لا يعرف نحو 60% من السوريين من أين ستأتي وجبتهم التالية، وفق تقديرات الأمم المتحدة. وتؤكد تقارير اقتصادية بحثية أن قدرة سوريا على إطعام نفسها تختفي بسرعة، وهذا واضح في تفاقم انعدام الأمن الغذائي.
وفي غياب التحركات الفورية، تظهر مؤشرات على مجاعة وشيكة في سوريا، أبرز علاماتها الجفاف وأثره على إنتاج الحبوب، وانعدام الأمن الغذائي غير المسبوق، وتراجع تمويل المساعدات الإنسانية، وفق بحث صادر عن مركز “السياسات وبحوث العمليات”.
وخلال الأيام القليلة الماضية، جمعت مشاهد الطوابير أمام الأفران للحصول على الخبز “المدعوم” في مختلف الجغرافيا السورية على اختلاف الجهات التي تسيطر عليها، السوريين في إطار يلخّص حجم الحاجات الإنسانية والغذائية بعد نحو عشر سنوات من الحرب.
في هذا الملف، تسلّط عنب بلدي الضوء على أزمة الخبز في ثلاث مناطق سورية تديرها ثلاث جهات سيطرة مختلفة، وتبحث مع مسؤولين طرق دعم الخبز والمشكلات التي تواجه تأمين الطحين والقمح.
“الإنقاذ” تخلف وعودها وترفع أسعار الخبز
لم تمنع مشاهد تدافع الأهالي أمام الفرن “الآلي” في سرمدا شمالي إدلب للحصول على الخبز “المدعوم”، والوعود التي كانت قد أطلقتها حكومة “الإنقاذ” العاملة في مدينة إدلب وأجزاء من ريف الغربي، في تشرين الثاني الماضي، حول تثبيت سعر ربطة الخبز، شركة المخابز التابعة للحكومة من رفع سعر الربطة مع الانخفاض الجديد لليرة التركية، العملة الرئيسة في التعاملات التجارية بالمنطقة.
في تركيا، تجاوز سعر صرف الدولار الأمريكي 16 ليرة تركية، ليبلغ سعر ربطة الخبز في الشمال السوري، حيث تسيطر حكومة “الإنقاذ”، خمس ليرات للربطة الواحدة التي تحتوي على ثمانية أرغفة بوزن 650 غرامًا، بدءًا من 17 من كانون الأول الحالي.
تسارعت وتيرة انخفاض الليرة التركية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، ما انعكس على زيادة أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية في الشمال السوري وأبرزها الخبز والمحروقات.
حرّكت هذه الارتفاعات في الأسعار مظاهرة شعبية ضد حكومة “الإنقاذ” في تشرين الأول الماضي، واحتج الأهالي في إدلب على سياساتها في الدعم، إذ تشهد المنطقة بوادر “انهيار اقتصادي” بالتزامن مع ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية، وزيادة ملحوظة في معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية للمدنيين، بحسب بيان لفريق “منسقو استجابة سوريا”.
وفي 23 من تشرين الثاني الماضي، عقد “مجلس الشورى العام” في إدلب اجتماعًا مع وزارة الاقتصاد في حكومة “الإنقاذ”، بحضور القائد العام لـ”هيئة تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، ليقرر الحاضرون دعم الحكومة مادة الخبز بمبلغ (ليس محددًا لكن يُعتقد أنه قريب من ثلاثة ملايين دولار) لدعم الأفران الحكومية، والأفران العاملة في المنطقة، ويشمل الدعم من 35 إلى 40 فرنًا، وتحديد سعر ربطة الخبز بـ2.5 ليرة تركية بوزن 600 غرام، إلى حين انتهاء “الأزمة الاقتصادية”.
ومنذ إعلان هذا القرار، وصل عدد المناطق المشمولة بدعم الخبز من “الإنقاذ” إلى 58 منطقة في الشمال السوري، 35 منطقة منها في إدلب، و13 في ريف حلب، وعشر مناطق على الحدود مع تركيا.
ما حجم الدعم؟
تدعم حكومة “الإنقاذ” الأفران العاملة في المنطقة عن طريق تقديم الطحين وفق المنحى المقدم من قيادة المنطقة، وفق مدير العلاقات العامة في وزارة الاقتصاد والموارد، حمدو الجاسم.
وتعمل “المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب” التابعة للحكومة على توزيع المحروقات على الأفران بسعر مخفّض لتقليل تكاليف إنتاج الخبز قدر الإمكان، بحسب موقع الحكومة، في 11 من تشرين الأول الماضي.
