال، بعد أن خرج الرجال إلى الحرب ولما يعودوا بعد.
لن تبكي هذه السيدة أمامي ولو كنت الزير سالم، لكن هذا لا يعني أن الدموع لا تغسل قلبها يومياً، فهي عاشت طويلاً كما تقول، لكن السنين العشر الأخيرة، كانت “بلا قلب”، قالت.
أم سهيل ربة منزل، وأم، وجدة، وحماة، تحكي عن بيتها الواسع، الواقع في منتصف البستان، وعن دجاجاتها وقفير نحلها، وعن العرزال الذي جمعها برجلها ذات وجد، وتلمع عيناها وتبكي السكين في يدها، وهي تتذكر كيف تركت كل ذلك خلفها، لتنجو بأحفادها من الموت.
متى ترتاحين يا خالة؟ تبتسم، وبصوتها المصقول بالأسى، تجيب: “وهل من كان مثلنا، خُلق للراحة يا ولدي؟”.
محاسن: قارئة العدادات
حمرة باهتة فوق الشفتين تحجز الصراخ والقهر، ومسحة منها فوق الخدود، التي أولمت من صحنها الدموع ما أولمت، بعد أن تربع على كراسيها السيد حزن فارداً سيقانه الطويلة.
حقيبة جلدية تتدلى عن كتفها، لكن محتوياتها مختلفة عن تلك التي توجد في حقائب السيدات عادة: “مفك، وفاحص، وقاطعة أسلاك، وجهاز قياس نبض الكهرباء”، هذا ما تحمله محاسن إبراهيم، صباح كل يوم وهي متجهة إلى عملها الجديد، “قارئةً مؤشرات عدادات الكهرباء”.
تحمل محاسن في جزدانها، مفك، وفاحص، وقاطعة أسلاك، وجهاز قياس نبض الكهرباء، لتقرأ مؤشرات عدادات الكهرباء
في البداية ارتاب الناس بأمرها؛ تطرق أبواب البيوت، ثم تطلب الإذن لقراءة العداد، وتحت الأنظار المذهولة بما ترى، ترتقي درجات سلم خشبي، وتبدأ بعملها بيد ثابتة، وقلب من ورد. مع الوقت اعتاد الناس رؤيتها، حتى أنهم دعوها مراراً لشرب فنجان قهوة أو تناول الطعام، وسيسرها أن تدخن سيجارةً حمراء طويلةً، وهي تعيد للمرة الألف، كيف صارت قارئة عدادات!
زوج محاسن، التهمته الحرب، تاركاً في عهدتها ثلاثة أبناء صغار، وما من معيل، وكأن خسارة الرجل الذي أحبته لا تكفيها وتزيد، وهي في ريعان تفتُّح أنوثتها، “كنا في حلب -دوار الصاخور- حيث تزوجت وأنجبت أبنائي وقضيت أجمل سنوات عمري، وكان كل صعب يهون عندما يُفتح باب الدار وأرى زوجي عائداً إلى البيت”، قالت محاسن، وتابعت: “في يوم حرب جهنمي، لم يُفتح الباب، وتوالت أيام غيابه الطويلة والثقيلة على القلب والروح، لقد اختفى زوجي ولا علم لي حتى الساعة، إن كان ميتاً أم لا”.
قصدت محاسن أحد معارفها، الذي ساعدها في تأمين عمل ميداني لها عافه الرجال في ظل انعدام الأمن، لكن بطون الأولاد الفارغة، أقسى مما يمكن أن يحدث لها. قبلت العمل بامتنان، ونهضت إليه من دون حتى أن تفكر في ما يمكن أن يحدث لها أو في ما قد تتعرض له من مضايقات.
المنظر الغريب للسيدة قارئة العدادات، بات اليوم مألوفاً، حتى أنها كونت العديد من الصداقات الجديدة التي منحتها شيئاً من الدفء في شتاء غربتها الطويل، وماذا عن القلب يا محاسن؟: تشعل سيجارةً من عقب أخرى، “تباً له”، تقول.
أم مالك: الحياة على حافة الموت
فليتكَ تحلو والحياةُ مريرةٌ… وليتكَ ترضى والأنامُ غِضابُ. هذا هو لسان حال أم مالك (50 عاماً) التي تنظر إلى السماء بين الفينة والأخرى، مقدمةً عتابها الجنائزي إلى الله، بعد أن دارت بها الأيام، وأولتها صروف الدهر نوائب تلو أخرى.
