حتى أشهر قليلة مضت، كانت رابطة الصحفيين السوريين أفضل تجربة لتجمع مهني نشأ بعد الثورة السورية وخارج سلطة النظام، وقد بذل المنتخبون المتطوعون جهودا لا يمكن تجاوزها لتصبح الرابطة جسما معترفا فيه من قبل منظمات دولية معروفة، ومنها الاتحاد الدولي للصحفيين.
ولم يكن خارجاً عن المألوف أن تشهد الرابطة التي أسست عام 2012 سجالات في الهوية وطبيعة المهمة التي أنشئت لأجلها، فخرج منها العشرات ودخل مقابلهم المئات، لتعزز دورها كمعرف لدى مؤسسات دولية عن الوسط الصحفي السوري، بعد أن كانت مجرد أفكار نبيلة متقاطعة لجسم نشأ في ظرف سياسي بالغ الدّقة حمل آثاره على أوراقها ونقاشاتها الداخلية، وحتى على تقييمها على المستوى الخارجي.
وليس بعيداً عن سوريا بواقعها المفتت، يمكن ملاحظة اختلافات وتجاذبات طبيعية حول قضايا سياسية ونقابية في دول مثل الجزائر والمغرب وحتى فرنسا التي شهدت نقاباتها خلافات غير سياسية انعكست على المسألة السياسية في التصويت للرئيس ماكرون خلال الانتخابات الأخيرة.
ما يختلف في تجربة رابطة الصحفيين السوريين هو أنها بدأت على أرضية لم تختبر العمل النقابي، كما أن منتسبيها يتعلمون بالتجربة ومن كيسهم، مع الاطلاع على خبرات الآخرين، ويزيد من حساسية التجربة هي أنها تقوم على أرض المنفى وتضم المئات من الصحفيين الموزعين في عدد كبير من الدول، حيث يحاولون صناعة هوية من دون أرضية ثابتة، وعلى أمل العودة إلى سوريا حاملين معهم هذه المؤسسة كنموذج يمكن تعميمه في مرحلة ما بعد النظام الشمولي الذي لا يعترف بالنقابات ولا يستجيب لطلباتها، بل يستخدمها لتأطير الكوادر المهنية وضبطها سياسيا.
والمختلف أيضا في تجربة الرابطة هو أن التنافس على الإدارة كان ضعيفا بسبب غياب ثقافة التطوع، وعندما بدأت التجربة تترسخ، أصبح هناك تنافس لا يقوم على مبدأ الخبرة والمتابعة على ما تأسس، بقدر الرغبة في الانخراط بمؤسسة باتت محط الأنظار، واستطاعت أن تبني شراكات وتقدم نفسها في محافل مهمة مثل الاتحاد الأوروبي ومرجعية جنيف واليونيسكو وغيرها، ولكن البناء على المستوى الخارجي كان يحتاج لبناء مسبق داخل المؤسسة ذاتها، هو ما لم يتحقق لعدة عوامل، منها الجغرافيا وتشتت الأعضاء، ومنها الإحباط وغياب الرغبة بالتفاعل، وهي مسألة طبيعية لدى معظم الأجسام النقابية، إذ يتعذر تأمين مشاركة وتحشيد ربع الأعضاء في معظم النقابات الأوروبية عندما تخوض معارك تتعلق بمصالح المنتسبين.
