سيريا برس _ أنباء سوريا
لدى وصولي لاجئا قبل ست سنوات، قدمت لي فرنسا فرصة جديدة للعيش مع أطفالي ككثير من الهاربين من جحيم المنطقة العربية وصراعاتها، شروط العيش الجديدة لم تتضمن عقداً منصوصا عليه وموقعاً بيني وبين البلاد الجديدة، لقد كان مجرد تفاهم على أنني وأطفالي نستحق الرعاية الصحية والأمن والغذاء، ولم يسألني أحد في معتقدي بصورة رسمية سوى بعض نقاشات جانبية، وخلال السنة الأولى حصلت على دروس للغة مدفوعة من قبل الدولة، وكانت معي مجموعة من الطلّاب من سوريا ومن الشيشان والصومال والبلقان وروسيا.
في اليوم الأول كان مطلوبا من كل طالب أن يعرّف عن نفسه وكذلك الأستاذ، وقدّم أحد السوريين نفسه كمسيحي وكان يفتح عن صدره واضعا صليبا من الحجم الكبير، فامتقع وجه المدرس ثم قطع على الطالب نحو من يليه، وإلى جانبي كان ثمة فتى شيشاني رسم على غلاف دفتره علم الدّولة الإسلامية في العراق والشام.
المدرّس الذي رفض قبول الهوية الدينية للطالب السوري الذي يعتقد أنه يستدرّ عاطفته ليحصل على دعم معنوي أكثر من أقرانه كمسيحي قادم من الشرق، كان يمكن أن يكون هو نفسه المدرس “صامويل باتي”، وهنا مفارقة يصعب شرحها لمن يعتقد بأن الرجل كان يمارس تمييزاً واحتقاراً، وهو في الحقيقة كان يمارس دوره في تعزيز حرية التعبير كما يراها ويسمح بها القانون الفرنسي، ولا أقصد هنا أن أمرّر فكرة تدعم منهج التجديف بالأديان، فهي ممنوعة وفق قرارات الأمم المتحدة وقرار مجلس حقوق الإنسان عام 2010، لكن أودّ التذكير بأن فرنسا من الدّول التي صوتت ضد هذا القانون مع 16 دولة أخرى من أصل 40، فيما امتنعت دولتان عن التصويت.
ولم تتغير الرواية الفرنسية بهذا الشأن، لأنها رفضت القرار وقتها ـ حسب سفيرها في المجلس ـ لأنه “يتعارض مع الحق في حرية التعبير”.
التقيت لاحقاً بأكثر من أسرة سورية مسلمة جاءت إلى فرنسا عبر جمعيات دينية كاثوليكية غير حكومية، دون أن تطلب منهم تلك الجمعيات الدخول في معتقداتها، وكنت أتساءل عن طبيعة الخلطة التي يعيشها المجتمع الفرنسي الذي يضم ملايين المهاجرين ومختلف الألوان والأعراق، وكان وقتها يبرز جدل حول صعود اليمين المتطرف بزعامة “مارين لوبين”، وهو جدل سياسي يرتكز على جانبين الأول هو الأثر في هوية وقيم الدولة وبروز موجة تخويف من التشدد الإسلامي، والثاني ذو طابع اقتصادي بسبب موجات الهجرة من دول تعاني الفقر والبطالة.
كان واضحا أن البلاد تعاني من أزمة اقتصادية وصراع سياسي عميق، وبدا أن المهاجرين القدامى من المولودين على التراب الفرنسي لم يجرِ دمجهم بصورة صحيّة، فتشكلت كانتونات تعاني وضعا معيشيا صعباً دفعها إلى العودة إلى الهوية الدينية مع خلل في الاندماج، ومن تلك الكانتونات خرج الآلاف من المتطرفين الذين سافروا للقتال في صفوف تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق، ومنهم من شكل خلايا في دول ومدن أوروبية.
