لم يكن خبر تبديل المناصب، أو “الطرابيش” بحسب وصف أحد الكتّاب في مقالة قرأتها الأسبوع الفائت، بين الحريري والعبدة مفاجئاً عند كثير من مواقع الإعلام ومن السياسيين ومتابعي “معمعة” هيئة التفاوض التي حصلت عقب انتهاء ولاية الحريري الثانية والأخيرة دون تسليم الصلاحيات لأحد الأعضاء أو إجراء انتخابات جديدة، كان من المفترض أن تجري منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
وزاد الطين بلّة بعد قيام المملكة العربية السعودية باستضافة مجموعة المستقلين السوريين لضمّ بعضهم إلى الهيئة في ديسمبر الماضي، فكانت تلك الخطوة على ما يبدو سبباً آخر للحريري لتمديد فترة تربعه على كرسي الهيئة نظراً لاستهجانه الموقف السعودي ورفضه له.
على أية حال، بدأت عملية التبادل بين الاثنين بعد إعلان الحريري “تنحيه” عن رئاسة الهيئة في 13 حزيران/يونيو الماضي، وسط نشر غالبية المواقع والصفحات خبراً أشبه باليقين، مضمونه يقول إن البديل هو أنس العبدة حصراً، وعبر آلية التزكية بالذات لا الانتخاب أو التصويت!
بالنسبة لي شخصياً، لا مانع لديّ من نيل أيّ منهما رئاسة إحدى المؤسستين أو حتى كليهما، بل وقيادة جميع السوريين في الداخل والخارج؛ ولا شكّ لديّ في إمكاناتهما الفردية، سياسياً وديبلوماسياً، ولن أتبنّى فرضية حصول اتفاق سرّي بينهما على مبدأ “حكّلي لحكّلك” كما فعل بعضهم. ولن أشكّ للحظة في نزاهتهما، ولا يحقّ لي أيضاً اتّهام أيّ منهما بفساد مالي أو إداري أو أخلاقي بدون توفّر دلائل وقرائن وثبوتيات على ذلك.
ولكن أكثر ما يصدم في الحقيقة يتمثّل في تعارض هذا السلوك بالمطلق مع أهم مبدأ من مبادئ الثورة السورية التي أفرزت هاتين المؤسستين أصلاً.. مبدأٌ تحوَّلَ ليغدو من أعتق وأثمن هتافات الثورة، وأحّد أهم مسلماتها: “مافي للأبد.. مافي للأبد”.
كان يفترض بالعبدة والحريري، احتراماً لهذا المبدأ وللشعب السوري الذي تبنّاه، أن ينأيا بنفسيهما ولو مؤقتاً عن هذه المناصب، كي لا يقدّما للأسد ومواليه هديّة ثمينة على طبق من دماء، ولكي يقطعا عليهم محاولات الدفاع عن النظام على الأقل بذريعة الشبه بين السلوكين: التشبّث بالسلطة واستبدادية الكرسي.
يا سادة، هل خطر ببالكما يوماً أن تقرأا كتاب محمد أبي سمرا “موت الأبد السوري”؟ لا أظن ذلك.
والحال، ولكي لا أبتعد كثيراً عن الفكرة المراد طرحها، فربما لن تسعفني التوصيفات مهما أطلتها وتبحّرت في معانيها لأَفي هذين “القائدين” الاستثنائيين حقهما؛ تحضرني قصة عراقية قديمة كان يرويها لي ولإخوتي والدي رحمه الله، كلما أجرى النظام تغييراً لمحافظٍ أو لأمين فرع حزبٍ في مدينتي، دير الزور، وكنت كلما سمعتها أشعر بأني أسمعها لأول مرة.
هذه القصة مرتبطة بمثل شعبي يردده عموم أبناء منطقتنا بعد تحريفه، وبدون معرفة أصل قصته ومعانيها، والمثل هو “خوجة علي علي خوجة”، إلا أنّ كلمات المثل الصحيحة تقول “خوجة علي، ملا علي”.
فما هي قصة هذا المثل، وما علاقة العبدة والحريري به؟
هذا يا طويلي العمر، حين لم تكن مدارس في الريف العراقي وبعض المدن أيضاً قبل عشرات السنين، كان يشرف على تدريس القراءة والكتابة للصبيان الذكور رجل يطلق عليه لقب “الملّا” في مكان يطلق عليه (الكُتّاب).
في إحدى البلدات راح الأهالي يبحثون عن معلّم لتعليم أبنائهم، فلم يجدوا سوى معلم إيراني يعرف العربية بلسان فارسي، واسمه علي.
كان علي يرتدي ملابس خاصه تختلف عن ملابس أهل البلدة، ولهذا أخذوا ينادونه خواجة علي (وخواجة أو خوجة بالفارسية والتركية تعني معلّم، كما راحت تطلق أيضاً على الرجل الغربي في بعض لهجات المدن العربية).
أخذ خواجة علي يعلم أبناء البلدة القراءة والكتابة لقاء أجر يجمعونه من ذوي الطلاب. وبمرور الوقت اعتاد الناس على تسميته (خوجة علي) وراح هذا الخوجة يزيد من مطالبه على الدوام ويرفع أجور الطلاب لقاء تعليمهم، وشيئاً فشيئاً راح يسيء الأدب، وإلى جانب ذلك أخذت لكنته الفارسية تؤثر على ألفاظه العربية. وفي نهاية المطاف اشتكى منه الطلاب كثيراً ما دفع الأهالي لعزله وطرده.
وبعد بحث طويل ومضنٍ عن آخر، عثر الأهالي على معلم جديد، وهو “ملّا” كان يعلّم في مدينة قريبة. وكانت الصدفة أن اسمه “الملّا علي”. واتفق الأهالي مع الملّا على أجر مقابل تعليم أبنائهم 3 أيام في الأسبوع.
وبمرور الزمن أخذ الملّا علي يتصرف مثل سلفه في مسألة زيادة الأجر والتعالي، بل وراح يقلّص أيام الدوام الثلاثة ويغيب عنها.
ولكن الملّا، ونتيجة علمه بفراغ البلدة من المعلمين، وبقصة طرد الخوجة قبله، وبحاجة الأهالي لمعلّم يدرّس أولادهم، راح يهدد بترك العمل في حال لم يرضخ الأهالي لمطالبه.
ولصعوبة وجود معلم بديل، رضخ الأهالي مرغمين لتلبية مطالبه وتحمّله، والرضى بواقع الحال المفروض عليهم بحيث صاروا يسلّمون بأن أي بديل آخر، في حال تأمينه، سيكون أسوأ من سابقيه.
ومن هنا راحوا يرددون المثل: “خوجة علي.. ملا علي”.
الكاتب: أحمد طلب الناصر/ نينار برس