“كنا مضطرين لإنو الوالد تأخر لم شملو، فباع البيت قبل ما يطلع من سوريا، واشترا الفيزا وإجا”.
هكذا يشرح علي، شاب سوري مقيم في ألمانيا، طريقة وصول والده من لبنان إلى تركيا، قبل أن يتابع طريقه إلى ألمانيا أيضًا، ليكتمل لقاء العائلة، بعدما تأخر ذلك عن طريق إجراءات لمّ الشمل التي أجرتها العائلة في ألمانيا.
وإذا كانت السنوات الأولى من الثورة السورية قوبلت بأبواب مفتوحة أتاحت للاجئين الوصول إلى تركيا، حيث بقي نحو 3.7 مليون منهم فيها، فيما اتخذها آخرون محطة نحو أوروبا، لكن ما تبعها أحدث نقلة نوعية في التعامل مع تحركات السوريين وتنقلاتهم، عبر تغيير آلية التعاطي مع أفواج كبيرة تغادر بلادها طلبًا للحياة ومقوماتها في مكان آخر.
وبعدما كان دخول السوريين إلى تركيا يجري عبر بطاقة الهوية الشخصية، منذ ما قبل الثورة عام 2011، فرضت الحكومة التركية منذ مطلع عام 2016 على السوريين تأشيرة (فيزا) لدخول البلاد، برًا وبحرًا وجوًا، في سبيل تقليص تدفق المهاجرين إليها، دون مؤشرات سياسية أو عسكرية توحي حينها بقرب التوصل إلى حل ينهي أسباب هذا التدفق.
علي وأمه وإخوته الثلاثة أمام انتظار طويل للقاء رب العائلة، قصدوا باب السماسرة الذين يعمل بعضهم بشكل مستقل ومستتر، أي دون مكتب تنظيم معاملات يتخذونه كغطاء اجتماعي وقانوني، وكانت النتيجة تأمين “فيزا” بقيمة 3700 يورو للأب.
وبموجب “الفيزا” الممنوحة لدخول قبرص التركية، بعد هبوط الطائرة أولًا في اسطنبول، غادر والد علي لبنان، وحين حطت الطائرة في اسطنبول، منحه أحد المتعاقدين مع السمسار جواز سفر ليدخل به اسطنبول، ثم أخذه منه مجددًا بعد دخوله، دون الحاجة إلى متابعة طريقه نحو قبرص، التي جاءت “فيزا” دخولها عبر وجود كفيل شكلي فيها على عيون السفارة.
تحفظ علي خلال حديثه إلى عنب بلدي على ذكر اسمه الكامل، مشيرًا إلى أن مواضيع من هذا النوع لها حساسيتها، لكنه أوضح في الوقت نفسه أن الخيار الذي اتبعته العائلة لم يكن عن رغبة محضة، بالنظر إلى دوّامة التواصل مع السماسرة، والمخاوف من التعرض للاحتيال، لا سيما أن المبلغ المدفوع للوصول إلى تركيا، ما كان باستطاعة الأسرة تأمينه لولا بيع الأب منزل العائلة في سوريا قبل خروجه منها.
تجهيز ملف أم “عالمضمون”؟
تندرج سبل الحصول على تأشيرة الدخول ضمن شقين، الأول منهما يجري عبر وسطاء أو سماسرة أو مكاتب يجهزون ملفًا للشخص، لتقديمه للسفارة على أمل أن تمنحه تأشيرة الدخول.
وتتطلّب هذه الطريقة مجموعة من الأوراق، يجهّز قسم منها الشخص الذي يرغب بالسفر، وهي أوراق يأتي بها من سوريا، أمام القسم الآخر فهو أوراق مرتبطة بالشخص الذي وجه له الدعوة عبر السفارة، باعتبار أن التأشيرة مرتبطة بدعوة من شخص أو شركة أو مؤسسة في البلد الآخر، وهنا يأتي دور الوسيط الذي يقوم بإعداد هذه الأوراق واستكمال الملف، لقاء مبلغ يتراوح بين 75 و100 دولار أمريكي.
عنب بلدي تواصلت مع أحد العاملين كوسطاء وفق هذه الطريقة، ويلقب نفسه بـ”أبو عبدو”، رافضًا الإفصاح عن اسمه لأسباب اعتبرها اجتماعية.
أوضح الوسيط أن الحصول على “الفيزا” مرهون بدعوة يقدمها قريب من الدرجة الأولى أو شخص يلعب دور الكفيل، ويسمى “متعهد نعمة”، وبهذه الحالة تُجهّز مجموعة أوراق بعد استيفاء مجموعة شروط، مثل أن يكون الشخص “الداعي”، في إشارة إلى من وجه الدعوة، لديه حساب مصرفي ووثيقة “حماية مؤقتة” (كملك)، أو شهادة قيادة سيارة، تمهيدًا لتجهيز تأمين صحي، وعقد إيجار، ولا حكم عليه، وورقة “تعهد نعمة”، يمكن الحصول عليها عن طريق مكتب الوالي، وهي تعهد بالتكفل بمصاريف الشخص “المدعو” بعد وصوله إلى تركيا.
ويمكن الاستعاضة عن بعض هذه الأوراق بغيرها، إذ يحل جواز السفر ساري المفعول محل “الكملك”، بينما يسمح باستخدام تصريح العمل كبديل عن جواز السفر و”الكملك”، في حال كان “المدعو” دون 18 عامًا.