خلال الدورتين بين 2016 و2020، انصرفت الإدارة إلى مهمة بناء القدرات وتمكين الكوادر وإنشاء إدارة تنفيذية يمكنها نقل الخبرات والملفات، في حين تنصرف مجالس الإدارة أو الهيئات الإدارية المنتخبة إلى صناعة السياسات، إلا أن وجود وظيفة مثل “السكرتير العام” وهي وظيفة تقليدية في مثل هذه الأجسام بات موضع خلاف وتشكيك، كما بدأ البعض يطالبون بتدوير الوظائف، وهي معدودة على أصابع اليد، الأمر الذي اعتبرته الإدارة المنتخبة تدميرا للخبرة التراكمية، وتحويلا للرابطة من مؤسسة نقابية إلى مؤسسة توظيف، ما تسبب باحتكاك بين مجموعة صغيرة داخل الإدارة أبدت رغبتها بإلغاء منصب “السكرتير العام” أو تغيير التسمية وإعادة صلاحيات هذا المسمى إلى أحد أعضاء الهيئة المنتخبة، وهو ما يعني أن عضو الإدارة المنتخب سيكون مسؤولا عن قضايا تشغيلية تحتاج لإجراءات معقدة، وهو أمر غير معهود، وينسف أدوات تنفيذ الخطط والسياسات، والبحث والتشبيك، وترافق هذا الخلاف مع تنازع فردي لم يقبل بمرجعية التصويت الأكثري، ما خلق استعصاء عززه تأمين اصطفاف من مجموعة لا تلاحظ مبررات العمل الإداري بقدر رغبتها في ممارسة الديمقراطية ـ وهو حقها ـ في مسائل لا علاقة لها بالديمقراطية مثل تنفيذ المشاريع أو لجان اختيار خبراء وموظفين بعقد محدود لتلك المشاريع.
انتهى الاشتباك السالف إلى طلب الإدارة تشكيل لجنة حكماء، وانتهت الأخيرة بتوصية انتخابات مبكرة، وتعديلات في النظام الداخلي ومنها إلغاء وظيفة السكرتير العام، أو الأمين العام، وبعد سجال حول وجود ثغرات في التوصيات جرت الاستجابة بإعلان استراتيجية خروج تنص على تشكيل لجنة لتعديل النظام الداخلي، وإلغاء وظيفة السكرتير العام والاستعاضة عنها بوظيفة مدير تنفيذي، وتشكيل لجنة انتخابات وإعلان الخروج المبكر للهيئة الإدارية المنتخبة فسحا في المجال أمام بقية الأعضاء للمشاركة في قيادة هذا الجسم.
تخلل كل ما سبق اتهامات اعتباطية بالفساد المالي، علما أن الإدارة لا تتحكم بمسار وصول أموال المنحة، كما يخضع كلّ قرش لتدقيق داخلي وخارجي من قبل المانح أولا ومن قبل مدقق مرخّص أصولا لدى المنظمات الدولية وحتى الجهات الحكومية، مع التأكيد على أن ميزانية الرابطة لا تتجاوز 90 ألف دولار سنوياً يذهب أكثر من 70 بالمئة منها لموظفين والباقي هي تكاليف استئجار المقر وبعض التدريبات والمبالغ النثرية التي يجب أن تتم الموافقة على صرفها وفق الخطة مع الشريك المسؤول أمام دافع الضرائب في أوروبا.
وتبين لاحقاً بتدقيق لجنة الحكماء وكذلك بتأكيد الجهات المدققة والشريكة، أن كل الاتهامات غير صحيحة، وأن الرابطة منذ تأسيسها لم تشهد أي مخالفة مالية، بل تشير تقارير “الأوديت” إلى مستوى صفر من الخطأ، ما يعتبر واحدا من أهم نقاط القوة لهذا الجسم.
في نهاية آذار ـ مارس 2020 بدأت لجنة الانتخابات عملها باستقلالية تامة، وفي الأسبوع الأول من أيار ـ مايو حصلت الرابطة على إدارة ورئيس جديدين، أما المستجد في هذا الجانب هو أن البعض مارس حقه المشروع في الطعن بأحقية ترشح الرئيس الجديد، لكن اللجنة رفضت الطعن وفق أسس قانونية، ومنذ الاجتماع الأول لهذه الإدارة بدا الانقسام واضحا، دون الخوض في تفاصيله، وظهر أن هذه الإدارة غير منسجمة بالمطلق، الأمر الذي تسبب بإعلان استقالة ثلاثة أعضاء ثم الرئيس، ولم يتبق من المجلس المكون من 6 أعضاء والرئيس سوى 3 فقط، وهو ما يمنع عقد جلسة قانونية لمناقشة أي مسألة.
