بحثت دراسة نشرتها المجلة العلمية المفتوحة الخاصة بالجمعية الملكية في الصحة النفسية لدى العائلات اللاجئة السورية التي تعيش في المجتمعات التركية، فتوصل من خلالها الباحثون إلى نتيجة مفادها بأنه كلما زاد كرب ما بعد الصدمة لدى الأمهات ساءت قدرات التعامل مع الانفعالات لدى الأطفال، ما يشير إلى أن كرب ما بعد الصدمة لدى الأمهات يمكن أن يكون له أثر سلبي في التطور الإدراكي الاجتماعي لدى الأبناء.
إذ خلال العقد الماضي، نزح أكثر من 5.5 ملايين لاجئ من سوريا هرباً من الحرب الدائرة فيها، فخلقوا بذلك أكبر أزمة لجوء في العالم. وقد أشار الذين كتبوا تلك الدراسة وهم غوستاف غريديبيك وزملاؤه إلى أن المصاعب الشديدة التي واجهها اللاجئون خلفت لدى الكثير منهم أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة. وقد اهتم الباحثون بدراسة الطريقة التي يؤثر فيها اضطراب كرب ما بعد الصدمة لدى الآباء والأمهات من اللاجئين على التطور النفسي للأطفال اللاجئين، بعدما تبين بأن الضغوط التي يعاني منها الأبوان تخلف آثاراً سلبية على التطور الإدراكي الاجتماعي لدى الأطفال.
وحول ذلك يعلق غريديبيك وهو أستاذ علم النفس التنموي بجامعة أبسالا فيقول: “إن مآسي الحرب السورية والمصاعب التي عانى منها اللاجئون بسبب هذا النزاع تمثل بشيء يحمله كثير منا معه، إلا أنه لم يتضح لنا ما الذي بوسعنا فعله نحن بوصفنا باحثين، لذا تمثل هذه الدراسة أول محاولة للإسهام في هذا المجال”.
وفي الوقت الذي بحثت فيه الكثير من الدراسات في موضوع الصحة العقلية والنفسية لدى اللاجئين السوريين، يرى غريديبيك وفريقه بأن تلك الدراسات قد ركزت بشكل كبير على اللاجئين الذين يعيشون في مخيمات اللجوء أو في أوروبا. فقد تجاهلت الأبحاث التي أجريت في الوقت الحالي دراسة وضع من هاجروا إلى دول الجوار، إذ يمثل هؤلاء النسبة الأكبر من اللاجئين السوريين.
من خلال هذه الدراسة، درس الباحثون 100 عائلة لاجئة سورية تعيش في قونيا بتركيا، فشمل المجموع 174 بالغاً و220 طفلاً، حيث قام الكبار والصغار بسلسلة من المهام التجريبية في بيوتهم والتي تشمل مهمة معالجة الانفعالات، وتعتمد هذه المهمة على تقديم وجوه للمشاركين في الدراسة ثم يطلب منهم أن يحددوا الانفعالات التي يعبر عنها كل وجه: (غضب، خوف، فرح، حزن، أو حياد). كما قام الأهالي بملء استبيان خاص بهم يقيس التركيبة السكانية لديهم وتاريخهم مع الهجرة، وعوامل الخطر والبيئة الاجتماعية والتمييز وتاريخ الحوادث الصادمة التي عانوا منها. ويشتمل هذا الاستبيان أيضاً على تقييماً لكرب ما بعد الصدمة الذي يقيس نسبة وجود ذكريات مثيرة للقلق والرغبة بتجنب كل ما يذكّر المرء بحدث تسبب له بكرب شديد.
ثم أتت النتائج لتكشف عن شيوع اضطراب كرب ما بعد الصدمة بين الأهالي ووجوده بينهم بنسبة كبيرة، إذ بحسب النقاط الموجودة في الاستبيان الخاص بكرب ما بعد الصدمة تبين بأن 81% من الأمهات و71% من الآباء يحققون المعايير الخاصة بتشخيص اضطراب كرب ما بعد الصدمة.
بعد ذلك قام غريديبيك وزملاؤه من الباحثين بإجراء تحليل إحصائي لدراسة حالة التفاعل ما بين أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة لدى الأهالي والماضي الذي سبب صدمة لديهم، وطريقة معالجة الأبناء للانفعالات، فكشفت النتائج بأن نقاط معالجة الانفعالات لدى الأبناء مرتبطة بصورة سلبية بنقاط كرب ما بعد الصدمة لدى الأمهات، أي كلما زادت نسبة كرب ما بعد الصدمة لدى الأمهات تضعف لدى أبنائهن القدرة على معالجة الانفعالات، وهذا ما تبين أيضاً حتى بعد السيطرة على تاريخ الصدمة، الأمر الذي يشير إلى أن الأثر الذي تمت ملاحظته لا يعود سببه إلى تجربة الصدمة المشتركة التي عاشتها الأم والطفل.
