منذ اليوم الأول للثورة السورية كان الرهان على المدة التي يستغرقها الأسد ليعلن تنحيه، خاصة بعدما شهدنا سقوطاً سريعاً لزعماء ثورات الربيع الأولى، فمعظمهم لم يستغرقه قرار التنحي بضعة أيام أو أسابيع، ومن تعنت أكثر بقي يحارب لعدة شهور قبل أن يسقطوه جثة هامدة بيد الثائرين عليه.
لكن الأسد خيب كل التوقعات، وحقق مناصروه شعارهم الأول “الأسد أو نحرق البلد” وهذا ما حصل طيلة السنوات الماضية.
بعد مضي السنة الأولى للثورة وبعد أن حولها الأسد لحرب شعواء، بدأت التحليلات بوصف المخاطر السياسية والعسكرية والاستراتيجية والجيوسياسية والاجتماعية والإنسانية للأحداث فارضة أن تكون هذه العوامل هي المسبب أو المساهم الأكبر في سقوط الأسد والذي مع الأسف أيضاً لم يحصل حتى اليوم، ففي ذلك الوقت كانت تحليلات العوامل الاقتصادية للوضع في سوريا وتأثيرها أقل تكراراً من تحليل العوامل الأخرى.
أما اليوم فقد بات الوضع مختلفاً تماما وبات من المهم جداً التحليل السياسي من البوابة الاقتصادية، خاصة بعد تهاوي سعر صرف الليرة السورية وتردي الأوضاع الاقتصادية للمواطن السوري، ودخول قانون قيصر حيز التنفيذ، ناهيك عن جائحة كوفيد19، ما يجعل أي مراقب للوضع السوري يعتقد بأن سوريا دخلت ومنذ زمن بما يسمى باقتصاد الحرب، والذي فعلياً في حقيقة الأمر قد أُدخلت فيه عنوةً وليس كنتيجة طبيعية لهذه الحرب في ظل دعم الدول للأسد بالسلاح والذخائر والمال أيضاً، ولكن التحليل يجب أن يكون كنموذج في حد ذاته، حيث تشكل القضايا المالية والاقتصادية “عصب الحرب” كما هو متعارف.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الوضع الاقتصادي للمواطن السوري قبل الثورة، كان أيضاً غير مستقر، ولم يكن هناك أي تناسب بين الدخل الفردي وبين متطلبات الإنفاق للحياة العادية للطبقة الوسطى، فلم يكن يتجاوز راتب الموظف السوري 15000 ليرة سورية بأفضل أحواله أي 300 دولار أمريكي في ذلك الوقت، أما معدل الإنفاق لأسرة من الطبقة المتوسطة يتجاوز 25000 ليرة سورية أي 500 دولار أمريكي وهذا الفارق بين الدخل والإنفاق كان يضع على كاهل المواطن عبئاً ثقيلاً من الصعب تعويضه.
وصلت الحالة الاقتصادية المتردية إلى أقصاها، وما يزال همنا الأول متى يسقط الأسد ومن يسقطه، لتظهر الجدلية الحادة أحيانًا بين المعارضين والنشطاء السوريين حول فكرة التدخل العسكري وطرائقه وتحالفات سوريا أو حتى المسألة الكردية وخصوصية الحالة السورية، فالبعض يرفض التدخل العسكري، بينما يتحدث البعض عن الحاجة للانفصال عن إيران وحزب الله، كخطوة أولى للحل، والبعض الآخر يستبعد التحالف مع الولايات المتحدة أو زيادة الاعتماد على تلك الدولة وغيرها من القوى العالمية الكبرى، علاوة على ذلك ، فإن “القومية الدبلوماسية” الدفاعية لسوريا في عهد الأسد لا يمكن أن تُنسب حصريًا إلى الاستبداد الموروث أو البعث، ليس فقط لأن النظام السوري نجح دائمًا في الجمع بين الأيديولوجية والبراغماتية القوية والتي طالما تجلت في قدرتها على تقديم تنازلات للولايات المتحدة الأمريكية من خلال التعاون في ملفات معينة وفي أوقات محددة، ولكن أيضًا لأن الأسد أوجد تحالفات أخرى جمعت الأضداد أحياناً، ما خدم وجوده وانخراطه في الأزمات الإقليمية أيضاً.
منذ وصول بشار الأسد للسلطة بدأ ما عرف بالإصلاحات الاقتصادية، مستوحياً هذه الخطوات من النماذج الصينية والتونسية، والجمع بين الانفتاح الاقتصادي، والحفاظ على الهياكل السياسية، فما كان من هذا النظام إلا الالتفاف على توصيات صندوق النقد الدولي وتحويلها من الليبرالية الاقتصادية، إلى ما أسموه اقتصاد السوق الاجتماعي غير المفهوم المغزى أو فحواه حتى من قبل واضعيه وعجزهم عن تفسيره حتى الآن، واستطاع النظام وبطانته من خلاله الاستيلاء على الاقتصاد الوصول إلى صيغة اقتصادية تعتبر اختراعاً سورياً وهي وصفتها الصحفية الفرنسية كارولين دوناتي -في كتابها الاستثناء السوري بين الحداثة والمقاومة الصادر عام 2009- برأسمالية الأصدقاء، لكن هذه الرأسمالية لا تشبه أي من الرأسماليات العالمية التي تعطي لمواطنيها الحياة الكريمة وتضمن لهم الحقوق، فإذا اعتبرنا دولاً مثل ألمانيا أو فرنسا أو السويد على سبيل المثال، دولا رأسمالية فيا حبذا هكذا رأسمالية.
لذلك فعندما نفكر بالاقتصاد السوري ما بعد الأسد، علينا أولاً اجتثاث رأسمالية الأصدقاء التي هيمنت على مقدرات سوريا ومشاريعها لعقود، والتوجه نحو محاولة المواءمة بين إعادة الإعمار وتحسين الوضع المعيشي للمواطن في معادلة صعبة التنفيذ لكنها ليست مستحيلة لملازمة مسار إعادة الإعمار مع مسار المشاريع التنموية الحيوية والتي تسهم في النمو الاقتصادي للبلاد بما يخدم المواطن، بعيداً عن مديونية الدولة لشركات إعادة الإعمار كما يحصل بأي دول خارجة لتوها من حرب مدمرة وطويلة.
وهنا يأتي دور التركيز على إعادة بناء الدولة كاقتصاد ونسيج اجتماعي معاً، لإعادة الثقة بين السوريين بعد محاسبة المجرمين والفاسدين، لنصل إلى التصالح بين الجميع على أسس القانون والديمقراطية.
الكاتب: مزن مرشد / زمان الوصل