من بيتها الكائن في واحدة من المناطق الساخنة “الحسينية”، خرجت أم مالك وأبناؤها، في ليلة لا تريد أن تتذكر تفاصيلها. “تنذكر وما تنعاد يا أمي، كل عمري كوم وهديك الليلة كوم”، قالت السيدة الستينية وملامحها بدأت ترتخي. كان منظرها بين أبنائها وأحفادها، يوحي بأنها لبوة مستعدة للذود عنهم حتى آخر نفس، إلا أنها اطمأنت ولا زال الكلام لديها عصياً على الترويض. “مات زوجي وأنا عم جرّه على الكرسي المتحرك بالسبينة بعدما نزلت قذيفة علينا، وبنتي ماتت بعدها بفترة قصيرة، طلعت من البيت ورحت مع هالعجّان (الأولاد) على منطقة خربة الورد”، قالت أم مالك، وتابعت: “أجار البيوت غالي وما حسننا نقعد بعد ما خلصوا مصرياتنا”.
فليتكَ تحلو والحياةُ مريرةٌ… وليتكَ ترضى والأنامُ غِضابُ. هذا هو لسان حال أم مالك التي تنظر إلى السماء بين الفينة والأخرى، مقدمةً عتابها الجنائزي إلى الله، بعد أن دارت بها الأيام، وأولتها صروف الدهر نوائب تلو أخرى.
خلف مشفى المجتهد وفي الوجيبة السكنية العائدة لإحدى أبنية المنطقة، اتخذت السيدة لطيفة النوري من إحدى زواياها منفرجاً لها ولمن معها، وبعد أن عاد لها سرب السكينة أخرجت من محفظة قماش تحملها حول رقبتها، صورةً لعائلتها التي تفرقت، وراحت تخبرنا عن صدفة أخرى لا تقل عجباً، إذ جمعها النزوح والوحدة وفقر الحال وتعب القلب، مع صبية صغيرة اسمها “سناء” هربت من ظلم الأخوة في منطقة البياضة ونزحت صوب لبنان، ثم عادت إلى الشام، وفي تلك الحديقة الصغيرة، تزوجت من ابن أم مالك، “كانت وحيدةً وخايفة ولحالها يا بنيي، قلتلها تعالي واللي بيصير عليك بيصير علينا”. سناء اليوم تحمل طفلةً صغيرةً في حضنها أيضاً، إنها ابنتها الأولى وعمرها ثلاثة أشهر، إلا أن الرضيعة وأمها الفتية تبدوان وكأنهما من أتعس شخصيات العالم، حتى بؤساء هوغو كانوا يبدون أفضل حال منها ومن بقية أسرتها الجديدة.
عايشين من يلي منشتغله، والناس هون حناين وطيبين عم يتحننوا علينا
على مقربة من أم مالك راح حفيداها يلهوان بألعاب الحرمان والفقر، بعد أن اشتد البرد، فلم يعودا قادرين على بيع المحارم في الطريق للسيارات، “عايشين من يلي منشتغله، والناس هون حناين وطيبين عم يتحننوا علينا”.
القوة التي بدت عليها أم مالك في بداية حديثها، تلاشت تدريجياً، الدموع بدأت تنحدر فوق خديها ويداها راحتا ترتجفان كورقتي شجر في فصل الخريف، فالجلوس في الطرقات هدّ حيلها ونظرات الفضوليين أتعبتها، إلا أن الانتظار، هذا الانتظار المر الذي لا لون له ولا حياة فيه ولا نهاية لترقبه، يبدو وكأنه هو ما تجيده هذه السيدة السورية، وهي تقبض بقلب من ينابيع على ذكريات لا بد من كونها أفرحتها في طالع أيامها، فها هي ابتسامة خفيفة بدأت بالارتسام على محياها، وهي تتمنى أن تعود البلاد إلى ما كانت عليه، “ترجع سوريا بخير وكل شي بيهون يا أمي”، ختمت أم مالك.