تتمثل أبرز المشكلات التي تواجه إنتاج الخبز في الشمال السوري بارتفاع سعر الطحين المستورد وانخفاض قيمة الليرة التركية، بحسب ما قاله الجاسم لعنب بلدي، إذ إن 90% من الطحين مستورد من تركيا، ولا يجري شراء أو توريد القمح أو الطحين من أي جهة كانت، بما فيها مناطق سيطرة النظام السوري أو مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا.
ويبلغ عدد الأفران الخاصة العاملة في المنطقة 160 فرنًا، بحسب الجاسم.
كما تشتري “المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب” في إدلب القمح من الفلاحين، ثم تفرزه بعد فحصه إلى أربعة أصناف، إذ حددت وزارة الاقتصاد سعر الصنف الأول بـ330 دولارًا أمريكيًا للطن الواحد، والثاني بـ326، والثالث بـ321، والرابع بـ321 دولارًا أمريكيًا.
ويُحسم نصف دولار من ثمن كل طن لكل درجة شوائب فوق 10%، بحسب تصريحات لمدير الخزن والتسويق في المؤسسة، حسن عثمان، لصحيفة “نبض المحرر” في 25 من حزيران الماضي.
وقال عثمان، إن المؤسسة تضع القمح في الصوامع المجهزة مسبقًا، ويُحفظ بدرجة حرارة مناسبة، مع توفير التهوية اللازمة له، ثم يُرسل إلى المطاحن.
ولم تعلّق حكومة “الإنقاذ” على سؤال عنب بلدي حول كمية الطحين المنتَج محليًا في الشمال السوري، لكنها أكدت أن القمح المتوفر لديها إنتاج محلي، ويُزرع من قبل الفلاحين، وأبرز المشكلات التي تواجه إنتاجه قلة المساحات الزراعية القابلة للزراعة.
تحركات محدودة للمجتمع المدني
انتقاد ارتفاع الأسعار لم يُوجّه إلى حكومة “الإنقاذ” فقط، بل طال منظمات المجتمع المدني العاملة في الشمال، والتي تؤمّن الخبز للمحتاجين أو تدعم إنتاجه.
وظهرت تحركات ومشاريع محدودة لبعض المنظمات بما يخص أزمة الخبز، ومنها فريق “ملهم التطوعي” الذي نفذ عدة مشاريع لتوزيع الخبز المجاني على العائلات النازحة في إدلب.
كثّف الفريق العمل على مشاريع توزيع الخبز المجاني المعتمدة منذ أكثر من عامين لمواجهة غلاء الخبز وتخفيض وزنه، ولتقليل العبء على النازحين الفقراء، وفق ما قاله منسق الحملات في الفريق، محمد الشيخ، لعنب بلدي.
وشملت مشاريع الفريق في توزيع الخبز المجاني العديد من المخيمات والتجمعات، ووصل عدد المستفيدين إلى 950 مستفيدًا، تُوزع أكياس الخبز عليهم وفق عدد أفراد الأسرة، وبالتالي فإن هذا العدد مكتفٍ من مادة الخبز بشكل كامل، وفق تعبيره.
ويرى الشيخ أن مشروع دعم الأفران لا شك سيكون الحل الأفضل، وخطوة مهمة في طريق حل مشكلة غلاء الخبز، ولكن الفرق التطوعية غير قادرة على مثل هذا الإجراء نظرًا إلى غلاء أسعار الطحين والحاجة الكبيرة.
وكان لجمعية “عطاء” الخيرية أيضًا حضور محدود بتأمين الخبز المجاني للنازحين من خلال إطلاق قافلة “دفء القلوب الرحيمة” الأولى.
تحتوي القافلة على 150 طنًا من الطحين سيتم تحويلها إلى خبز وتوزيعها على النازحين بشكل مجاني، وفق ما قاله مسؤول التواصل في الجمعية، محمد كرنيبو، لعنب بلدي، وهذه الحملة ستتبعها حملات أخرى.
ست مشكلات تواجه إنتاج الخبز في مناطق سيطرة “المؤقتة”
بالتزامن مع الانخفاض المتواصل لليرة التركية وتخطيها حاجز 16 ليرة للدولار الواحد، أعلن المجلس المحلي في اعزاز والذي يدير المنطقة بالتعاون مع “الحكومة السورية المؤقتة”، بيع ربطة الخبز “المدعوم” بوزن 800 غرام بسعر ليرتين تركيتين، بدءًا من 18 من كانون الأول الحالي.
