سميرة مبيض: “ما زالت الأدوار السياسية للمرأة السورية غائبة”

يستضيف (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) في هذه المساحة الحوارية الدكتورة سميرة مبيض، السياسية والباحثة الأكاديمية في علوم الأنثروبولوجيا والبيئة، الحاصلة على شهادات الماجستير والدكتوراه من جامعات باريس، وهي عضو سابق في الهيئة التدريسية لجامعة دمشق، وعضو مؤسس وعضو مجلس إدارة في تجمعات مدنية وسياسية عدّة، وعضو باللجنة الدستورية السورية عن كتلة المجتمع المدني.

صدر لضيفتنا كتابان: (كيف أرى الثورة السورية)، و(الشهيدة السورية الأولى.. تاريخ عائلة مسيحية تحت اضطهاد حكم الأسد)، وعدد كبير من الأبحاث ومقالات الرأي، باللغتين العربية والفرنسية.

هنا نص الحوار:

بداية، كيف ترين الأدوار السياسية للمرأة السورية مع دخول الثورة ضدّ نظام بشار الأسد عامها العاشر، وكيف تقيّمينها؟

على الرغم من مرور نحو عقد على بدء الثورة السورية، ما زالت الأدوار السياسية للمرأة السورية غائبةً، حيث إن الثقافة السياسية السائدة في معظم الأوساط السورية ما زالت تستخدم وجود المرأة ضمن التجمعات السياسية صوريًا، لتطبيق أدنى المعايير المتعارف عليها عالميًا من ضمان مشاركة النساء في العمل السياسي ومراكز اتّخاذ القرار.

لكن هذا التفاعل الخجول مع وجود المرأة لا ينبع من قناعة ذاتية بضرورة وجودها، كمنهج فكر وعمل، بالنسبة إلى معظم الفاعلين بالشأن السياسي السوري، حيث إنّنا نجد هناك تفضيلًا لوجود سيدات ينضوين تحت تيارات تقليدية تشكّل إطارًا ضاغطًا على وجودهنّ وأفكارهنّ، أو ربط وجود السيدات بمنظومة وهيكلية سياسية بطريركية، تعوق أيّ إمكانية لعمل المستقلّات بالفكر والرأي، وتجعل هذا الوسط نابذًا لهنّ.

ويمكن تفهّم هذه الحالة السياسية، بكونها تعكس حالة المجتمع، حيث يُعدّ الرجل ضمنه ضحية تنشئة لم تسمح له بتكوين مفهوم إنساني سليم تجاه المرأة ووجودها في العمل العام، هذه التنشئة التي أحيطت بأطر تعليمية ومؤسّسات دينية ومهنية أو منظومات سياسية سادت طوال عقود، وزرعت مفاهيم خاطئة يتحمل عبئها المجتمع السوري اليوم، وتدخل ضمن المسائل التي يجب الوقوف عندها ومراجعتها، لتحقيق الخير للسوريين، وضمان مسار التقدّم الإنساني السليم للمجتمع السوري.

بمقابل التمثيل القوي للمرأة السورية في اللجنة الدستورية (بنسبة حضور 30% من ضمن 150 عضوًا)، يشهد تمثيل المرأة على أرض الواقع تراجعًا في المجالس المحلية والتنسيقيات. سؤالي: ما هي -برأيك- أسباب تراجع التمثيل النسائي في ميدان السياسة السوري؟ ومن قبل، ما هي أسباب تردد النساء السوريات في دخول مضمار العمل السياسي بعد انطلاق الثورة منتصف آذار/ مارس 2011؟

قبل عام 2011، لم تكن هناك حياة سياسية سليمة في سورية، طوال عقود، بسبب غياب التعدّدية السياسية وانعدام فضاء الحوار العام، إذ اقتصر الأمر على إطار حزب البعث من جهة، وهو حزب شمولي عمل على تسخير فئات المجتمع، ومن ضمنها النساء، لخدمة وتمجيد الحزب والسلطة الأبوية؛ وعلى إطار معارضة حزب البعث، من جهة ثانية، وقد تشابهت معه إلى حدّ التطابق في المنظور الشمولي، المركزي والأبوي، وقد جعل ذلك إمكانية وجود دور سياسي للمرأة معدومةً.

