“إلى نعمان عبدو”
في مثل هذه الأيام من عام2013، كانت نشرة أسعار مخيم اليرموك، المحاصَر من قوات الأسد، تفيد بأن سعر كيلو الرز بلغ سبعة آلاف ليرة، وسعر كيلو السكر 4500 ليرة. هي أسعار غير صادمة بموجب أرقام اليوم، فالسبعة آلاف ليرة تعادل ما يقل عن دولارين بسعر صرف الليرة الحالي، بينما قبل ثماني سنوات كانت تعادل ما يقارب السبعين دولاراً.
في تلك الأيام كان بشار الأسد منتشياً وقد أدرك أنه أفلت بارتكابه مجزرة الكيماوي الكبرى في الغوطة، ولم يكن موالوه أقل إدراكاً منه، فالخطر قد زال مع صفقة الكيماوي التي تبقي عليه من دون حاجة لتنص على ذلك صراحةً. أي أن قسوة الحصار على المخيم، وعلى مناطق في الغوطتين وسواهما من المناطق الخارجة عن السيطرة، لم تعد سلوكاً وحشياً من سلطة مرعوبة من السقوط. لقد كان ذلك عقاباً جماعياً تفرضه سلطة تعدّ نفسها للبقاء طويلاً بعد إذلال المنتفضين عليها، وهذا أيضاً ما كان يدركه موالوها ويوافقونها عليه، بل يطالبونها بالمزيد.
في أيام الحصار تلك، تراوح سعر كيس السيروم الطبي في المخيم بين العشرين والخمسة وعشرين ألف ليرة “ما يقارب 250 دولاراً”، أما السؤال عن سعر ربطة الخبز ففيه سوء فهم لا يُلام أصحابه إذ اعتادوا على هذا النوع من الأسئلة، ففي الواقع كان الحصول على رغيف خبز، أو كسرة منه، حلماً لغالبية المحاصَرين. أما سوء الفهم الأعمق، الخاص بالموالين، فهو ظنهم أن تلك العقوبات ستقتصر على أولئك “المارقين”، بمعنى أن العقاب سيطال فقط الذين اختاروا الثورة على الأسد. في حين تشتغل ماكينة الأخير بطريقة تستهدف كل من تسوّل له نفسه التمرد لاحقاً، بمعنى أن العقاب الجماعي الاستباقي كان في رحم حصار “الجوع أو الركوع” الذي شجّع عليه البعض، وصمت عنه البعض الآخر.
في النصف الأول من الثمانينات، سحق الأب تمرد الإخوان، فضلاً عن المجازر الجماعية العشوائية التي ارتكبها كعقاب جماعي. ذلك لم يمنع من استئناف العقاب في النصف الثاني من الثمانينات، فعوقب السوريون جميعاً بإذلالهم في أبسط تفاصيل عيشهم اليومي، وحينها لم يكن هناك حصار على الأسد الأب ولا عقوبات دولية تُرمى مسؤولية الإفقار والذل عليهما، وحتى ما أُشيع عن إفراغ الخزينة وإعطاء ما فيها لرفعت الأسد كي يغادر هو بمثابة “نكتة” روّجتها المخابرات، وانطلت على كثر يريدون هدفاً لنقمتهم لا يغضب أياً من فروع المخابرات المتغولة عليهم.
إذا أخذنا مخيم اليرموك عام2013 فهو النموذج لما ستكون عليه سوريا، وقد صارت حقاً كلها ذلك المخيم البائس. لا عزاء في أن كيلو الرز، حسب سعر صرف الليرة، لم يبلغ بعد القيمة التي بلغها أيام حصار المخيم. العبرة في أن ملايين الطلقاء، لا ألوف المحاصرين فحسب، باتوا تحت خط البؤس، لا خط الفقر كما تفيد الإحصائيات. يدخل في باب الردح والسطحية فقط القول بأن جزءاً بسيطاً من ثروة عائلة الأسد كافٍ لانتشال محكوميها من بؤسهم، فمَن استولى على أموال السوريين من قبل لم يفعل بنيّة إعادتها رأفة بهم.
