فيما ترتفع أصوات خبراء ومسؤولين اقتصاديين بالتحذير من شبح “ركود تضخمي” عالمي، بتأثير التداعيات الاقتصادية للغزو الروسي لأوكرانيا، يبدو أن السوريين مقبلون على مستوى أعمق من ذاك الصنف النادر والعصيب من “الركود”، وبنكهة خاصة بهم، حيث تتشابه الأعراض، لكن لأسباب مختلفة.
تبدأ القصة وتنتهي، مع سعر الصرف. فهو العلّة التي حرّضت هذا الصنف من “الركود” المؤلم في سوريا، والتي قد تدفعه إلى مستواه الأعمق، هذه الأيام، إذا ذهب مصرف سورية المركزي خطوات جديدة، في سياسته لـ “تجفيف الليرة” في السوق.
إذ بعد أسبوع من التذبذب، هوت الليرة السورية مجدداً إلى سعرٍ غير مسبوق منذ نحو عام، كانت قد وصلت إليه، مساء الخميس الفائت، بدفعٍ من آثار الأزمة الأوكرانية. وكانت حسابات موالية على وسائل التواصل، متخصصة برصد أسعار العملات بسوريا، قد تحدثت عن عملية “تدخل” من جانب المركزي في سوق العملة، على خلفية انهيار سعر الصرف من 3650 ليرة للدولار الواحد، قبيل بدء الغزو الروسي، وصولاً إلى 3900 ليرة للدولار الواحد، مساء الخميس الفائت. ورغم أن “التدخل” الذي تحدثت عنه تلك الحسابات، بصيغة “ضخ” للدولار في الأسواق من جانب صرّافين متعاونين مع المركزي، بقي غير مؤكد، إذ لم تقرّ به أية وسيلة إعلامية موالية، إلا أن تراجعاً كبيراً للدولار، أعقبه، فأدى إلى استعادة الليرة نحو ثُلثَي خسائرها التي مُنيت بها، منذ بدء الغزو الروسي، وذلك مطلع الأسبوع الجاري. وبعد هدنة ليوم واحد – الاثنين-، عكست الليرة السورية اتجاهها نحو الانهيار مجدداً، لتشطب مكاسبها مطلع الأسبوع، وتنهار قبيل إغلاق الأربعاء، إلى السعر الذي كانت عنده مساء الخميس الفائت.
استشعر السوريون سريعاً ما تعنيه الأزمة الدولية الجديدة على اقتصادهم الهش. فالعقوبات على المصارف الروسية انعكست على شركائها من المودعين السوريين، وعقّدت القدرة على التحويل، وحصرتها بتحويلات مالية محدودة.
لكن أثر الأزمة كان أعمق، واتضح ذلك من رد فعل الحكومة المضطرب والتقشفي. فأسعار النفط والقمح وأجور الشحن التي حلّقت دولياً، جعلت “الدولة” تخشى على مواردها المالية الشحيحة، فحمّلت قفزات الأسعار العالمية بدورها، لجيوب السوريين، عبر الإشارة الصريحة إلى تقشفٍ قاسٍ في الشهرين القادمين. فانعكس ذلك ارتفاعاً في أسعار بعض السلع والمواد الغذائية بنسب تقترب من 50% في بعض الحالات.
واندفع السوريون الذين يملكون سيولة متاحة إلى التحوّط بالذهب، فازداد الطلب على الليرات الذهبية السورية –ذهب الإدخار-، رغم ارتفاع أسعاره بصورة كبيرة، بخلاف القاعدة الشهيرة، بعدم شراء الذهب حينما يكون في حالة ارتفاع. لكن استشعار السوريين لاحتمال أن لا يكون انهيار سعر صرف “ليرتهم” محدوداً أو مؤقتاً، جعلهم يلجؤون لأوثق الملاذات الآمنة.
وتتجه الأنظار الآن إلى مصرف سورية المركزي، وإلى رد فعله على انهيار سعر الصرف. هل سيرفع مستوى “تجفيف” السيولة من الليرة في الأسواق بغية رفع سعرها؟ تلك الآلية الدفاعية التي اعتمدها المركزي منذ عام، عبر وضع سقوف للسحوبات المصرفية، ولنقل الأموال بين المحافظات، وإجبار السوريين على إيداع سيولة مالية في حسابات بنكية، كشرط لتنفيذ عمليات البيع العقاري، وغيرها من السياسات النقدية التقييدية، أدت إلى شح كبير في السيولة، ولّد ركوداً في الاقتصاد نتيجة بطء سرعة دوران النقود.
ولأن الاقتصاد السوري، مشوّه، وبيئته غير جذّابة للاستثمار والإنتاج، وإجراءات “حكومته” ضد التجار والصناعيين “جبائية” بصورة أقرب إلى الابتزاز، كانت النتيجة مُخالفة لكل قواعد الاقتصاد في مختلف دول العالم. فشح السيولة من العملة المحلية، عادةً ما يؤدي إلى خفض الطلب وبالتالي انخفاض معدلات التضخم. لكن ذلك لم يحصل في سوريا، إذ شحت السيولة، وانخفض الطلب، نظراً لضعف القدرة الشرائية للسوريين، لكن معدلات التضخم استمرت في الارتفاع لتتراوح ما بين 40 إلى 70% خلال العام الفائت. هذا من دون أن نحتسب معدلات التضخم المضافة في الشهرين الأخيرين، والتي باتت ظاهرة للعيان في الأسواق السورية.
وهكذا، عانت سوريا منذ العام الفائت، من أعراض “الركود التضخمي”، الذي يحذّر منه خبراء دوليون اليوم، على مستوى عالمي. أي أن سوريا مُقبلة على مستوى أعمق من هذا الصنف من “الركود”. بطالة مرتفعة، معدل نمو منخفض أو منعدم، وتضخم أسعار مستمر. وصفة جهنمية لمعيشة السوريين، قد تزداد استعاراً في الفترة المقبلة، لكن هذه المرة، لأسباب خارجية.
ورغم تشابه أعراض “الركود التضخمي” في سوريا، مع الأعراض المعروفة عنه عالمياً، إلا أن أسبابه المحلية كانت مختلفة. فـ “الركود التضخمي” يحدث عادةً مع حدوث زيادة سريعة في كمية العرض من السلع والخدمات، أو حينما تزيد الحكومة من المعروض النقدي بسرعة كبيرة. لكن في الحالة السورية، لا توجد أية مؤشرات لزيادة العرض. ناهيك عن أن المركزي السوري عمل على تجفيف المعروض النقدي من الليرة السورية، قدر استطاعته. فلماذا حدث “الركود التضخمي” في سوريا؟ قد يكون الجواب، كما سبق وأشرنا، في علّة سعر الصرف. فهذا السعر الذي جعله المركزي محور سياساته وتدابيره، بغية تثبيته، لا يعبّر عن واقع الاقتصاد السوري الحقيقي. لذا، نجح المركزي في تثبيت سعر الصرف، لكنه فشل في تحقيق الهدف من وراء ذلك، وهو لجم التضخم. وهكذا من المرتقب أن ينتقل السوريون إلى مستواهم الجديد المُضاعف من “الركود التضخمي”، في الفترة القليلة القادمة. لكن هذه المرة، كنتيجة لـ “ركود تضخمي” عالمي.
إياد الجعفري _ المدن