هذا القرار من المجلس المحلي تلحقه عادة خطوات مماثلة من كل المجالس المحلية في المنطقة، والتي تدار بدعم تركي.
أرجع المجلس قراره بزيادة سعر الربطة بعد أن كانت تُباع بليرة تركية واحدة إلى “ضرورة المصلحة العامة وحسن سير العمل”، مؤكدًا في بيان صادر في 16 من كانون الأول الحالي، أن هذا هو سعر التكلفة.
مشكلات تواجه الإنتاج
يرى مدير عام المخابز في “مؤسسة الحبوب” التابعة لـ”الحكومة المؤقتة”، علي العبيد، أن أبرز المشكلات التي تواجه قطاع الخبز في الشمال السوري، هي غياب التنسيق الكامل بين الجهات التي تعمل في مجال الخبز (المجالس المحلية، مؤسسة الحبوب، المخابز الخاصة).
وقال العبيد، في حديث إلى عنب بلدي، إن المشكلات تشمل غياب الجهة الرقابية المختصة وصاحبة القدرة على ضبط الجودة والسعر، والاعتماد على دقيق الإغاثة بنسبة 70% تقريبًا والتسعير على أساسه، والإشكاليات في التوفر والسعر التي تبدأ عند انقطاعه.
كما تشمل عدم ضبط تجار الخبز بشكل كامل، ما يؤدي إلى استحواذهم على كميات كبيرة من الخبز “المدعوم” وبيعه في الأسواق بأسعار مرتفعة، بالإضافة إلى الاتجار بالدقيق، وعدم خبز كامل كميات الدقيق المتسلّمة.
ويعد ارتفاع التكلفة من أبرز المشكلات التي تواجه إنتاج الخبز في المناطق التي تديرها “الحكومة السورية المؤقتة” شمالي سوريا، بحسب وزير الاقتصاد في الحكومة، عبد الحكيم المصري.
حجم الدعم
تبلغ تكلفة إنتاج ربطة الخبز حوالي ثلاث ليرات تركية، تبيعها الحكومة بليرة تركية واحدة للمواطنين، بحسب ما قاله الوزير في حديث إلى عنب بلدي، إذ تبلغ تكلفة طن القمح حوالي 450 دولارًا، وتبيعه الحكومة بـ240 دولارًا للأفران التي تشرف عليها المجالس المحلية حصرًا ومن خلالها، لمنع المتاجرة بالطحين، والفرق بين السعرين دعم.
ولا توجد مشكلة بالطاقة الإنتاجية للأفران في أي منطقة، إذ تعمل بكامل طاقتها الآن لتخفيف أزمة الخبز عند المواطنين، إذ لا توقف عن العمل في أيام الجمعة أو في أي يوم آخر، بحسب الوزير.
وأوضح المصري أن ربطة الخبز بوزن 700 غرام كانت تُباع بليرة، ونتيجة للخسائر الكبيرة والخوف من عدم استمرارية عمل “المؤسسة العامة للحبوب”، صارت تُباع الربطة بوزن 600 غرام بليرة تركية، مشيرًا إلى أن البيع بهذا الوزن والسعر مستمر ما دام سعر صرف الدولار أقل من 14.60 ليرة تركية.
ويبلغ عدد المخابز التي تستجرّ الطحين من مطاحن المؤسسة 103 مخابز، أنتجت خلال تشرين الثاني الماضي 550 ألف ربطة خبز بوزن 700 غرام.
ويوجد ثلاثة أنواع من المخابز، بحسب المصري، القسم الأول، ثلاثة مخابز تديرها “المؤسسة العامة للحبوب” بشكل مباشر، ومخبزان تخطط لتركيبهما خلال سنة بطاقة نحو 40 طن طحين، لإنتاج ما يقرب من 45 طن خبز، أي 70 ألف ربطة بوزن 600 غرام.
والقسم الثاني، مخابز “مدعومة” تديرها المجالس المحلية بشكل مباشر، تشتري الطحين من الحكومة أو تستجرّه عبر المنظمات.
أما القسم الثالث وهو القطاع الخاص، فيتمثل في أفران تشتري الطحين “الحر” وتبيع الخبز “السياحي”.
من جانبه، أوضح مدير المخابز، علي العبيد، أن “المؤسسة العامة للحبوب” توزع الدقيق لجميع مخابز منطقة “درع الفرات” العامة والخاصة بالسعر “المدعوم” (نسبة الدعم للسعر حاليًا تزيد على 60%)، وذلك وفق طاقة المطاحن التابعة للمؤسسة، وبالتنسيق مع المجالس المحلية لتحديد مخصصات كل مخبز بحيث يستكمل الدقيق المتسلّم من قبل منظمة “آفاد” التركية.
