مقدمة الترجمة
تُحِبُّ وسائل الإعلام الغربية رسم صورة مستوحاة من أفلام الجاسوسية الهوليوديّة لروسيا، وتضخيم حجم قدراتها الفعليّة على الأرض، وحتى في المجالات السيبرانيّة. لكنّ بوتين نفسه يعرف أنّ إمكانيات بلاده أقلّ من هذه الصورة بكثير، وإن كان ذلك لا يمنعه من تطويع هذه المبالغات لصالحه.
مجموعة فاغنر تُقدَّم بطريقتين في الإعلام الغربي، إما مرتزقة روس هدفهم الربح، وإما شركة خدمات عسكرية خاصة على طراز “بلاك ووتر”، تعمل بشكل غير رسمي وبدون تنسيق مع الحكومة الروسية. هذه الضبابية التي تُحيط بالمجموعة تُتيح للروس الادّعاء بأنّ روسيا لا تضطلع بأي دور رسمي في بؤر الصراع الساخنة في الجنوب العالمي.
تحاول هذه المادّة تفكيك بنية فاغنر من ناحية الهيكلة والتنظيم، وإثبات ارتباطها الرّسمي بموسكو، من خلال تحليل شبكة من العلاقات التي تجمع القائمين عليها بالاستخبارات الروسية والكرملين، وإثبات الفشل الأوروبي المزمن في التعامل مع حيلة موسكو.
نص المادّة
كانت التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن وجود مرتزقة روس يحاربون في ليبيا قد أثارت التكهنات مجددا بشأن ما يُسمى “مجموعة فاغنر”، التي بدأت تنال اهتماما جماهيريا متزايدا، وبشكل تدريجي، منذ ظهورها الأول في أوكرانيا عام 2014. ثم أدّى انتشار القوات الروسية عام 2015 في سوريا والافتراض بأنّ أعدادا ضخمة من المدنيين الروس يشاركون على الجبهات الروسية طيلة مدة الصراع السوري إلى التأسيس لهالة أسطورية تُحيط بهذه الوحدة الإجرامية الغامضة. وسارعت وسائل الإعلام إلى خلق صورة مُضخَّمة تتسق مع سردية إعلامية مُفصَّلة خصيصا لافتضاح المجمع العسكري الروسي الخاص، وما يتبعه من علاقات تجمع بوتين بحاشيته المقرّبة من الأوليغارش، وأطماع روسيا الإمبريالية المحمّلة بأحلام الحرب الباردة.
خذ كل هذه العناصر وأضف إليها شيئا من نظريات المؤامرة وعناصر دراما توم كلانسي* وستحصل على نسخة مضللة عن مجموعة فاغنر من وسائل الإعلام. تُوصَف هذه المجموعة بأنّها إما شركة عسكرية خاصة “PMC” وإما جماعة من المرتزقة، لكن كلا الوصفين يفتقدان للدقة، وهو ما سيتكشّف لنا بصورة أوضح عبر تعرية العديد من الافتراضات غير الدقيقة والمخادعة التي تُنشر بشأن هذه المنظمة الفريدة، إن جاز تسميتها.
بداية، سنوضّح ما الشركات العسكرية الخاصة، ومَن هم المرتزقة، وما الفرق بينهما. المرتزقة أفراد يشاركون في صراع أجنبي مقابل المال أو أي ربح مادي من نوع آخر، كما أنّهم لا يتحركون بدوافع من قبيل الإثنية، الأيديولوجيّة، الديانة، أو التوجهات السياسية، ولا يربطهم بالطرف الذي يحاربون نيابة عنه أكثر من الربح، ولا تجمعهم علاقة مواطنة بالدولة المشاركة على المسرح العمليّاتيّ. إن الارتزاق، بتعريف الأمم المتحدة والعديد من الدول، نشاط غير قانوني، يحق للدول التي يتم على أراضيها ملاحقة المشاركين فيه بالاستناد إلى قوانينها الداخلية. علاوة على ذلك، فالمرتزقةُ مقاتلون غير شرعيين ولا يُمنحون، بالتالي، حقوق أسرى الحرب إذا ما تم أسرهم أثناء صراع دائر.