بعد انطلاق ثورة آذار/ مارس 2011، ظهرت النساء بقوّة في الحراك الحقوقي والإعلامي والعمل المدني، أمّا العمل السياسي فقد كان مقيّدًا بالمعارضة التقليدية لنظام الأسد، التي تنبذ بدورها الوجود الفاعل للمرأة، نتيجة بنيتها والفكر السائد ضمنها، وقد اتّسم الحراك السياسي بتردي الوسط القائم ضمنه، وبالتعرض للمرأة بالتنمر والتشهير بطرق عديدة، منها المباشر أو التحريض الضمني أو الشعبوي، وكان ذلك عاملًا تسبب في تردد كثير من النساء في الدخول في خضم العمل العامّ، وخصوصًا مع غياب وجود أطر نسوية تؤمن بالمرأة القيادية وتدعم وجودها، إضافة إلى أنّ العادات والتقاليد السائدة في المجتمع السوري، منذ مدة طويلة، أبعدت النساء عن العمل بالشأن العامّ، ووضعت حواجز مجتمعية تعوق ذلك، فمعالجة أهمية وجود المرأة بالعمل السياسي تدخل في نطاق التغيير المطلوب على كل هذه المستويات.

* لا لاستثناء المرأة من أيّ منصب سياسي

ماذا يحتمل في تقديرك أن تكون مواقع المرأة وأدوارها في سورية الجديدة؟

إذا كنّا نسعى فعليًا لبناء مجتمع ومستقبل متوازن لسورية؛ فإن الواجب أن توجد النساء في كل الأطر المؤثرة والمؤسّسات الرسمية، وألّا يستثنى أيّ منصب من أن تحمل مسؤوليته سيدة تتمتع بالكفاءة اللازمة.

ويجب الالتزام بالكوتا النسائية بشكل كامل، والأفضل أن تكون بنسبة خمسين بالمئة؛ لأنّ ذلك هو النموذج الأكفأ للتقدّم، لكن نسبة الثلاثين بالمئة مقبولة، كبداية، وذلك ليس انتقاصًا لمفهوم الديمقراطية -كما يتذرع البعض- بل هو تعزيز له، لأنّ حال المجتمع السوري الراهن، نتيجة ما أوردناه من ظروف، لا تسمح بالاعتماد على الوعي المجتمعي الحالي لضمان تمثيل النساء وتقدّم المجتمع بشكل سليم.

وبناء على ذلك، يجب ضمان وجود السيدات في الأطر الرئاسية والوزارية والبرلمانية، وضمن الإدارات المحلية وإدارات كل مؤسّسات الدولة وقيادات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، بنسبة لا تقل عن ثلاثين بالمئة، وصولًا إلى النصف، كما يجب أن يترافق ذلك بتوعية مستمرة ضمن المجتمع بأهمية وضرورة انخراط السيدات في كل الأطر، وكذلك إعادة إنتاج المناهج التعليمية، والحرص ضمن الأطر الثقافية والإعلامية على تفادي التمييز القائم على النوع الجندري، ومواجهة التوجهات التي تسعى لترسيخ مفاهيم مغلوطة. وسيحتاج الأمر إلى إنشاء جيل كامل على مفاهيم سليمة، لنضمن تجاوزًا كلّيًا لما ترسخ في المجتمع من سلبيات تجاه دور ووجود المرأة.