كما توزع المؤسسة الخبز “المدعوم” من خلال مخابزها الموجودة في أخترين وبزاعة والغندورة، حيث يتم توزيع الخبز “المدعوم” بنسبة تصل إلى أكثر من 75% (دعم السعر)، والطاقة الإنتاجية لمخابز المؤسسة تقارب 45 ألف ربطة خبز يوميًا تخدم ما يزيد على 125 ألف نسمة.
ماذا عن إنتاج القمح
تؤمّن “الحكومة المؤقتة” القمح عن طريق “المؤسسة العامة للحبوب”، وتشتري القمح المحلي من المزارعين بشكل مباشر، وفي بعض الأحيان تحصل على قمح مستورد تقدمه بعض المنظمات.
ولا يوجد الآن قمح كافٍ في منطقتي اعزاز وجرابلس بريف حلب، كما لم يكن هناك إنتاج للقمح على الإطلاق العام الماضي في منطقة رأس العين، شمال غربي الحسكة، التي تُعتبر خزان القمح في سوريا، بينما كان الإنتاج في تل أبيض شمالي الرقة مقبولًا إلى حد ما، وفقًا للوزير الذي أوضح أن الحكومة اشترت قمحًا من تل أبيض وتنقله إلى مناطق ريف حلب الشمالي.
ويختلف إنتاج القمح بحسب الجو، ولم يتجاوز إنتاج القمح العام الماضي في كل المناطق بما فيها شرق وغرب الفرات 100 ألف طن، وفقًا لما قاله الوزير، ولذلك ارتفعت الأسعار.
وتعد أبرز مشكلات الإنتاج عدم توفر المياه، إذ يحتاج القمح إلى المطر، والمساحات المروية أصبحت قليلة وغير كافية الآن، والآبار جفّت، ويعاني الفلاحون الذين يعتمدون على الري من ارتفاع سعر الوقود، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المبيدات، ومع ذلك فإن سعر القمح مناسب للفلاح، بحسب المصري.
ويعطي كل 1282 كيلوغرامًا تقريبًا من القمح طن طحين، تبلغ تكلفة إنتاجه حوالي 500 دولار أو أقل بقليل، إذ تشتري الحكومة طن القمح من الفلاحين بسعر 375 دولارًا، بينما يبلغ سعره 425 دولارًا إذا كان مستوردًا، والتكلفة الكاملة تشمل المازوت وأجور اليد العاملة والنقل والصيانة وتكاليف أخرى.
وتعمل أربع مطاحن، ثلاث ثابتة وواحدة متنقلة، تابعة لـ”المؤسسة العامة للحبوب” بطاقة إنتاجية تبلغ 150 إلى 160 طنًا.
وأما بذار القمح فلها ثلاثة مصادر، وفق ما أوضحه المصري، المصدر الأول هو الفلاح نفسه الذي يؤمّن بذاره من محصوله، والمصدر الثاني هو “الحكومة المؤقتة”، إذ تبيعه عبر “المؤسسة العامة للبذار” إلى الفلاحين، والثالث الاستيراد عبر تركيا.
مناطق سيطرة النظام..
تأمين “كفاية” القمح.. والإنتاج غير مرضٍ
تواجه مناطق سيطرة النظام السوري أزمة حادة في تأمين مادة القمح، إحدى أبرز المواد التي تدخل في أساسيات النظام الغذائي للسوريين، من خلال دورها في صناعة مادة الخبز.
وأمام هذه المشكلة المتصاعدة والتي أوقفت السوريين في طوابير طويلة من الانتظار على أبواب الأفران، اتجهت حكومة النظام للتعامل مع القضية وفق عدة مسارات، كشراء مادة القمح من الفلاحين، إلى جانب توقيع عقود استيراد مع روسيا والجبل الأسود لاستيراد القمح، بعضها على شكل مساعدات.
لكن شراء القمح من الفلاحين محفوف ببعض المشكلات والإشكاليات التي تتعلّق بنقص في إنتاج المادة أصلًا، وفق ما ذكره “اتحاد الفلاحين” في سوريا، إذا أعرب عن تخوّفه من تأثر محصول القمح بشكل سلبي خلال موسم العام الحالي، باعتبار أن قسمًا كبيرًا من إنتاج المادة يعتمد على السقاية، خاصة المساحات المروية، ما يهدد بتأثير سلبي في حال عدم كفاية الهطولات المطرية للمساحات المزروعة، إلى جانب عدم توفر المازوت.