أما الشركات العسكرية الخاصّة فهي كيانات ربحية قانونية تُوفِّر خدمات يمكن أن تُوكَل في العادة إلى القوات المسلحة الرسمية لبلد ما، ويتراوح عمل هذه الشركات بين تحليل المعلومات الاستخبارية وتوفير الاستشارات والتكتيكات والخدمات الوقائية والحمائية. لكن ثمة العديد من الأمثلة لحالات صراع مُسلَّح تدخلت فيها الشركات العسكرية الخاصة بشكل مباشر، بالنيابة عن سلطة شرعية لدولة من الدول، بشروط وبنود يُحدِّدها عقد بين الطرفين. جاءت فكرة تقنين الاستعانة بقوات خارجية من القطاع الخاص على يد إيدين بارلو، وهو عقيد في قوات دفاع جنوب أفريقيا كان قد أسّس “الشركة العسكرية الخاصة إكزيكتيف آوت كامز” في أواخر الثمانينيات، ليُغيِّر جوهريا مفاهيم الشركات العسكرية الخاصة والارتزاق.
علاقة فاغنر بالشركات العسكرية الخاصة والارتزاق
إذن، كيف يرتبط هذا كله بأسئلتنا حول مجموعة فاغنر؟ كما أسلفنا، فالشركات العسكرية الخاصة هي كيانات تجارية تسعى خلف الربح، وبالتالي، ثمة شرطان جوهريان لكي يُطلق هذا الاسم على كيان ما. أولا، أن يكون هذا الكيان مسجلا تحت علامة تجارية، يستخدمها في أنشطته التجارية، وثانيا، أن يكون هدفه الأساسي جذب زبائن جدد وإبرام عقود تدرّ الربح، من خلال إستراتيجيات تسويقية نزيهة تحدّ من مخاطر تُلطّخ سمعته. وفي حالة فاغنر، فهي لا تستوفي أيًّا من هذه المعايير. وعلى العكس من ذلك، يبدو أن المجموعة كيان خفي، بالأخص وأن التقارير حول المكاتب المسجلة للشركة تُثير تساؤلات بشأن طبيعة وجودها، على الأقل، في القالب المضلل والمُتداول إعلاميا على نطاق واسع.
في العام الفائت وردت معلومة خاطئة في تقرير لوكالة “فايس” مفادها أنَّ فاغنر شركة مسجّلة في هونغ كونغ، بينما يُشير تقرير للتلغراف إلى أن الشركة مسجّلة في الأرجنتين لكنها تمتلك مخيما تدريبيا في موسكو، على مُقربة من قاعدة “مديرية المخابرات الروسية العامة” (GRU)، وهي قاعدة عسكرية واستخبارية رئيسية في روسيا. لكنّ كلتا المعلومتين خاطئتان، ولكن قبل التوغل أكثر في معاينة فقر الدقة الذي يحيط طبيعة فاغنر، فلا بد من القول إن الإطار القانوني للشركات العسكرية الخاصة في روسيا لا يزال إشكاليا. وبرغم الجهود المبذولة، لم يُمرِّر الدوما بعد قانونا يمكن أن يوفر إطارا أكثر مرونة لتعمل هذه الشركات من خلاله.
