تقف النساء في الوسط بين رغبتهنَّ بالتحرر من السلطة الذكورية وكسب حريتهن، وبين الخوف من هذه الحرية والعوائق التي تشدّهن للتراجع والخضوع حفاظاً على أمانهن، هل النساء غير قادرات على عيش تجربتهنَّ الفردية باتساق مع العالم، والتعبير بشكل أصيل عن قدراتهنَّ العاطفية والعقلية؟ وإن هيأت لهنَّ الظروف لماذا يبقين غير قادرات على الذهاب للأقصى في تجربتهنَّ الخاصة والعيش دون مخاوف أو نكوص؟
محاولات وعوائق
«لحريتنا حدود لا يمكننا تجاوزها، كلما فكرت بأنني أكثر حرية وتوازناً مع العالم من حولي، اكتشف بأن هناك بعض القيود التي لاتزال عالقة بداخلي، تشدني إلى عالم الخضوع والخوف».
“رغد سليم”(اسم مستعار)، في السنة الأخيرة من كلية الهندسة المعمارية، عاشت بعيدة عن عائلتها طوال فترة دراستها، محاولة التخلص من قيود المجتمع والعائلة وعيش تجربتها الخاصة، وبعد انتهاء فترة دراستها قررت شق طريق مختلف في محاولة منها لتعلم فنون الأداء والربط بين هذه الفنون والعمارة، تتابع: «كان علي أن أقاوم كثيراً لأحصل على ما أريد، فضمن مفهوم عائلتي شهادة الهندسة والوظيفة بعدها هي حدودي، حاولت الخروج عن هذه الحدود ونجحت، لكن الخوف لا يفارقني، خوف من فشلي أمامهم خوف من نمط الحياة الذي أعيشه والذي لا يمكنني المجاهرة به، أفكاري وعلاقتي بالآخرين أشياء تمثلني وأؤمن بها، لكن علي أن أخفيها عنهم طوال الوقت».
يمكن للكثير من الفتيات العيش باستقلالية بعيداً عن عوائلهنَّ و الوسط الذي تربين فيه، لكن يبقى ذلك الاستقلال مشروطاً ضمن مبادئ وحدود على الفتاة أن لا تتجاوزها، فسلوكياتها وتصرفاتها لا تخصها وحدها، بل هناك من يراقب كل تفضيل تعيشه ليلتقط ثغرة “ضمن المفهوم المجتمعي” ويستخدمها ضدها، حتى وإن استطاعت الفتاة التحرر من تبعيتها يبقى هذا المراقب يعيش بداخلها تخاف أحكامه وردود أفعاله على كل ما تقوم به دون شعور منها، ويتحول من معيق خارجي إلى داخلي أيضاً يقف في طريق صفاء ذهنها و طموحها.
تضيف “رغد”: «في الحقيقة لسنا قادرات على الحرية، ما نعيشه هو محاولات للفكاك من عبوديتنا وتبعيتنا للرجال، أما الحرية فهي حلم جميل، حتى وإن كان مظهرنا يدل على حالة من الحرية فالعمق مناقض لذلك».
التربية ودورها
يتشكل وعي الفتاة بذاتها وبالعالم من حولها منذ سنواتها الأولى، تترتب على ذلك حياة كاملة، إما أن تكون متوازنة وناجحة أو متسمة بالتبعية والانكفاء على الذات، “لمى رشيد” (اسم مستعار) تدرس في كلية الاقتصاد في السنة الثانية، تقول: «يمكنني أن أعيش حياتي بحرية ودون خوف في حالة واحدة، أن يكون هناك رجل داعم لي أب أو أخ، نحتاج كثيراً نحن النساء لاعتراف الرجال المقربين منا بحقنا في الحرية والعيش كما نريد، لن أخاف عندها من أحكام المجتمع ونظرته، وستكون جميع تصرفاتي مبنية على ثقة بأن هناك من يسندني حتى لو أخطأت».