تفاصيل الخلاف داخل الإدارة الجديدة لا ترتبط كليّا بأي سبب خارج عن الخلاف الواضح في التوجه، وهو أمر طبيعي لو أنه بقي في إطار تسجيل الاعتراض حسب القانون على أي قرار، لكن تعطّل عمل الإدارة أقعدها عن مهماتها في تقديم خطة عمل لتأمين ميزانية السنة التالية، وبالتالي أصبح الموظفون بلا رواتب وأصبحت الرابطة بلا موارد، وزاد من التعقيد اتخاذ قرار بترميم الإدارة من أعضاء الاحتياط دون أن يكون هناك محضر لقبول الترميم والاستئناس القانوني أصولاً، إذ لا يمكن مباشرة اجتماع للإدارة دون النصاب القانوني، وبالتالي فإن أي قرار سواء كان بالترميم أو فصل أو تعيين موظف لن يكون مشروعاً.
تتحمل الإدارة وهيئة الشفافية السابقتان مسؤولية بالغة في عدم تنظيم انتخابات جديدة للشفافية تقوم بأخذ المبادرة وتدعو لانتخابات، إلا أن المشكلة كانت في أن إعلان الخروج المبكر للإدارة وتشكيل لجنة انتخابات لم يرافقه إخطار من قبل هيئة الشفافية ولو عبر بريد رسمي بالاستقالة أو الانسحاب، بل انسحبت كيفياً علما أنها كانت ممثلة في اجتماع جرى تنظيمه في إسطنبول بهدف تنسيق الخطوات وضمان حلّ الخلافات والانتقال بالرابطة إلى مرحلة جديدة، بل وانتدبت عضوا لها ضمن لجنة التعديلات في النظام الداخلي.
تبين أن الرابطة تحتاج لموقف من الجمعية العامة، فبادر نحو ثلث الأعضاء بتاريخ 12 تموز ـ يوليو لطلب حجب الثقة عن الإدارة، وهو طلب يحتم على الإدارة ذاتها دعوة الجمعية العامة للتصويت على الطلب، وذلك وفق المادة 68 من النظام الأساسي، لكن الإدارة قررت عدم شرعية الطلب بحجة أن هناك اسما مكررا، وأنها أرسلت بريدا للموقعين على الطلب لتأكيد توقيعاتهم، وهو ما لا يجوز قانونا، إذ كان يجب عليها أن تكلف لجنة مستقلة للتثبت من الأسماء وإقرار مشروعية حجب الثقة من عدمه، ومع تجاهل الطلب كان يفترض وفق المادة 21 (البند 4) من نفس القانون اعتبار الإدارة منحلّة لعدم استجابتها.
كان رغبة من تبقى في الإدارة عدم الخروج بحجب الثقة أمرا مفهوماً، وتواصلت للتسوية لكنها كانت تنسحب في اللحظة الأخيرة من كل مسعى لإخراج الرابطة من المأزق، الأمر الذي ترافق بخيبة لدى عدد كبير من الأعضاء، ما أثر في لغة التخاطب الذي سكتت عنه الإدارة من موقع مسؤولية من تبقى فيها.
مجدداً، بادرت مجموعة جديدة تشكل أكثر من 26 بالمئة من أعضاء الرابطة إلى طلب اجتماع طارئ محوره تشكيل لجنة إنقاذ في مسعى لرأب الصدع، والتصويت على شرعية استمرار الإدارة من عدمه، وجرى تكليف اللجنة القانونية المعتمدة من الإدارة ذاتها للغرض، وبعد موافقة الإدارة على ندب أحد أعضائها المرممين لتنظيم الاجتماع والتصويت، كانت المفاجأة بسحب العضو المنتدب، وكذلك إعلان حلّ اللجنة القانونية، وتجاهل طلب أكثر من ربع الأعضاء للاجتماع، ما يعني أن قرار حلّ الإدارة بات ناجزاً وفق القانون للمرة الثانية، وهو ما اتفقت عليه اللجنة القانونية، وأصدرت بشأنه بياناً رسمياً.