على أنه ليس من الصعب تعقّب شركات الأعمال التجارية الأمنية في روسيا، وإجمالا، فمن الممكن التعرف عليها بوضوح، فعلى سبيل المثال، مقرّات مجموعة “RSB” في موسكو وأنشطتها الخارجية معلنة على موقعها الإلكتروني الرسمي. وهناك مثال آخر وهو سجل “الحرس السلافي” (Slavonic Corps)، المتوقف حاليا عن العمل، والذي يمكن إيجاده بسهولة في الصفحة 153 من هذه الوثيقة التي تدرج عدة شركات مسجّلة في هونغ كونغ. إذن، ما الهدف وراء هذه الهالة السرية التي تُحاط بها المجموعة؟ والأهم هو لماذا تنقاد العديد من وسائل الإعلام الغربية وراء هذه السردية بشأن الشركات العسكرية الخاصة؟
إذاً ما حقيقة فاغنر؟
بعكس النقاشات الجارية المتداولة، لا تندرج فاغنر تحت فئة الارتزاق ولا تحت فئة شركة عسكرية خاصّة، كما يذهب أغلب الصحفيين، بل إنها النقيض من ذلك كليا‘ إذ من الواضح أن المجموعة أقرب ما تكون إلى أداة جيوسياسية يستخدمها الكرملين في تحقيق أهدافه.
تُقدِّم مجموعة فاغنر خدماتها لكلٍّ من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الروسية، وكما سنرى لاحقا، فإن المجموعة تتحرّك في أماكن ترى روسيا أن مصالحها الإستراتيجية عُرضة للتهديد فيها أو في أماكن يرغب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوسعة نطاق التأثير الروسي فيها وتدعيم الموقف الروسي على الساحة الدولية من خلالها. إلى جانب هذا، فثمة مزاعم أن المجموعة تشارك في عمليات عسكرية تتحمّل هي مسؤولية تبعاتها في حال أرادت وزارة الدفاع الروسية التنصل من العواقب، ما يعني أن المجموعة تمنح روسيا حرية الادعاء بأن الأفراد المشاركين في عدد من الأحداث لا يتصرفون بالتنسيق مع أي جهة حكومية أو رسمية. لكن بقدر ما يبدو الأمر مخادعا، فإنه بكل تأكيد يخدم بعض الأهداف الرئيسية لروسيا.
تظل هناك العديد من الأسئلة الشائكة بشأن هذه المجموعة، بالنظر إلى ثغرات واضحة من منظور القانون الدولي. وبدأ الجدال بشأن هذا الأمر قبل عدة سنوات خلت عندما قامت روسيا بنشر أولى قواتها في القرم. وتعقّد الجدال بشكل أكبر، لأن انتشار أفراد فاغنر في بؤر صراع وعلى مسارح عالمية عدة قد أسّس لواقع غير مسبوق. حيث يصعب، على سبيل المثال، القول إن عملاء فاغنر مقاتلون يندرجون تحت مواصفات معاهدة جنيف. وبالتالي فعندما ينخرط هؤلاء “المتعاقدون” في صراع مُسلَّح، كما هو الحال في سوريا أو ليبيا، فإن طريقة التعامل معهم بالاحتكام للقوانين والأعراف الدولية للحرب، وإذا ما كان ينبغي منحهم حقوق أسرى الحرب وفقا للقانون الدولي، تظل مُلتبسة وإشكالية. كما أننا لا نعلم بعد كيف ستتعامل السلطات الروسية مع حالة من هذا النوع.
كما أسلفنا، لا تمتلك مجموعة فاغنر قدرات رسمية للتدخل العسكري، كما أن الكيان غير موجود تقنيا. فقد تأسس مفهوم “مجموعة فاغنر” بعد عدة تقارير أشارت إلى أشخاص يرتبطون معا، وتم إرسالهم للمشاركة في بؤر صراع مختلفة كجزء من منظمة تحمل هذا الاسم. هذه التقارير تربط أنشطة ما يُسمى بمجموعة فاغنر كافة بشخص واحد، إنه ييفيغني بريغوجين، وبريغوجين هذا هو رائد أعمال روسي، يُعرف في الغالب في مجال التزويد بالخدمات وله علاقات تجمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويقال إن هذه العلاقة الوثيقة بالرئيس الروسي قد ضمنت له عقودا حكومية عدة، بما فيها خدمات تزويد للجيش الروسي من بين جهات أخرى. كما أنه يرتبط بـ “وكالة أبحاث الإنترنت” سيئة الذكر، التي اتُّهمت بإجراء عمليات تأثير سياسي شائنة. من هنا، وبملابسات لا تدع مجالا للشك، جاءت الاتهامات بشأن تورط الروس في التأثير على الانتخابات الأميركية، حيث قام صندوق الخزينة الأميركية بفرض عقوبات على بريغوجين باستهداف عدد من أصوله المالية وأعماله التجارية.