تبقى المرأة أسيرة الخوف من الرجال، والذين اعتادت منذ صغرها أن تتبع آرائهم وقراراتهم في معظم الأحيان تصبح عاجزة عن التفكير بحياتها بشكل سليم والاستقلال فكرياً ومادياً عنهم، حتى وإن أرادت ذلك فهي تفعله وفق منطقهم ورؤيتهم و عندما تقرر التحرر من قيودهم، تصبح أمام خيارين إما مواجهة العالم كذاتية منفصلة وتحمل جميع الضغوط التي ترافق ذلك من قبل مجتمعها وعائلتها، وغالباً ما ينتهي ذلك بشعور العجز والوحدة، أو الكف عن الحرية والهروب من المتاعب بتحقيق الذات من خلال الآخر تجنباً للخطر وانعدام الأمان، وعندها تتحول حياتها إلى أفعال آلية تفتقد الحيوية والرغبة.
المرأة عبدة لذاتها
يمكننا الآن في المجتمع السوري، وخاصةً بعد الحرب، رصد الكثير من الحالات التي خرجت فيها الفتيات عن الأعراف والعادات العامة، وحاولن العيش بطريقة تتناسب مع أفكارهنَّ والانفتاح العالمي الحاصل مؤخراً، يبدو من سلوكيات تلك الفتيات خاصة في مظهرهنَّ وحياتهنَّ في الفضاء العام بأنهنَّ متوازنات قادرات على اتخاذ قراراتهنَّ بسهولة ومستقلات مادياً ومعنوياً، لكن الحقيقة مخالفة لذلك هاته الفتيات أنفسهنَّ يصارعن خوفاً من مستقبلهنَّ مع نمط الحياة هذا حريتهنَّ ليست عميقة وأصيلة كفاية لتكسبهنَّ الثقة بتجربتهنَّ والأمان الذي يحتجنه في الحياة، “مرح عمار” (اسم مستعار)، طالبة في كلية الآداب، تقول: «أسعى بشكل متواصل لأكون قوية وقادرة على إدارة حياتي والتحكم بها، أدرب نفسي على الصلابة والمواجهة، لكن في بعض الأحيان يراودني شعور بالتعب وبأنني بحاجة لرجل يساندني، وعند تفكيري بذلك تصبح كل طموحاتي وما أرغب بفعله بلا معنى، أحتاج الأمان فقط والإحساس بأن هناك من يقدر ما أفعله ويعجب به، وفي الحقيقة بسبب تمردي على الواقع لا أستطيع التفاهم مع الرجال».
يصبح الأمر في مجتمع لا يتقبل حرية المرأة ووجودها أكثر تعقيداً فحاجتها للجنس الآخر طبيعية، وبذات الوقت تلك الحاجة تعيدها خاضعة له دون رغبة منها، فوجود الرجل مرتبط بالتبعية له وتحقيق النساء لذواتهنَّ من خلاله، أشياء تتربى عليها الفتاة وفي سعيها لتحقيق ذاتها ككيان مستقل، تتفاجأ بحاجتها للرجل دون إرادة منها، ويصبح ذلك موضوع صراع داخلي، فليس من الممكن نفي وجوده من حياتها بشكل كامل وبنفس الوقت حاجتها له تشعرها بالخضوع، وهنا تصبح المرأة عبدة لرغبات ومشاعر داخلها لا يمكنها فهمها أو التحكم بها.
تتابع “مرح”: «أفكاري ليست ملكي، إنها نتاج تربية وعادات مجتمع كامل، جسدي ليس ملكي لا يمكنني أن أتصرف به كما أشاء، وإن فعلت أصبح مذنبة وخائفة، مشاعري تنقلب علي وتجعلني فتاة ضعيفة، مواجهة هذا المجتمع متعبة للنساء».
عيش النساء بحرية مشروط بحرية فكر مجتمع بأكمله بما يخصهن، لا يمكن لهنَّ أن يفعلن ذلك دون قبول ودعم وإلا سيبقين خائفات، يتصنعن حرية مزيفة ويتراجعن عند أول عائق ويكملن حياتهنَّ بما يناسب رغبات الآخرين، الحرية لا يمكن أن تتجزأ، فحرية إنسان واحد هي من حرية الآخرين، هي شيء يعطى ويؤخذ لكن لا يمكن فرضه أو رفضه وتحويل حياة أحد إلى أفعال إجبارية، هذا ما جعل النساء عبر التاريخ يعشن الحياة كمتفرجات وينسحبن خائفات بمجرد اقتراب الضوء منهن.
ربا أحمد _ الحل نت