مطلع 2015 جرى الهجوم الإرهابي على مقر صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة، وبررت الجماعات المتشددة الهجوم بأنه انتقام لنشر الصحيفة رسوماً أساءت إلى الرموز الإسلامية، وعزز الهجوم وما تلاه من حالة التمترس في الهويات، ومع الاستغلال السياسي خصوصاً من اليمين المتطرف وقعت الدولة في أزمة بين حربها للدفاع عن أول قيم الجمهورية الثلاث وهي الحرية، وتقصيرها في قيمة المساواة، في ظل شعور عميق لدى الكثيرين بأن هذه القيمة تتعرض للانتهاك على المستوى الاقتصادي، حيث يتم التمييز في الوظائف، وأكبر دليل على ذلك ما حصل لاحقاً في مظاهرات الستر الصفراء، وكذلك نظام التقاعد.
العجز الحكومي في تحديث القوانين بسبب القدرة العالية للحراك المجتمعي على عرقلته بصرف النظر عن سياقاته وضرورته، دفع بالطبقة السياسية للمحاربة على جبهات أخرى، منها استعادة الدور الفرنسي المتراجع على المستوى الدولي، وانعكس ذلك في الموقف من أزمة شرق المتوسط، والأحداث التي تلت انفجار مرفأ بيروت، وكذلك جبهة هوية الجمهورية، مع التخويف الحاصل من انتشار التطرف الذي يهدد مستقبل البلاد، في حين يرى المسلمون أنهم مستهدفون، خصوصاً مع تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون حول الإسلام، والخطوات اللاحقة بوضع الجمعيات الإسلامية والمراكز الدينية تحت المجهر وإغلاق بعضها.
تصريحات ماكرون حول الأزمة التي يعيشها الإسلام ليست كذبة ولا خيالاً، والشاهد تلك الفوضى العارمة والحرب المذهبية التي تعيشها المنطقة الإسلامية، لكن الخوض فيها على منبر سياسي ولأسباب محلية يعني أن المسألة تتعلق أكثر بانتخابات الرئاسة 2022، والقفز على خطاب المنافس اليميني المتطرف، بحيث لن يجد ما يقوله في هذا الملف أكثر مما قاله “ماكرون” وكأنه بيان ترشّح للدورة القادمة.
أزمة العقل الحقيقية لدى الأقليات المسلمة المقيمة في الغرب هي أنها تريد دمج الدول الأوروبية ومجتمعاتها في تفكيرها، وإصلاح مؤسسات الدولة بطريقة تخدم فكرتها الدينية والاجتماعية للحياة، وعن هذه الأزمة تنشأ أزمات أخرى مثل النقاب والبوركيني والصلاة في الشوارع وإظهار الرموز الدينية في مخالفة واضحة للقانون كما هو الحال في فرنسا.
وأزمة العقل السياسي الحاكم في الغرب هي أنه يريد أن يزاود على الحريات الشخصية بتقديم تفسيرات مبالغ فيها لدرجة السماح بحرية التعبير في قضايا عابرة لحدوده، ما يعني أن مشكلات واحتكاكات كبيرة ستحصل، وعليه أن يتحمل نتائجها طالما أنه لم يكتف بالتعامل مع الظواهر المحلية وفق القانون وخارج السياسة والتنافس الحزبي.
من حق فرنسا أن تدافع عن قيمها بمواجهة متطرفين جاؤوا كلاجئين، وهي القيم التي أكسبتها صفة أرض اللجوء (Terre d’asile)، ومن حقها أن تحافظ على أمن سكانها مواطنين ومهاجرين، وليس مطلوباً منها أيضاً إصدار تشريعات تلغي هويتها لإرضاء نزعات دينية أو لتبرير ممارسات عقائدية، لكن من واجبها ممارسة فكر الدولة لا الحزب، في القضايا الشائكة، وإيجاد مخارج اقتصادية تحقق فرصاً متكافئة للجميع، وتعيد دمج أبنائها مهما كانت معتقداتهم. وبالعودة إلى الفتى الشيشاني القاتل، فإن ما حصل هو بمثابة وضع السكين على عنق الإسلام، وليس مجرد ارتكاب جريمة إرهابية بحق المدرّس “باتي” فحسب، لقد حصل الفتى على السكّين من حاصل بيئة اجتماعية متقوقعة، وروايات مريضة عن حقوقه الدينية، وفكر عدائيّ عنيف تكوّن بين موسكو وغروزني وانتهى في باريس.
علي عيد - زمان الوصل