ما رأيك في نضال المرأة السورية خاصّة، والعربية عامّة، في بلدان “الربيع العربي”، للحصول على حقوقها المدنية والقانونية التي لم تحصل عليها بعد؟

أعتقد أنّ عمل المرأة العربية عمومًا، والسورية خصوصًا، للحصول على حقوقها المدنية والقانونية، تأثر تأثرًا إيجابيًا مع بداية الربيع العربي؛ لأنّ مراحل التغيير هي الأقدر على حمل وإدراج مفاهيم حديثة في المجتمعات، وخصوصًا في المجتمعات التي عانت تجميدًا قسريًا، تحت حكم نظم شمولية منعت تطوره الطبيعي ومواكبته للتقدّم العالمي، في ما يتعلق بحقوق المرأة خاصّة، أو حقوق الإنسان عامّة، إضافة إلى أنّ التطور التقني الكبير في المرحلة الحالية، وإمكانية التفاعل وتحريك الرأي العام، حول القضايا الرئيسية في نيل المرأة لحقوقها، تعدّ عاملًا مؤثرًا جدًا بالنسبة إلى قضايا المرأة، حيث إن تغيير الوعي يوجب الوصول إلى شرائح واسعة، كما يوجب الحوار والنقاش والاختلاف، حتى يتم التوصل إلى بناء وعي سليم داعم لقضايا المرأة.

أنتقل معك إلى الحديث عن الشأن السياسي السوري، وأسألك أوّلًا عن “قانون قيصر” الذي دخل حيّز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو، والذي نرى أنّه سيفاقم معاناة الشعب السوري، ولن يكون أثره كبيرًا على أركان النظام وأثرياء الحرب. كيف تنظرين إليه من جهة تداعياته المحتملة على الملف السوري؟ وهل يمكن أن يحقّق الأهداف الأميركية الخمسة التي أعلنها المبعوث الأميركي الخاصّ إلى سورية، جيمس جيفري، في 22 من الشهر الماضي، وأهمّها تبني الأسد وداعميه (روسيا وإيران) للقرار الدولي 2254؟

على الرغم من أنّ “قانون قيصر” يشمل عددًا محددًا من الأفراد والشركات التي تشكّل مرتكزات وأركان للنظام وأثرياء الحرب، فإن تأثيره الواسع على الاقتصاد السوري يعكس هيمنة هذه الفئة على كل مفاصل الاقتصاد في الدولة السورية، ويؤدي ذلك إلى تفاقم معاناة الشعب السوري نحو تدهور أكبر للظروف الاقتصادية. وأعتقد أنّ تداعياته على الملف السوري، وإمكانية تأثيره للدفع نحو تطبيق القرار الدولي 2254، ترتبط بردة فعل الشارع السوري وإدراكه أنّ استمرارية نظام الأسد مرتبطة بوجود عقوبات “قيصر” التي جاءت ردًا على الانتهاكات الإنسانية التي قام بها الأسد للاحتفاظ بالسلطة لنفسه، وأنّ وزر هذه الانتهاكات يجب أن يحمله النظام بأركانه وكذلك من ارتكب الجرائم معه، لا الشعب السوري الذي عانى كثيرًا طوال نصف قرن، وترتبط أيضًا بإدراك الشعب السوري لآليات التلاعب السياسي الذي جرى بحقه، طوال حقبة حكم النظام الحالي وآثارها الكارثية على هوية الشعب السورية وسيادته ووحدة أراضيه ونهضة بلاده. أمّا عن داعمي نظام الأسد فإن مصالحهم ومنطلقات دعمهم متباينة، ومن المستبعد أن تتخلى إيران عن العائلة الحاكمة، بحكم ارتباطها الوثيق بها كمدخل إلى المنطقة، سورية ولبنان خصوصًا وبلاد الشام عمومًا، وهي ارتباطات وأهداف مشتركة نشأت منذ هيمنة نظام الثورة الإسلامية على الحكم في إيران، وتتضمن مطامع توسعية لطهران في المنطقة، إضافة إلى صراعات ذات خلفية مذهبية وأيديولوجية وقومية لا يحقّقها لإيران إلّا نظام الأسد. في حين أنّ روسيا قد تبحث في تطبيق القرار 2254، من منطلق البحث عن مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية في منطقة المتوسط. هذه المصالح التي تعطلها عقوبات “قانون قيصر” المرتبطة بوجود النظام، إضافة إلى تعطّل عملية إعادة الإعمار قبل الوصول إلى الانتقال السياسي.