أم أحمد وأم وسيم… وردتان ذابلتان
يحترفن الحزن والانتظار وعلى الرصيف الذي صار رفيق انتظارهن الطويل، يجلسن وكأن على رؤوسهن الطير، يد يتكئ على قبضتها الخشنة الخد، واليد الأخرى تحكي العروق النافرة منها عن قهر يسكن الروح والجسد معاً، وما من حاجة إلى الكلام، فدموع أم أحمد (66 عاماً)، ستسبقها إلى أي كلمة تروح وتجيء في خاطرها كطعنة رشيقة، تستفز فيها مقارنةً مع حياة رخاء وأمان ذهبت مع الريح، عاشتها السيدة فاطمة دياب في بلدة “الحفير الفوقا” حيث وُلدت وتربت وعاشت في كنف الأهل فتاةً مدللةً، قبل أن تنتقل إلى بيت زوجها الذي صيّرته جنتها في ما بعد، “كان عندي بيت في القابون بيرمح فيه الخيل، وكل شي كان فيه ومن أحسنه، وهلأ متل مانك شايف هيني (ها أنا)…”، لتكمل الدموع عنها جملتها تلك التي يبست حروفها على شفتيها، بينما يدها تقبض بحزم على “كرتونة” إعانة تقيتها وأسرتها البالغة 20 شخصاً بين أبناء وأحفاد. جاءت الحرب على أسباب رزقهم فدمرتها كما عادة الحروب، “زوجي متوفى من عشر سنين وولادي كان عندهم برّادين شحن، كنا عايشين بنعمة ومو حاسدين الأمير على عيشته، وهلأ ناطرين أهل الخير ليتحننوا…”، صمتت أيضاً وأكمل نشيجها المخنوق ما تريد قوله.
زوجي متوفى من عشر سنين وولادي كان عندهم برّادين شحن، كنا عايشين بنعمة ومو حاسدين الأمير على عيشته، وهلأ ناطرين أهل الخير ليتحننوا
تأتي أم أحمد من الحفير الفوقا حيث تحيا الآن لتقوم بجولة على الجمعيات الخيرية في العاصمة بعد أن “تخاذلت” الجمعيات الموجودة في منطقتها عن القيام بواجبها. هناك ستجتمع وجاراتها الثلاث ليتعاونوا على دفع أجرة السيارة، “بيطلع على كل وحدة فينا عشرة آلاف ليرة، والشوفير بيعرفنا ولايا مالنا غير الله فبيتعاطف معنا وما بيغلي علينا”، قالت السيدة أمل، ولكن يا أم أحمد هل تكفي هذه الإعانات لأسرة كبيرة كأسرتك؟ مرةً أخرى صمتت أم أحمد، ثم قالت بعد تنهيدة طويلة: “الله يفرج يا أمي علينا وعلى هالبلد”. تفتقد أم أحمد بيتها وزريعتها وجاراتها اللواتي كن يملأن صباحها بأحلام القهوة وطمأنينة خطوط راحة الكف وما تقول تفرعاتها، لكنها تأمل بأن أيام الخير ستعود.
كان عندي 400 غرام ذهب وبيتي كامل مكمل، كنت معززةً ومكرمةً وولادي عم يدرسوا في أحسن المدارس
على بلاطة أخرى، وغير بعيد عن السيدة أمل، تقف أيضاً بملامح مخطوفة ألوانها من وجهها الفتي السيدة أم وسيم (36 عاماً)، من مدينة داريا. ذهب بيتها وتشتت أسرتها وهي لا تعرف شيئاً عن زوجها وأخوتها الأربعة، “لا تشوفني هيك واقفة وناطرة لقمة طعمي هالولاد، أنا بنت عيلة وناس وكان عنا رزق ومزارع في داريا، قبل ما تشتعل الحرب وتخرب حياتنا”، قالت أم وسيم وتابعت: “كان عندي 400 غرام ذهب وبيتي كامل مكمل، كنت معززةً ومكرمةً وولادي عم يدرسوا في أحسن المدارس”، لكنها الآن تحيا وأولادها الأربعة في إحدى مزارع جديدة عرطوز حيث صارت تعمل كمزارعة في المكان؛ “وسيم ابني الكبير عمرو 17 سنةً كان من أشطر الطلاب، وهلأ عم يشتغل بالفلاحة من الصبح لآخر النهار”. الفتى حمل الهم باكراً، وأخته “وئام” ابنة الثلاث سنوات كلما رأت شجرةً، توسلتها أن تعيد لم شمل أسرتها وأن تنتهي هذه الحرب، “يا شجرة دخيلك خلي الحرب تخلص”.
إنها حكايات نساء سوريات، نسين التبرج وزيارة المرآة للتزيّن، وترفَّعن عن الألم والدموع، وبقلوب مقدودة من ينابيع وجبال، ذهبن إلى الحياة، فكن سيداتها بلا منازع.
تمام بركات _ رصيف 22