ومن اللافت أنه كلما نقصت نقاط الأمهات اللواتي تبين بأن لديهن أعراض كرب ما بعد الصدمة وزادت نقاط القدرة على معالجة الانفعالات لدى أبنائهن بما يعادل سنة واحدة من النمو. وبالمقابل فإن أعراض كرب ما بعد الصدمة لدى الآباء لم تكن مرتبطة بشكل كبير بنقاط معالجة الانفعالات لدى الأبناء، ولعل ذلك يعود إلى أن الأمهات يلعبن دوراً يؤثر بشكل أكبر في تطور أبنائهن.
تجدر الإشارة إلى أن الدراسة كشفت أيضاً بأن أعراض كرب ما بعد الصدمة لدى الأمهات أو الآباء لم تؤثر في نقاط معالجتهم للانفعالات، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ذلك الأثر لا يعتمد على انتقال مهارات معالجة الانفعالات من الأم إلى أبنائها، بل يرى من ألفوا هذه الدراسة بأن تجربة الأمهات مع الصدمة تؤثر في صحتها النفسية والعقلية على الأرجح، مما يؤثر بالتالي في قدرتها على”تربية ودعم” أبنائها.
ثمة طريقة لحماية الأبناء من الأثر السلبي لضعف الصحة النفسية لدى الأمهات، وتتمثل هذه الطريقة التي يقترحها الباحثون بمعالجة أعراض كرب ما بعد الصدمة لدى الأمهات بشكل مباشر. وبالمقابل، ثمة ما يفيد بصورة أكبر وهو تقديم الدعم للأمهات (سواء على المستوى المالي أو عبر برامج دعم الأهالي) وذلك لتحسين حياتهن وبالتالي حياة أولادهن.
ويعلق الباحث غريديبيك على ذلك بقوله: “يتأثر الأطفال الذين عاشوا الحرب واللجوء بصحة أمهاتهم النفسية، لذا يمكن لدعم الأمهات أن يحسن صحتهن وكذلك التطور النفسي لدى أولادهن”.
وأكد الباحثون على أن ضرورة إجراء دراسات مطولة لتسليط الضوء على تراجع كرب ما بعد الصدمة لدى الأمهات وهل يعقبه تطور في معالجة الانفعالات لدى أبنائهن أم لا.
ويشرح غريديبيك هذه الفكرة بقوله: “إن هذه الدراسة مترابطة لكنها تعتبر مجرد خطوة أولى.. إننا نقوم حالياً بتحليل الآثار المشابهة على الأجيال وإمكانية ظهورها مع نواح أخرى للتطور الإدراكي لدى الأطفال، مثل الذكاء والانضباط الذاتي، وبمجرد أن يتم ذلك، سنسعى للحصول على تمويل لإجراء دراسات تداخلية تتيح لنا تقييم العلاقات السببية إلى جانب تقييم أساليب مختلفة لدعم العائلات المحتاجة… ثم إننا نخطط حالياً لإجراء دراسات لتقييم العلاقة بين الصحة العقلية لدى الأهالي وتطور الأطفال في عدة دول مختلفة (بوتان، والسويد، وتركيا، وزيمبابوي)، وعلاقة كل ذلك بالحرب والفقر والتوسع الحضري.. وقد تم التخطيط لهذا العمل وإجراؤه بالتعاون مع متعاونين محليين في كل دولة من تلك الدول، وقد اكتشفت بأن هذا العمل من أكثر الأعمال المحفزة التي شاركت بها، كونه أجبرني (وأجبرنا نحن الذين نعمل في المخبر) على التشكيك في بعض الفرضيات الأساسية حول تطور الطفل. إذ هنالك الكثير من الأمور التي لابد من تعلمها من خلال التنوع والنظريات التي ظهرت ضمن إطار مرجعي ثقافي مختلف عما اعتدت عليه في الماضي”.
يذكر أن الدراسة المعنونة بـ: “الإدراك الاجتماعي لدى الأطفال اللاجئين: دراسة تجريبية تشمل عدة قطاعات حول معالجة الانفعالات لدى العائلات السورية في المجتمعات التركية” قد ألفها كل من غوستاف غريديبيك وسارة هاس، وجوناثان هول، وسيث بولاك، ودوغوكان كانسين كراكوس وماركوس ليندزكوغ.
المصدر: بسايبوست