* أدرك السوريون ضلوع النظام بجعل سورية مستباحة

من منظورك، أما زال بالإمكان الالتزام بمؤتمر جنيف للتفاوض مع نظام الأسد، تحت إشراف الأمم المتحدة، وما هو المنتظر -برأيك- من الجلسة الثالثة للجنة الدستورية المترقب عقدها حين يسمح الوضع الناجم عن وباء كورونا بذلك؟

بعد خمس سنوات على بدء عملية التفاوض؛ ثبت عدم جدواها، لغياب العناصر الضرورية لذلك، وكانت أقرب إلى مسار تأجيل طرح حلول حاسمة، يقابلها ديناميكية تحصل على النواحي العسكرية، القانونية، المدنية وغيرها من المحاور، نتائج هذه الديناميكية غيّرت الأوراق التفاوضية لدى الطرفين، كما غيّرت مواقع الفاعلين وتأثيرهم، إضافة إلى عدم وجود أيّ تأثير لسوريين مستقلين عن محاور خارجية، ضمنها، ما يجعل هذا المسار أكثر ركودًا اليوم، وأقل قابلية لإنتاج أيّ مخرج يصبّ في مصلحة السوريين واستقرار بلادهم.

يُعدّ مسار اللجنة الدستورية مسارًا رديفًا لعملية الانتقال السياسي، وسيبقى بدوره عقيمًا وقابلًا للتعطيل المستمرّ من جهة النظام، إذا لم يكن هناك تفعيل حقيقي لمسار الانتقال السياسي، عبر توافق دولي من جهة، وتقارب سوري من جهة أخرى، يتكاملان لتحقيق هذا الهدف. وقد يسمح انعقاد اللجنة الدستورية، في حال وجود رؤية أوسع لعملية الانتقال السياسي، بالبدء بتحقيق خطوات عملية على المسارين.  

ما قراءتك للاحتجاجات الشعبية السلمية الأخيرة في السويداء ودرعا وغيرها من المناطق والمدن السورية؟ وهل أنت مع انتفاضة شعبية ثانية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام؟

دلت الاحتجاجات الشعبية السلمية الأخيرة في السويداء ودرعا، وفي غيرها من المناطق والمدن السورية، على وجود إدراك شعبي لنقاط عدة، أهمها مسؤولية النظام عن الحال التي وصلت إليها سورية اليوم، كما دلت على تحرر جزء كبير من السوريين من منظومة الهيمنة الفكرية على المجتمع السوري، ومن تحكم النظام فيها، عبر التلاعب السياسي والشائعات والشمولية الأيديولوجية. فقد أدرك السوريون ضلوع النظام بجعل سورية مستباحة وبفقدانها السيادة وملكية الموارد، مقابل بقائه في السلطة. أعتقد أنّ رفع الصوت السوري في كل المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، والمطالبة بتغيير جذري، هي مسألة بديهية لمواجهة الفساد، ولمواجهة الفشل في تحقيق أيّ إصلاح، ولمواجهة منهج القمع والتواطؤ مع الإرهاب، مقابل مصالح سلطوية للمنظومة الحاكمة.

هناك تقديرات بأنّ الإعلام الروسي يمهِّد لتغيير الأسد، من خلال التشكيك في قدرته على الاستمرار في قيادة البلد، والروس يستغلّون كل مناسبةٍ للتأكيد بأنّه لولا تدخّلهم العسكري منذ 2015 لكان النظام قد سقط، ماذا يعني ذلك؟

يرتبط وجود روسيا في سورية بمصالح اقتصادية وإستراتيجية، تتعلق باستمرارية وجودها في منطقة المتوسط، وارتباطاتها جميعها تنطلق من المعادلة ذاتها. وإن تذكير روسيا للنظام بأنّ تدخلها هو من سمح له بالاستمرار يشير إلى أنّ لمصالحها الأولوية على أيّ أمر آخر، هذه المصالح التي أصبح النظام عاجزًا عن تلبيتها بسبب انهياره الاقتصادي، وأصبح معيقًا لها بسبب ارتباط التعامل معه بالعقوبات الاقتصادية.