“مغريات” للفلاحين
لدفع الفلاحين نحو تسليم منتج القمح لديهم، أصدرت حكومة النظام، في آذار الماضي، قرارًا برفع سعر المحصول المسلّم من الفلاحين من 550 ليرة إلى 900 ليرة للكيلوغرام الواحد.
هذه الأرقام التي لا تتماشى مع المتغيرات الاقتصادية والظروف المعيشية التي يمر بها السوريون، بمن فيهم الفلاحون في مناطق سيطرة النظام، قابلها قرار وزير الزراعة في حكومة النظام، محمد حسان قطنا، برفع سعر كيلوغرام القمح الذي سيسلّمه الفلاحون في الموسم المقبل من 900 ليرة إلى 1500 ليرة.
هذه الخطوة برّرها قطنا بأنها جاءت بهدف “تمكين الفلاحين من تجهيز أراضيهم”.
وفي أيار الماضي، أشار قطنا إلى عدم كفاية محصول القمح للاحتياجات، وإلى تضرر مساحات القمح البعل في كل المحافظات، وصرّح لصحيفة “الوطن” المحلية، بأن التوقعات تتحدث عن ألف و200 مليون طن، لكن الإنتاج الفعلي قد لا يتجاوز ربع الكمية.
وتشير تلك التصريحات إلى عدم إمكانية الاكتفاء عبر الإنتاج المحلي، فالإنتاج المقدّر من القمح للموسم الحالي نحو 900 ألف طن، بينما تقدّر الحاجة المحلية بمليوني طن، وفق تصريحات رئيس مكتب الشؤون الزراعية في “الاتحاد العام للفلاحين”، محمد الخليف، في أيلول من العام الحالي الذي وعد وزير الزراعة أن يكون عامًا للقمح.
“توفير” للاستيراد
يفتح الوضع الحالي الباب واسعًا أمام الاستيراد، وهو خيار يحمّل النظام أعباء اقتصادية أخرى، تتعلق بالحالة الاقتصادية الرثّة لمؤسسات النظام.
وتجلّى ذلك بإيقاف استيراد 20 مادة، لمدة ستة أشهر، وفق قرار صادر عن وزارة الاقتصاد والتجارة، في آب الماضي، كاستجابة لتوصية اقترحتها اللجنة الاقتصادية بمجلس الوزراء.
وبحسب التوصية، جاء القرار بناء على طلب “مصرف سوريا المركزي” تخفيض قيمة فاتورة المستوردات الوطنية الإجمالية، ووفق الأولويات المعتمدة بمقدار القيمة المطلوب تأمينها من قبله لتمويل مستوردات القمح خلال الفترة المقبلة من العام الحالي.
وفي سبيل سدّ النقص في مادة القمح، أجرت “المؤسسة العامة للحبوب”، لأربع مرات خلال العام الماضي، وست مرات على الأقل خلال العام الحالي، عروض استدراج معلَنة لاستيراد 200 ألف طن من القمح في كل مرّة.
والنقص في هذه المادة التي تغذي الأفران السورية ليس جديدًا، إذ أوضح مدير “المؤسسة السورية للحبوب”، يوسف قاسم، أن سوريا استوردت من روسيا، خلال عام 2019، مليونًا و200 ألف طن من القمح، وهي ذات منشأ روسي بالكامل، بقيمة 310 ملايين دولار.
وأعلنت روسيا أنها سترسل ما يصل إلى مليون طن من القمح إلى سوريا بحلول نهاية العام الحالي، بحسب ما نقلته وكالة “إنترفاكس” الروسية في أيار الماضي، عن السفير الروسي في دمشق، ألكسندر إيفيموف.
وكان وزير الاقتصاد في حكومة النظام، محمد سامر الخليل، قال، في تشرين الأول 2020، إن سوريا بحاجة إلى استيراد ما بين 180 ألفًا و200 ألف طن من القمح شهريًا، بتكلفة 400 مليون دولار أمريكي، بحسب ما نقلته وكالة “رويترز” للأنباء.
هذه التصريحات تنسجم مع ما قاله وزير الزراعة، في 6 من كانون الأول الحالي، حين لفت إلى حاجة سوريا إلى مليوني طن من القمح سنويًا لتأمين حاجتها من الخبز، إضافة إلى 360 ألف طن من البذار، ونحو 800 ألف طن للاستخدامات الأخرى من صناعة البرغل، والمعكرونة، والفريكة، والسميد، وغيرها.
