syria press_ أنباء سوريا
تخوّفت، كأي عربي مورست عليه طرائق التحبيط واللاجدوى، من استغلال العدو الاسرائيلي لصواريخ المقاومة بغزة، فيوغلوا متذرعين بها -كما فعلوا ويفعلون الآن- بقتل المدنيين وزيادة الحصار على أهلنا، وخاصة في غزة، فترددت بتأييد الصواريخ، رغم يقيني أن لا حل مع كيان وجد بالقوة، إلا القوة.
ولعلّ تخوفي مشروع وقتذاك لأمرين، الثاني هو التفوق الهائل بالقوى، للمحتل على المقاومة، مشفوعاً -التفوق- بتأييد أعمى من العالم، بمن فيه بعض العربان. ما يجعل من تحوّل شكل الصراع والمواجهة، في مصلحة الكيان الاسرائيلي لا محالة.
أما الأمر الأول، والذي يمكن تصنيفه بالشخصي الإنساني، أكثر منه بالتحليلي السياسي، أني لا أجرؤ على الإفتاء بالدم، بمعنى لا يمكنني وأنا بعاصمة أوروبية أن أجيّش البشر لتواجه الموت، فأيتّم أطفالاً وأرمّل نساء وأثكل أمهات، ما يدفعني لإيثار الصمت عله أضعف الإيمان.
بيد أني لم أصطف مع جوقة تخطّئ المقاومة ولم أنزلق للبحث عن ذرائع، كعلاقات حماس ومواقفها من قضايا ودول عدة، فكتبت منذ صواريخ المقاومة الأولى.
“تبدّل معادلة الردع، ولأول مرة منذ وجود الكيان. تصل النيران عمق الاحتلال”.
للحقيقة وجهان بإدخال النار والصواريخ لانتفاضة الأقصى السلمية، بيد أن الصمت والبحث عن الحق من المنابر واللقاءات، لم يجد منذ 73 عاما.
سيكون الثمن مضاعفا على أهلنا، خاصة بغزة، بواقع الذل العربي والعهر الدولي، لكن التاريخ يسجل لحظات بطولية ويؤكد أن حق الشعب الثائر، لا يموت بالتقادم”.
بيد أن الذي رأيته، من حملة أغصان الزيتون بوجه الطائرات والمدافع الإسرائيلية، دعاة السلام والتفاوض واللجوء للمؤسسات الدولية، مع عدو لم يستكن أو يملّ من القتل وسرقة الأراضي، ولم يجنح لأي مقترح وحل، منذ عقود، دفعني، أو أثار نزقي للقول: ان استحوا يا أيها المتثاقفون، ليست العقلانية والدبلوماسية، طرائق ناجعة على الدوام، ولو حتى باستعطاف الجماهير وكسب رأي عام ونعتكم بالواعين الاستراتيجيين. فالتعاطي مع آخر الاحتلالات المباشرة بالعالم، يختلف عن التفاوض على خلاف حدود ولا يمكن إسقاط التحضير لحملة انتخابية عليه.
ولعلّ في استمرار بعض تلك الأصوات، ومن فلسطينيين خاصة، إنما يثير الاستغراب، وكأنهم يحصون عدد القتلى وتكاليف القصف الإسرائيلي، ليرجحوا وجهة نظرهم والتبجح بـ”ألم نقل لكم” وكأن الضحية التي تموت أو تشرّد ويهدم بيتها، هي المسؤولية عن الإجرام والقصف والموت.. وقبلهم الاحتلال.
قصارى القول: ربما الإحباط واللاجدوى وصولاً للقبول والإذعان، من أخطر الآثار التي كست العربي لدرجة اليقينية والتأصيل، خاصة بعد تفشيل ثورات الربيع العربي أخيراً، والقهر على فلسطين جراء ضياع الحق والتوسع الاحتلالي منذ سبعة عقود.
وكنا، كعرب عموماً وفلسطينيين على وجه الخصوص، بأمس الحاجة لكسر ذاك الزيف والخروج على حالة قبول الذل، التي بنوها حولنا وفينا عبر التراكم، فتقبلها بعضنا عبر “العين والمخرز” وانطلت على معظمنا من منطلق الواقعية والظروف الدولية والتأكد من عمالة جلّ الحكام. حتى جاءت الانتفاضة، بعد محاولات طرد سكان بيوت عرب بحي الشيخ جراح بالقدس، وامتدت كما هي الآن لجميع الأراضي الفلسطينية والمحتلة، فأعادت الأمل بالشعوب وتركت من النتائج، رغم أنها مستمرة، ما يمكن اعتبارها، مرحلة مختلفة لتشكيل وعي آخر وتعامل ونضال جديديّن.