قيل من قبل الكثير عن الثمن الباهظ من الدماء الذي دفعه الموالون لبقاء بشار، سواء أتى الثمن تطوعاً أو بسوق أبنائهم إلى الخدمة الإلزامية. لكن تلك الدماء لن تكون الثمن الوحيد، ففي عقل الأسد ليس هناك من موالاة مضمونة على الإطلاق، الموجودون هم أعداء، أو مشروع أعداء لاحقاً. السوري، بصرف النظر عن رأيه، ينبغي التعامل معه استباقاً كتهديد، وهذه هي العقيدة التي تكشّر عن أنيابها مع كل “تمرد” جديد يكشف عن أن القمع والإذلال المعيشي السابقين لم يفلحا في إبادة حسّ التمرد نهائياً.
شعار “الجوع أو الركوع” كان في حينه عنواناً مؤقتاً لفئة محدودة، بينما كان سيناريو “الجوع بعد الركوع” الموجه للعموم يُعدّ بحكم طبيعة السلطة، وبالقصف الذي كان يدمّر مقومات العيش من دون “ضرورات” عسكرية له. في مثال المخيم، كانت قوات الأسد منذ وقت مبكر قادرة على اقتحامه، بفعل ميزان القوى الذي يميل بإفراط لصالحها، إلا أنها كانت تطيل عمداً أجل الحصار والقصف والتدمير، وكان هذا هو حال العديد من المناطق الأخرى التي دُمّرت بهدف التدمير فحسب، وما بدأ ببراميل الأسد المتفجرة استمر مع طيران بوتين وصواريخه التي لا تزيد عنها ذكاء.
يُشار عموماً إلى أن ثورة فاشلة هي مصيبة، لأنها لا تعني العودة إلى ما سبق، بل إلى ما هو أسوأ منه بكثير. هذا أيضاً هو الدرس الذي يقدّمه الأسد مع كل تمرد على سلطته، ويُفترض أن يكون درسه أبلغ بكثير من شعارات رُفعت يوماً عن كون الثورة للجميع، وللموالين ضمناً. ولأنه لن تكون هناك ضمانة لاحقة بعدم حدوث ثورة أو انتفاضة ما، فإن الدرس ينبغي أن يبقى ماثلاً، وأن يستعد أولئك الذين سيقفون ضد المحتجين للعقاب الذي سيحل بهم فيما بعد. في المؤدى العام، لا مهرب من دفع ثمن الفشل، وهذا ما ينبغي تذكره جيداً.
في السابع من ديسمبر2014، وصلنا خبر استشهاد نعمان عبدو في مخيم اليرموك. ونعمان ابن مدينة السلمية، وهي إشارة كافية كي لا يوصم بالإرهاب على أساس منبت طائفي، وهو أيضاً معتقل سابق بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي، وهي إشارة أخرى توضح توجهه الفكري بلا لبس. ونعمان أصيب بعجز جزئي في قدمه بسبب إصابة بالرصاص عندما كان يقاتل الإسرائيليين مع المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، وهذه إشارة تعزز من رمزية ذهابه إلى المخيم ليقاتل ضد قوات الأسد. كان متاحاً لنعمان خيار آخر مريح، بل كان ماضياً حقاً في إجراءات الزواج من حبيبة فلسطينية مقيمة في كندا بقصد اللحاق بها، غير أنه فضّل البقاء والقتال.
من موقع عدم الانحياز إلى خيار نعمان، يجدر التفكير ملياً بما يجعل شخصاً بالمواصفات أعلاه يصل إلى قناعة مطلقة بضرورة قتال هذه السلطة وعدم وجود بديل عن إسقاطها. فهْمُ نعمان عبدو هو ما قد يعفي مستقبلاً من مصيره، ويعفي سوريا ثانيةً من مصير مخيم اليرموك في حصاره وفي اقتحامه.
عمر قدور _ المدن