وإن تعاظم الفساد والنهب والتغوّل على الموارد في صفوف المنظومة الحاكمة، وبخاصة في أحلك الفترات التي يمرّ بها الشعب السوري، وآخرها أزمة الجائحة الوبائية، أبرز عدم قدرة النظام على إدارة أيّ أزمة، لأنّه قائم منذ تأسيسه على هذه الأسس وعلى نتائجها الكارثية، على مستوى سورية ومستوى المنطقة. وحتى أن تهمة تهديد أمن العالم واستقراره باتت صفات تلازم أيّ جهة تتحالف معه أو تدعمه.

بعد كلّ التطرف الطائفي في المجتمع السوري والنزعات الجهادية في صفوف الثورة؟ هل تعتقدين أنّ المعارضة قادرة على لعب أيّ دور نقديّ فعال أو ضابط تجاه تطرف كهذا؟

ساهمت المعارضة في خلق هذا الواقع، إما بالصمت تجاهه وإما بمحاباته أو بالتواطؤ الفعال معه، وإما بمحاربة الأصوات المستقلة التي تكشف خطورته، وذلك على مدى عقد من الزمن. وقد جرت محاولات عديدة لتقويم مسار المعارضة نحو المسار السوري الرافض لهذه الظواهر المدمرة لقضية السوريين ولحقوقهم، وباءت جميعها بالفشل الذريع، وبإقصاء الأطراف الداعين لها عن مواقع فاعلة، وإلى الأمس القريب، كان خطاب المعارضة يظهر فئويًا نابذًا للسوريّ وللهوية التعدّدية، وغير قادر على جمع المتفرقين على كلمة سواء تحقّق العدالة والمواطنة والمساواة، وتضمن تطبيق القانون وسيادته واستعادة القرار السوري. إن هذا الفشل المستمرّ يجعل المعارضة غير قادرة على تقديم مصلحة السوريين كأولوية، على أيّ مصلحة أخرى، وهو يؤدي إلى اضمحلال أيّ دور فعال لها تجاه معالجة هذا التطرف أو معالجة المنتجات السلبية الأخرى لنظام الأسد أو لسنوات الصراع.

* سورية تعيش أزمة هوية منذ قرن من الزمن

هل تخشين من حكم الإسلام السياسي بعد سقوط النظام كما حدث في غير بلد عربي؟

أرى أنّ ثنائية الإسلام السياسي والنظام العسكري ثنائية مقيّدة لحراك الشعوب العربية، وهذه الثنائية، بالرغم من تناقض طرفيها، تتكامل بمهمة تجميد أيّ نهوض لهذه البلدان أو تحقيق الاستقرار والازدهار المنشود ضمنها، وأرى أنّ مصلحة الأجيال القادمة تقتضي الخروج من هذا القيد ثنائي الأصفاد، نحو مجتمعات مدنية متحرّرة من العقلية الشمولية السلطوية أو الدينية.

وأعتقد أنّ تجربة الإسلام السياسي التي حصلت في دول عدّة أثبتت فشلها في إدارة مجتمع متنوع، فهو كمفهوم يعتمد على إقامة دولة بناءً على شرائع دينية، ولا يمكن لهذا التيار حكم بلدان ذات تنوع إثني ومذهبي، كسورية ومعظم بلدان المنطقة العربية، كما أعتقد أنّ الشباب السوري الذي كان الحامل الرئيس لثورة التغيير أدرك -بنسبة كبيرة- أنّ مسار الحرّية الحقيقي يبتعد عن كل أركان المنظومة السابقة، ومن ضمنها الإسلام السياسي، ويتجه نحو حكم مدني علماني يعزز حقوق الإنسان، ويعمل على بناء الازدهار وعوامل الاستقرار والتنمية للجميع.