في مراجعة لأداء الإدارة، يتبين أنها لم تنجز ما هو مطلوب منها، وتسبب استمرارها بتعطيل الرابطة، وتهديد كيانها بصرف النظر عن حججها، إذ لا يمكن تبرير تدمير مؤسسة بحجة احتكار صفحة “فيس بوك” من قبل الرئيس السابق أو المدير التنفيذي المستقيل، لأن السبب الأساسي لمثل هذا التصرف هو خلاف على كلّ المبدأ وليس على ملكية مفاتيح.
تبقى إدارة العملية الانتخابية كآخر ورقة إنقاذ بعد فشل كلّ المحاولات والمبادرات، الأمر الذي دفع بمجموعة بيان الإنقاذ المكونة من أكثر من ربع الأعضاء، وفي ظل غياب هيئة الشفافية، إلى الطلب من أصحاب الترخيص التدخل، وهو ما يحتّم على مالكي الترخيص لدى السلطات الفرنسية الاستجابة للطلب، حيث جرى تفويض آخر سلطة قائمة وموثوقة ومنتخبة في الرابطة، وهي رئيس فرع تركيا عمر الشيخ إبراهيم، والذي يعتبر عضوا في مجلس الرابطة، وخرج بيان بهذا التفويض مع التأكيد على عدم أحقية اللجنة التي يقودها الشيخ إبراهيم بالترشح في انتخابات الإدارة القادمة.
مع ما سبق، لا يمكن تجاهل رغبة الكثيرين من الأعضاء بعدم ازدواجية المنصب، كما هو الحال بالنسبة للسيدة نائب رئيس الرابطة، والتي احتلت مؤخرا موقع نائب رئيس الائتلاف السوري لقوى المعارضة، وكان ينبغي مراعاة هذه المسألة درءا لحصول منفعة أو تأثير سياسي في عمل مؤسسة أولى قواعدها القانونية الاستقلال عن أي تأثير سياسي، ولعل المحاججة في هذه النقطة أمر مشروع ويمكن الاستدلال عليه في صراع النقابات مع الحكومات وضد الأحزاب السياسية الحاكمة في الوطن العربي وخارجه، لكن يبدو أنها نقطة أضيفت إلى الجدل الحاصل بشأن إدارة الرابطة.
مجمل ما حصل يظهر عيباً إدارياً تمثل في تمترس إدارة يطلب منها التحرك وقبولها إجراء حلّها قانوناً، وزجها لبعض أعضاء الرابطة في خلافات بينية، كما يظهر عجزاً في فهم الديمقراطية القائمة على التوافق قبل الدستور، إذ لا يمكنك حكم شعب أو مجموعة بمصنّف ورقي اسمه نظام داخلي أو دستور أو قانون وأنت عاجز عن إنجاز خطوة واحدة، كما لا يمكن تبرير تضحية إدارة أو نظام بالشعب أو الأعضاء بحجة حماية القانون، لأن المصلحة العامة سابقة على مصلحة الأفراد، كما أن تجاوز الدعوة لحجب الثقة أو رفضه لا يمكن ربطه بخلاف في رؤية الإدارة مع من تدير، فأنت موجود لخدمة هؤلاء وتأمين مصالحهم، وتنتهي مصلحتهم التعاقدية معك عندما تفشل، حتى ولو كنت أفضل القادة.
لعلي أكرر مزعمي أن ما يجري على علّاته هو نوع من التمرين على تشكيل الأجسام النقابية، وعلى ممارسة الديمقراطية، هو تمرين يحتاج لكثير من الصبر في بلد تتكّون معالمه بالصراع، وأزيد أن أي ديمقراطية لا يمكنها اغتيال نفسها إلا بالفوضى.
علي عيد/ موقع تلفزيون سوريا