فعلى الصعيد الفلسطيني مثلاً، ألغت انتفاضة الأقصى وما تبعها من دخول المقاومة بغزة ومن ثم مظاهرات الضفة، مقولة قطاع غزة والضفة الغربية وفلسطينيي الداخل “الخط الأخضر” وكأننا أمام دويلات أو كنتونات لا يربطها أي مشترك، ليقول المنتفضون “كل فلسطين” فالهم واحد والعدو والهدف مشترك.
وحققت الانتفاضة، من النتائج، ما يمكن وصفه بالأكثر من مهمة، إن على صعيد انتصار قضية الشيخ جراح وتأجيل المحكمة. وانتصار المسجد الأقصى بكسر الحصار وإلغاء المسيرة، وصولاً إلى تقوية موقف الساسة، بأن ثمة جيل فلسطيني جديد، يمتلك من القوة والتصميم، ما لا يمكن تجاوزه، وما عليكم سوى الاشتغال على تلك التضحيات، بالداخل والخارج، لدعم ومأسسة المواجهة على كل الصعد والميادين.
وأما على الصعيد العربي والإقليمي، فجاءت النتائج أكثر من مبهرة، وذلك على مستويين.
الأول، أعادت بث الأمل بالشعوب، حتى بالمحبطين الذين جرتهم تيارات الانهزامية، وما الخروج الفيزيائي ببعض الجوار، الخجل حتى اليوم، والهبة الإعلامية وعلى وسائل التواصل، إلا انتصار للذات، ربما بما يوازي الانتصار لقضية الشعب الفلسطيني.
وأما المستوى الآخر، فقد أعطت انتفاضة الفلسطينيين اليوم -بعد الاستجابة الشعبية العربية- للحكام صفعة، بأنكم وتطبيعكم إلى مزابل التاريخ، فحل قضايا الشعوب ليست بأيديكم ولا تنتهي عبر انبطاحكم وذلكم، فلكم دينكم ولنا دين.
كما حصدت انتفاضة الفلسطينيين ولم تزل وستستمر، نتائج على المستوى الدولي، بعد أن كانت القضية الفلسطينية مركونة أو مؤجلة، فرأينا مزيداً من تعرية إسرائيل وكشف زيف واحة الديمقراطية وأوهام السلام وحل الدولتين، إن بالهبات الشعبية أو بتبدل مواقف دول كبرى، بما فيها واشنطن التي تعتبر إسرائيل النجمة الواحد والخمسين بعلمها، وتؤثر الانحياز الحقير، بأكذوبة الدفاع عن النفس أو حتى بتأجيل جلسة مجلس الأمن، رغم زيادة القتلى المدنيين عن 150 فلسطينياً، علّ نتنياهو يخرج بانتصار ينزله من على الشجرة، ولو بسفك دم الأطفال أو اغتيال شخصيات مقاومة مؤثرة.
نهاية القول نقاط ثلاث: طول النفس والتصميم على سرقة كامل الأرض والحقوق والاستقواء الإسرائيلي، باستغلال التفوق العسكري والاقتصادي والكذب على التاريخ والتأييد الدولي، لا يمكن مواجهته بالانهزامية ولا حتى بالعقلانية والنظر فقط إلى الخسائر خلال مقاربة المواجهة.
فقضايا الشعوب العادلة تتطلب تضحيات، كما أن، وهي النقطة الثانية، خسائر إسرائيل لم يأت أحد على ذكرها، ابتداء من خسائر الاقتصاد وهروب المستثمرين من أرض لا يمكن أن تكون آمنة، مروراً بإنهاء حياة نتنياهو السياسية وإفهام من بعده، أن الشعب لم ولن يرضى بالهزيمة وإن أقرها الساسة ودفعت إليها دول الإقليم والمطبعون، وصولاً لعودة الشعور لكل من جلبوا من أصقاع العالم إلى فلسطين، أنهم بوطن محتل ولا يمكن أن يهنؤوا بالراحة والطمأنينة التي صورتها لهم المنظمات، لطالما حقوق الفلسطينيين مسلوبة.
وأما النقطة الثالثة، فهي محاولة اغتنام تضحية المنتفضين وعدم خيانة دم الشهداء، سواء للعمل على مظلة سياسية فلسطينية عامة، تلغي انقسامات الفصائل، واليقين أن إسرائيل كيان محتل ولا ينفع معه، إلا القوة والمواجهة، عسكرية كانت أو سياسية وثقافية واقتصادية، فمن يعتقد أن ما أخذ بالقوة يمكن استرداده بالنواح أو من على طاولات التفاوض والاستجداء، فيكون مغفلاً.. هذا إن لم يُشك بنواياه وانتمائه.
عدنان عبد الرزاق – زمان الوصل