وكان سفير حكومة النظام السوري لدى روسيا، رياض حداد، قال في تصريح نقلته صحيفة “الوطن” المحلية في 1 من آذار الماضي، إن توريدات روسية، منها القمح، هي توريدات طويلة الأمد اُتفق عليها مع الجانب الروسي لضمان تلبية حاجة الشعب السوري شهريًا من المواد الأساسية والمهمة والمطلوبة له.
الواقع يناقض التصريحات
حديث السفير حداد بشأن تأمين حاجة الشعب السوري من المواد الأساسية والمهمة يتنافى مع ما يعيشه المواطن السوري في مناطق سيطرة النظام السوري، إذ تتعامل حكومة النظام بمنطق التجريب أمام المتغيرات الاقتصادية، عبر إصدار قرارات وإجراءات متتابعة في سبيل التحكم بكمية الخبز التي تحصل عليها العائلة السورية، باعتبار أن القمح مادة الخبز الأولية الرئيسة.
وكان وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عمرو سالم، أعلن، في 14 من كانون الأول الحالي، بيع مادة الخبز في محال تابعة للوزارة في مناطق محددة، بعد تبريده في الأفران، موضحًا عبر “فيس بوك” أن الوزارة ستبدأ ببيع الخبز بنفس سعره لدى “المعتمدين”، في مناطق الدويلعة، والمزة شيخ سعد، وكشك حديقة “السبكي”، على أن تطبق هذه الطريقة في مختلف مناطق دمشق، ثم في عموم المحافظات لاحقًا.
وفي أيلول الماضي، أصدرت لجنة تحديد الأسعار في محافظة دمشق، قرارًا يسمح لـ”معتمدي” بيع مادة الخبز المرخصين، والأكشاك التابعة لـ”المؤسسة السورية للمخابز”، باستيفاء عمولة قدرها 50 ليرة سورية، ليصل سعر الربطة الواحدة إلى 250 ليرة لدى “المعتمدين” في دمشق، بعدما رفعت حكومة النظام سعر الربطة بنسبة 100% ليصبح سعر الربطة 200 ليرة، بعد أن كان 100 ليرة.
وتستمر شكاوى المقيمين في مناطق سيطرة النظام، من نوعية الخبز ورداءته، فضلًا عن عدم كفاية المخصصات التي تحددها الوزارة لهم بحسب أعداد أفراد العائلة.
ووفق “آلية التوطين”، تبلغ مخصصات الفرد الواحد من مادة الخبز ربطة واحدة كل يومين، بينما يحق للأسرة المكوّنة من ثلاثة أفراد 30 ربطة في الشهر، بسقف ربطتين يوميًا، إلى جانب انخفاض جودة الخبز، وسماكته واقتراب قوامه من العجين، فضلًا عن رائحته الحمضية.
وفي أيار الماضي، طرحت حكومة النظام “آلية التوطين” التي تقوم على توزيع الخبز عبر “البطاقة الذكية”، بما يتيح تحديد مخصصات الأسرة الوحدة بشكل شهري وفق عدد أفرادها، ما ينعكس سلبًا على المقدار الذي يمكن للمواطن الحصول عليه، إذ جرى تحديد كميات لا تتناسب مع حاجة العائلات، ما يتعارض مع التصريحات التي تتحدث عن استيراد ما يكفي من القمح لهذا الغرض.
مخزون القمح شمال شرقي سوريا كافٍ لمدة عامين
صار مشهد طوابير الأهالي أمام أبواب الأفران ومراكز توزيع مادة الخبز أمرًا مألوفًا في شمال شرقي سوريا، الذي تديره “الإدارة الذاتية”، رغم احتواء هذه المنطقة على 80% من المخزون الخاص بمادة القمح.
تزامنت الأزمة وغلاء أسعار الطحين، وصعوبة الحصول على ربطة الخبز على اختلاف جودتها، مع إضراب أقامته مجموعة من أصحاب الأفران في المناطق التي تسيطر عليها “الإدارة” في محافظة دير الزور، ما جعل من الحصول على الخبز “المدعوم” أمرًا أشبه بالمستحيل.
أزمة وصلت حد الإضراب
أحد أهم أسباب الإضراب هو التفاوت في كميات الطحين التي تقدمها “الإدارة الذاتية” لمناطق نفوذها، إذ تُقدم لبعض المناطق كميات قليلة من الطحين لا تكفي حاجة المنطقة، بينما تُقدم لأخرى كميات أكبر من حاجتها، بحسب ما قاله أحد أصحاب الأفران في ريف دير الزور الشرقي، لعنب بلدي.