أما الكيان الوحيد الملموس الذي يمكن ربطه بفاغنر فهو شركة “إل إل سي كونكورد للخدمات الإدارية والاستشارية”، وهي شركة مسجّلة تندرج تحت مظلة بريغوجين وتُوفِّر باقة من الخدمات المتنوعة. ويُزعم أن المدير التنفيذي لكونكورد هو ديميتري أتكين، ضابط سابق في “القوات الخاصّة للمديرية العامة التابعة للأركان العامّة في الجيش الروسي” (Spetsnaz GRU)، والذي يمتلك خبرة واسعة في المعارك وعلاقات وثيقة بالقطاع الأمني الخاص، أي من خلال مجموعة موران العسكرية والحرس السلافي. ومن هنا تأتي حبكة ارتباط بوتين-بريغوجين-أتكين، وإلى هذه الحبكة تستند الادعاءات بشأن فاغنر.
يُزعم أنّ عملاء فاغنر متورّطون بعمليات في شرق أوكرانيا وسوريا، وسط تقارير تشير إلى أن حضورها الحالي في الصراع الليبي مدعوم من قِبل قوات خليفة حفتر. وبالنظر إلى أن هذه العمليات قد تلقّت تغطية إعلامية مُوسَّعة سلفا وإلى كونها تحظى بمراجعات مُكثَّفة، وجدنا من الأفضل صبّ تركيزنا على اثنتين من الحالات التي ظهرت فيها أنشطة لفاغنر وهي بلدان من وسط وجنوب أفريقيا، حيث تدفع روسيا باتجاه تثبيت حضورها، وحيث كان الانتشار المزعوم لقوات فاغنر إستراتيجية لتحقيق هذا الهدف من خلال علاقات التنمية والأمن في هذه البلدان التي مزّقتها الحروب وضعف الاستقرار.
أرضنا الأفريقية المفضلة
خاضت موزمبيق حربا أهلية دامية بعد مدة وجيزة على استقلالها عام 1975، وطال أمد هذه الحرب حتى عام 1992. لسنوات عديدة، فتك إرث الحرب الأهلية ودماره السياسي بالبلاد، جاعلا منها إحدى أفقر الدول في القارة الأفريقية. لكن اكتشاف حقول غاز ضخمة قُرب كابو ديلجادو في موزمبيق عام 2011 بدا أنه سيُغيِّر الأحوال. تأخرت عملية الاستفادة من هذه الموارد بسبب البيروقراطية المُفرِطة والفساد المُستفحِل في البلاد، غير أن سكان ديلجادو توسَّموا خيرا بحقول الغاز تلك، ليتصاعد السخط لاحقا في خضم إدراكهم أن أحوالهم المعيشية لن تتغيَّر إلى هذا الحدّ. هذه التطورات، إلى جانب تحوُّل العديد من المواطنين تدريجيا للإسلامويّة الراديكالية، أدّت إلى تمرد عام 2017، حيث شنّت مجموعة تشكَّلت حديثا تحت اسم “أنصار السنة” أولى هجماتها في أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، وأوقعت 40 قتيلا، وبدأت المجموعة عملها منذ ذلك الحين لتشنّ عددا من الهجمات الفتّاكة ضد أهداف حكومية ومدنية على حدٍّ سواء.
على مدار السنوات القليلة الماضية كانت موسكو تعمل على تقوية روابطها بالعاصمة مابوتو، حيث يتخطى حجم التبادل التجاري بين البلدين مئات الملايين من الدولارات، مع ارتفاع بنسبة 25% عام 2019 عن العام السابق. يمكننا تفسير النيّات التوسعية الروسية في أفريقيا ضمن سياقين: تحسين الموقع الدولي لروسيا الاتحادية، وتنويع الأنشطة التجارية الاقتصادية للبلاد، لا سيما في ضوء العقوبات طويلة الأمد المفروضة منذ عام 2014. وتُمثِّل موزمبيق حالة لافتة، بالأخص وأن الكرملين يمكن أن يُخمِد التمرد في الشمال ويخلق ظروفا تُؤهِّله لاستغلال الموارد الطبيعية للبلاد وتحقيق مكاسب جيوسياسية واقتصادية ضخمة فيها.