أشار “أبو عبدو” إلى أن الكثير من هذه الأوراق يمكن الحصول عليها من خلال تطبيق “إي دولات” عبر الهاتف المحمول، لكن جهل أو عدم دراية الأشخاص بهذه التفاصيل، يدفعهم نحو الوسطاء، لافتًا في الوقت نفسه إلى مخاوف الناس من ارتكاب أي خطأ غير مقصود عند تجهيز أوراق ملفاتهم، وبعد كل ذلك فالموافقة على منح تأشيرة الدخول ليست مضمونة، لكنها محتملة بنسبة عالية، لا سيما إذا كان الشخص “الداعي” من حملة الجنسية التركية، أو لديه رصيد بنكي جيّد ونشط.
وترتبط الهواجس في التعامل مع تجهيز الأوراق الثبوتية بمخاوف مصدرها الاحتكاك السابق بموظفي المؤسسات الحكومية عمومًا، وهو خوف يرافق السوريين في سوريا، وخارجها أيضًا، باعتبار أن تصحيح الأخطاء القانونية المرتبطة بالأوراق قد يستغرق وقتًا وجهدًا، ما لم يضع الشخص في خانة مساءلة، أو يجلسه على كرسي انتظار طويل في أروقة المحاكم لإجراء تعديل بسيط في ورقة أو معاملة حكومية.
وحول السبل المضمونة للحصول على تأشيرة لدخول الأراضي التركية، تواصلت عنب بلدي عبر أحد صحفييها، بدعوى الحاجة إلى “فيزا مضمونة”، مع مكتب يعرّف عن نفسه باعتباره يقدم خدمات استخراج جميع الأوراق المصدّقة من سوريا، وإذن العمل، وتحضير ملف الدعوة للوصول إلى السفارة التركية في بيروت، وحجز مواعيد القنصلية السورية، وترجمة الأوراق الثبوتية، واستخراج الإقامات وحجوزات الطيران.
المكتب أكد إمكانية الحصول على تأشيرة مضمونة في حال لم يرغب الشخص بتجهيز ملف وتقديمه، وانتظار الموافقة المحتملة، لكن تكلفة هذه الضمانة ثلاثة آلاف دولار أمريكي، يجري تسليمها بعد أن يحصل صاحب العلاقة على “الفيزا”.
والمطلوب في هذه الحالة من الشخص الذي وجه الدعوة، أي المقيم في تركيا، بريد إلكتروني ورقم هاتف محمول، وصورة عن جواز السفر، فقط، ثم “الثلاثة آلاف” طبعًا.
ما رأي القانون؟
في ظل وجود سماسرة على الضفة الأخرى من تركيا، يتابعون خطى سابقيهم العاملين بين لبنان وتركيا، عبر تأمين تأشيرات دخول بذات الطريقة السابقة من تركيا نحو بلد أوروبي، مقابل مبالغ طائلة، رئيس “تجمع المحامين السوريين الأحرار”، المحامي غزوان قرنفل، أكد في حديث إلى عنب بلدي أن الكثير من تلك المكاتب بغض النظر عن وجهة تأشيراتها، هي وسيلة احتيال على الناس وسلبهم أموالهم.
وبالحديث عن المكاتب التي تعمل على تأمين تأشيرات بين لبنان وتركيا ودول أخرى ضمن المنطقة، يؤكد المحامي أن ارتفاع المبالغ التي يتقاضونها مرتبط بتعدد المستفيدين منها، لافتًا إلى أن تلك المكاتب لا تحمل ترخيصًا قانونيًا لعمل من هذا النوع، لكنها قد تحصل على ترخيص مكتب سياحي، يجري استغلاله لهذه الأغراض.
وهناك مكاتب مكلّفة بتلقي الأوراق المطلوبة مع جوازات السفر ورسوم التأشيرة، وتكون هذه المكاتب وسيطًا بين العميل والقنصلية، وما عداها يستبعد المحامي ترخيصها، لافتًا إلى إمكانية محاسبتها كونها تعمل دون ترخيص قانوني.
المحامي غزوان قرنفل يرى أن المسألة لا يمكن ضبطها والحد منها إلا بتجاهل الناس لها، وعدم التعاطي معها، والاكتفاء بطلب تأشيرة الدخول بالطرق القانونية، من القنصليات بشكل مباشر، أو عبر المكاتب التي تعتمدها الدول، مثل “I DATA” المعتمد بشكل رسمي من قبل تركيا.
وحول المسؤولية القانونية التي يمكن أن تقع على عاتق المكتب الذي أجرى “السمسرة” على تأشيرة الدخول، والشخص الذي حصل عليها، يؤكد المحامي أن الشخص الحاصل على التأشيرة غير ملام قانونيًا، لكن يمكن مساءلة المكتب الذي أتى بـ”الفيزا”، بتهم ارتكاب جريمة الاحتيال أو الإثراء غير المشروع، في حال كان المبلغ الذي تقاضاه لقاء تأمين التأشيرة مبالغًا به، وفوق التكلفة الحقيقية للرسوم المقررة، مع إضافة مبلغ بسيط كأتعاب مقابل خدمات المكتب، والتي يفترض أن يتقاضاها بموجب إيصالات رسمية يسلّمها لطالب الخدمة، وهو ما لن يحصل طبعًا بمعاملات من هذا النوع.
حسام المحمود _ عنب بلدي