يشتري أصحاب الأفران مادة الطحين بالسعر “الحر” من الأسواق المحلية لإنتاج الخبز وبيعه للسكان، على أمل حصولهم على الدعم من قبل “الإدارة” مستقبلًا، بعد وعود تلقوها بتحسين وضع مادة الطحين، بحسب ما أضافه صاحب الفرن، لكنهم تفاجؤوا لاحقًا بطلب “لجنة الاقتصاد” منهم تأجيل سداد قيمة الطحين حتى إشعار آخر.
وأبلغت “لجنة الاقتصاد” في “مجلس دير الزور المدني” أصحاب الأفران، خلال اجتماع عُقد في نهاية تشرين الثاني الماضي، نيتها تخفيض مخصصات الأفران بنحو 20%، ما سيؤثر سلبًا على مخصصات السكان، بحسب ما قاله مالكو أفران لعنب بلدي.
في حين تبلغ احتياجات المنطقة التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية” في دير الزور 280 ألف طن من الطحين، توفر “الإدارة” فقط 250 ألف طن منها، بحسب أرقام حصلت عليها عنب بلدي من مالكي الأفران.
إلى جانب ذلك، فإن أصحاب الأفران يحصلون على المحروقات “المدعومة” لتشغيل الأفران من محطات الوقود التابعة لـ“الإدارة الذاتية” بسعر 20 ألف ليرة سورية للبرميل الواحد، لكن أغلبهم يشتكون رداءة جودة المحروقات.
وكحل لإيقاف الإضراب، عمدت “الإدارة الذاتية” إلى تشغيل الأفران لثلاثة أيام في الأسبوع، بينما تمتنع عن تقديم الدعم لها للأيام الأربعة الباقية، ما أبقى على أزمة الخبز في مناطق دير الزور الخاضعة لنفوذ “الإدارة”.
الأهالي يدفعون الثمن
يتأثر سكان المنطقة بطبيعة الحال بأي تغيير بسيط يطرأ على أسعار أو نوعية الخبز شمال شرقي سوريا، إذ أدى توقف الأفران عن توزيع الخبز، إلى آثار سلبية على حياة الأهالي الذين بدؤوا بالبحث عن البدائل منذ اليوم الأول، مثل شراء الطحين.
وزادت المعاناة مع ارتفاع الأسعار نتيجة ارتفاع الطلب، ووصل سعر كيس الطحين في أسواق دير الزور بوزن 50 كيلوغرامًا إلى نحو 90 ألف ليرة سورية.
مدنيون ممن قابلتهم عنب بلدي في مدينة الرقة شمال شرقي سوريا، قالوا إن عدم توفر الخبز بالقدر المطلوب الذي قد يسد احتياجات عائلة كاملة لم يعد المشكلة الوحيدة في هذا الجانب، إذ صارت جودة الخبزة الرديئة مشكلة ثانية تواجه السكان.
وتبلغ احتياجات العائلة المؤلفة من خمسة إلى سبعة أفراد نحو خمسة آلاف ليرة سورية، كحد أدنى، ثمنًا لاحتياجاتها من الخبز بشكل يومي.
مصادر “الإدارة الذاتية” لتأمين القمح
تشهد مناطق شمال شرقي سوريا ضعفًا في إنتاج محصول القمح الذي يعتبر من المحاصيل الأساسية للمنطقة، بحسب بيان صادر عن “الإدارة الذاتية”، في 4 من تشرين الثاني الماضي.
وتتهم “الإدارة” تركيا بقطع مياه “الفرات”، وتعتبر أن هذا القطع يأتي على رأس أسباب التراجع في الإنتاج، لذا تسعى “هيئة الاقتصاد والزراعة” التابعة لها إلى ضبط كميات القمح المخصصة لتزويد المخابز بالطحين “درءًا لوقوع أزمة خبز كونه من المتطلبات اليوميّة للأهالي”.
يتوفر مخزون القمح المخصص للطحين لدى “الإدارة الذاتية” حتى العام 2023، ويُقدّر بحوالي 200 ألف طن، بينما تحتاج المنطقة إلى 700 ألف طن، بحسب تصريحات الرئيس المشترك لـ”هيئة الاقتصاد والزراعة”، سلمان بارودو، في البيان.
وأوضح بارودو أن متوسط شراء القمح عن كل طن يكلّف “الإدارة الذاتية” حوالي مليون و100ألف ليرة سورية، ويُباع للأفران مطحونًا بـ60 ألف ليرة عن كل طن، فتكلفة الطن الواحد من الطحين تُقدر بمليون ليرة.