مجددا، ذهبت مصادر غير موثوقة للإشارة إلى عدد من العملاء الروس، الذين تربطهم على الأرجح صلات بما يُطلق عليه “مجموعة فاغنر”، المنتشرين على الأرض في ناكالا ونامبولا، وهما مدينتان تقعان على مقربة مباشرة من كابو ديلجادو. ذكرت هذه المزاعم أيضا وجود مُعدِّات مُتقدِّمة لـ “مُتعهِّدين روس مُسلَّحين” في المنطقة، ومنها طائرات مُسيّرة. وزعمت جهات أخرى أن عدد الروس قد يبلغ نحو مئتين وأن هنالك مخططات لوجود عسكري دائم وربما قاعدة بحرية روسية في الموزمبيق. وكلها مزاعم أنكرتها السلطات الروسية بشكل رسمي.
وفق تقارير مشابهة فإن حضور العملاء الروس في كابو ديلجادو لم يكن ناجحا كما هو مُتوقَّع، فالبيئة وأحوال الطقس في البلاد يخلقان سياقات مثالية لتنفيذ تكتيكات حروب الشوارع، والكمائن، والهجمات المباغتة. في هذا السياق، لا بد أن يواجه الروس تحديات ضخمة، حيث لقي نحو 10 أفراد من فاغنر حتفهم، وإن كانت الأرقام متضاربة. بينما وجّه أوسوفو نوماد، قائد المعارضة في الموزمبيق، “رينامو” أو “المقاومة الوطنية الموزمبيقية”، اتهامات علنية للحكومة الروسية بنشر “مرتزقة روس” قاموا بشنّ عمليات تخريبية، لكن دون أن يستند هذا الاتهام إلى أي أدلة. أما إبين بارلو، الخبير البارز في هذه الشأن، فيَعتَبِر أن الحضور الروسي من خلال فاغنر في الموزمبيق مُسلَّمة فوق النقاش، وعاب على عملائها في مدونته الشخصية عجزهم عن التعامل مع التحديات المحلية، بسبب نقص خبرتهم في هذا البقعة من أفريقيا.
ترافق السياق الأمني والمشهد السياسي في جمهورية أفريقيا الوسطى مع انعدام الاستقرار منذ استقلال البلاد عام 1960. على مدار العقد الماضي، دُمِّرت البلاد في صراع أهلي دامٍ كانت أطرافه الرئيسية القوات الحكومية وميليشيات “أنتي-بالاكا” المسيحية ومجموعة من الفصائل التي تتألف في أغلبها من مُسلّحين مسلمين تحت اسم “سيليكا”. وبرغم توقيع العديد من اتفاقيات السلام ووقف إطلاق النار خلال هذه الفترة، فإن جهود الأمم المتحدة لإرساء سلام دائم باءت بالفشل حتى اللحظة، حيث رُفع مؤخرا حظر السلاح المفروض من الأمم المتحدة على جمهورية أفريقيا الوسطى عام 2013، ويسعى الرئيس فاوستين أرتشانج للاستفادة من الأمر.
وكانت مهمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (MINUSCA) والتابعة للاتحاد الأفريقي (MISCA) حاسمة في الدفع بالبلاد بعيدا عن جرف حرب أهلية شاملة، لكن هذا لا يعني غض النظر عن الدور الروسي في الصراع، حيث سعى الرئيس توديرا لتأسيس علاقات ثنائية مع موسكو، بالنظر إلى حقيقة أن روسيا كانت المزود الرئيسي للسلاح للقوات الحكومية. من جهة أخرى، يعي الرئيس بوتين الإمكانيات الواعدة التي يمكن أن يأتي بها تأسيس علاقات دبلوماسية، ودفاعية، وتجارية، مع الجمهورية، بالنظر إلى اكتناف البلاد على مخزونات قيّمة من الموارد الطبيعية، بما فيها اليورانيوم، والذهب، والألماس.