ألا تعتقدين أنّ سورية ستعيش أزمة هوية وتعايش، في مرحلة ما بعد الأسد، بعد كلّ الدمار والتخريب اللذين أحاقا بالجغرافيا السورية؟

سورية تعيش أزمة هوية منذ قرن من الزمن، ولم يُتح لأبنائها تبني هويتهم الحقيقية ببعدها الجغرافي والتعدّدي، يومًا، وهي اليوم بعد نصف قرن من حكم قمعي قائم على الفتنة الطائفية، وبعد عقد من الصراع المسلح البيني، تتنازعها هويات فرعية وهويات تَبَعية، ولا يمكننا افتراض وجود هوية وطنية جامعة، وكذلك لا يمكننا افتراض إمكانية التعايش، ما يمكننا العمل عليه، في ظلّ هذا الصراع البيني وصراع الهويات، هو العمل على عقود اجتماعية وقوانين تضبط العيش المشترك، ومنح الوقت اللازم -بعد انتهاء الصراع- لبناء هوية مشتركة بالشكل الذي تنبع فيه من المجتمع السوري، لا بشكل قائم من منطلق رغبوي لجهة أو لأخرى، كي تكون قابلة للحياة والاستمرارية.

أخيرًا، ما شكل الدولة الذي ترينه صالحًا ويتناسب مع ما ينشده السوريون من أجل دولة ديمقراطية في المستقبل تضمن حقوق كل المكوّنات السورية، وتحفظ التنوّع الثقافي والإثني والقومي في إطار الهوية الوطنية السورية الجامعة؟

أرى أنّ الدولة التي تتناسب مع ما ينشده السوريون، وتضمن حقوق كل المكوّنات السورية، هي دولة تقوم على دستورٍ يحفظ حقوق الإنسان وحقوق المواطنة المتساوية، ويثبّتها ويضمن فصل الدين عن الدولة، وحيادها تجاه جميع الأديان والقوميات. وإن استقرار سورية، وحفظ التنوّع الثقافي والإثني والقومي ضمنها، يحتاج إلى العبور نحو نظام لامركزي، يتبلور شكله وفق مراحل زمنية ضرورية وتمهيدية للانتهاء من حقبة الحكم المركزي ولتفادي إعادة إنتاجه، وبما يسمح بتنظيم الصلاحيات الموسعة وتوزيع السلطات الإدارية بين الحكومة والأقاليم التي تُحدّد على أسس جغرافية بعيدًا عن أيّ خلفية إثنية أو عرقية، لتقوم الهيئات المحلية وهيئات الأقاليم الجغرافية بممارسة صلاحياتها، ضمن القانون العامّ وضمن وحدة البلاد، وليتاح لأبناء كلّ منطقة إدارة شؤونهم، ووضع عقد اجتماعي ناظم يتوافق مع المجتمعات المحلية.

الكاتب: غسان منصور/ مركز حرمون للدراسات المعاصرة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

جمعية الأمل لمكافحة السرطان

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...
منظمة INGEV

واقع دعم المشاريع النسائية الصغيرة في مدينة شانلي أورفا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا تدعم منظمات المجتمع المدني المتخصصة في التنمية وريادة الأعمال، المشاريع الاقتصادية للاجئات السوريات في مدينة شانلي أورفا، بهدف...
مركز الأمل لمكافحة السرطان

خدمات دور ضيافة مرضى السرطان القادمين من سوريا بين الواقع والمأمول 

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا تستقبل دور الإيواء المعدودة ومحدودة الإمكانيات في تركيا، مرضى السرطان السوريين عند تحويلهم من الشمال السوري حسب طاقتها...

سوريات إلى الدعارة في العراق..ضحايا ميليشيات عراقية

“يضربني زوجي كل يوم، ويصطحبني مُكرهةً لممارسة الجنس مع أشخاص في الفنادق والبيوت، ثم يعود بي إلى البيت ليفعل بدوره الأمر نفسه بعد ضربي...

الأكثر قراءة