وبيّن أن تكلفة ربطة الخبز الواحدة تبلغ 1000 ليرة سورية، وتُباع للمستهلك بـ250 ليرة سورية فقط.
من جانبه، أوضح الرئيس المشترك لشركة “تطوير المجتمع الزراعي في شمالي وشرقي سوريا”، مصطفى خليل، أن كميات الطحين المخصصة للأفران توزع بموجب إحصائيات المجالس المحلية لتغطية احتياج جميع السكان، لكنّ قسمًا كبيرًا منها يُباع بدل خبزه، وتوزع الشركة 1350 طنًا يوميًا بلا نقصان.
وفي 28 من تموز الماضي، حددت “هيئة الاقتصاد والزراعة” سعر بذار القمح للموسم الزراعي المقبل بـ1200 ليرة سورية، بهدف “تشجيع المزارعين على زراعة مادة القمح”.
وكانت “الإدارة الذاتية” سعّرت القمح للعام الحالي بـ1150 ليرة سورية، ما يعادل نحو 36 سنتًا أمريكيًا، بعد أن حُدد العام الماضي بـ17 سنتًا للكيلوغرام الواحد.
الأرقام ليست مبشرة
تحتل سوريا المرتبة 101 على مؤشر الأمن الغذائي التابع لمجلة “إيكونوميست” البريطانية، الصادر في 25 من شباط الماضي.ووفقًا للبيانات، يعاني مليون و300 ألف شخص من انعدام الأمن الغذائي الشديد، بزيادة قدرها 124% خلال سنة، وقُيّم 1.8 مليون شخص إضافي على أنهم معرضون لخطر الوقوع في انعدام الأمن الغذائي.كما تعيش سوريا حالة من التدهور الاقتصادي، تتجلى بخسارة الليرة السورية أكثر من 90% من قيمتها، ما انعكس سلبًا على معيشة المواطنين، وفاقم أزمات الغذاء ونقص المحروقات
دعم أمريكي
تدعم الولايات المتحدة الأمريكية المنطقة ببذار القمح عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية .(USAID)
وأعلنت السفارة الأمريكية في سوريا، في 15 من تشرين الثاني الماضي، عن هذا الدعم بتجهيز ما يقرب من ثلاثة آلاف طن من بذار القمح “عالية الجودة” للمزارعين في شمال شرقي سوريا مع بدء موسم زراعة القمح.
وستدعم هذه البذار مئات المزارعين لإنتاج ما يقارب من 32 ألف طن من القمح العام المقبل، ما يضمن حصول السوريين على الدقيق والخبز ومنتجات القمح الأخرى لإطعام أسرهم ومنع المزيد من الأزمات الاقتصادية، بحسب السفارة.
مسؤولون زراعيون في حكومة النظام السوري اعترضوا على هذا الدعم، معتبرين أن أمريكا تريد تدمير الزراعة في سوريا من خلال منح بذار تحتوي على نسبة عالية من الإصابة بالديدان الخيطية التي ستؤثر على التربة في وقت لاحق.
وفي مراسلة إلكترونية لعنب بلدي مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أكد المكتب الإعلامي كلام المتحدث باسم الوكالة، بأن الوكالة الأمريكية تعمل على تزويد المزارعين السوريين بأصناف بذار القمح “أضنة” و”جيهان” التي تؤمّنها من المنطقة.
وتخضع بذار القمح، بحسب المتحدث، إلى سلسلة من الاختبارات في مختبرات “حديثة” بإقليم كردستان العراق، للتأكد من سلامتها وجودتها قبل أن تُنقل لتوزع على الفلاحين في شمال شرقي سوريا، كما يُعاد فحصها للتأكد من “نقائها وخلوها” من الحبوب “المتقلصة والمكسورة”، و”الآفات الزراعية”، والمواد الدخيلة.
وأوضح المتحدث أن الوكالة تعمل على ضمان فحص معدل الإنبات للبذار، والتأكد من عدم احتواء هذه الحبوب على أي نوع من الفطريات أو “الآفات الزراعية” مثل حشرات “سيفالاريا” و”نيماتود”، ورشها بمبيدات الفطريات قبل إرسالها إلى شمال شرقي سوريا.
وأكد المتحدث باسم الوكالة أن شركاء الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، “حريصون على توزيع البذار التي تطابق أفضل المعايير لضمان السلامة العامة والجودة”.
وارتفاع الأسعار، وجعل 60% من السوريين عرضة لانعدام الأمن الغذائي، وفق تقرير صادر في 11 من شباط الماضي، عن برنامج الأغذية العالمي (WFP).