ويُزعم أن جنود فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى يتمركزون على مسافة 80 كم من العاصمة بانغي، وأنهم نزلاء قصر سيئ الذكر إمبراطور جمهورية أفريقيا الوسطى السابق جان بيديل بوكاسا. وإن كانت الأعداد غير واضحة بعد، لكن التقارير تُقدِّرهم بنحو 200 عميل لفاغنر. كما أن الدور الذي يضطلع به هؤلاء على القدر نفسه من الضبابية، لا سيما أن واجباتهم تتنوع بين التدريب، وتقديمات الخدمات الاستشارية، وجمع المعلومات الاستخبارية، والمشاركة في عمليات دائرة، وحتى التصرُّف كمنتَدبين أمنيين شخصيين لرئيس البلاد. لكن ما لفت الانتباه الإعلامي إلى حضور المجموعة في البلاد هو مقتل ثلاثة صحفيين روس كانوا يحققون في أنشطة مجموعة فاغنر في البلاد. غير أن التقارير التي غطّت الحادثة أغفلت حقيقة أن الصحفيين لقوا حتفهم في قتال اندلع على بُعد 200 كم من بانغوي، قُرب قرية “سيبوت”، وهي بيئة عدوانية لا تتوقف فيها الهجمات.
هل فاغنر أسطورية بالفعل؟
من الواضح الآن أن الخرافة التي تُحيط بمجموعة فاغنر تقوم على عدد من المغالطات والمبالغات، في أقلّه. لقد كرَّر الإعلام السرديات المتعلِّقة بشأن كون فاغنر شركة عسكرية خاصة ومجموعة من المرتزقة بحيث ترسخت هذه السردية في أذهان الناس رغم أنها عارية عن الصحة. أما وقد علمنا أن التقارير حول مجموعة فاغنر تفتقد للدقة، فستكون أفضل طريقة لوصف هؤلاء العملاء بأنهم فرع سري خاص من مديرية المخابرات الرئيسية الروسية.
يكمن تزييف وسائل الإعلام الجماهيري فيما يريد أن يُحقّقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المقام الأول، أي في صوغ التصورات العامة بشأن مجموعة فاغنر. فإن قَبِلنا أن تُسمى هذه المجموعة شركة عسكرية خاصة، فسينتقل التركيز بعيدا عن العمليات الروسية في الخارج لكي يسعى الناس بدلا من ذلك إلى جمع التفاصيل المتعلّقة بشركة عسكرية خاصة محددة هي غير موجودة في الواقع. تسمح هذه الحقيقة للمصادر الرسمية الروسية أن تنفي أي علاقة لها بالحوادث الواقعة في بؤر الصراع، حيث يشارك جنود روس من خارج الجيش في العمليات. والأصح أنه لا أحد يتحدّى هذه السردية، بالنظر إلى الشح الهائل في أي دليل ملموس على وجود كيان فاغنر.
بل إن مواقف الكرملين إزاء القضية نفسها تُثير العديد من الشكوك، فتجاهل موسكو للأمر وعدم اكتراثها يُشيران إلى انعدام قلق بوتين وبريغوجين من الاهتمام الإعلامي الذي باتت تناله قصة فاغنر، ويبدو بالأكثر أنهم سعداء برؤية سردية الشركات العسكرية الخاصة تتضخم وتواصل انتشارها. يبدو أن جزءا كبيرا من وسائل الإعلام في العالم الغربي من محللين وصحفيين كانوا يحرصون على توفير استخلاصات معمّقة بشأن الحرب الروسية الهجينة و”عقيدة غيراسيموف”، حتى انطلت عليهم حيلة موسكو.
المصدر : الجزيرة