سيريا برس - أنباء سوريا
في عالم معاصر وُلد في بِركة دماء، حاملًا كلّ مخلفات حروب القرون الماضية دون أن تظهر في الأفق مؤشرات لسد الثغرات، يبدو الحديث عن حقوق الإنسان حديثًا تشوبه الريبة والتشويش؛ فالاعتقاد بأنها إحدى العقائد الكونية، وأن جزءًا منها يجاري حقوقنا الطبيعية والوضعية، لا يحمل أيّ صدقية في ما نراه اليوم بشكل مؤكّد وموثّق؛ إذ لا حديثَ رسميًا عن احتمال منع الحروب أو تقليم مخالب السلطات الشمولية المعتاشة على قهر الشعوب، أو وقف استخدام وسائل العنف لفرض القوة والتحكّم في لعبة المصالح التي ترسم السياسات العامة للدول القوية، أو غيرها من انتهاكات كبيرة بحق الإنسان؛ فالصيغة العامة لما يحدث الآن تتجه عمومًا نحو استمرار انتهاكات حقوق الإنسان، وقد جعل هذا التجاوز القائم إعادةَ التفكير بمعنى حقوق الإنسان تتخذ صفتها المشروعة لدى العديد من المفكرين والباحثين، منذ بداية القرن العشرين.
كونية المفهوم وإمكانية التطبيق
دفعت الثورة الذهنية والاستقرار الزراعي الإنسانَ الأولَ إلى اعتبار الحقّ مُكمِّلًا لوجوده وأساسًا أخلاقيًا لانتظامه مع جنسه، لترسيخ التعاون بينهم على أساس الحاجات وتبادلها، وعدم الاعتداء على الملكية، مهما كانت حدودها، ومع نمو المجتمعات؛ لم يعد العرف التعاوني كافيًا لتثبيت الحق بصيغته الأخلاقية؛ فالمزارعون الأوائل صاروا أشدّ عنفًا في الدفاع عن حقوقهم والقتال لأجلها، نتيجة غارات الجيران، ليكون الفرقُ، بين المؤونة والجوع، فرقًا بين حياة الشخص وحياة الآخر، بعيدًا عن جدلية الأخلاق ووجودها، فارِضًا أسسًا أخرى للانتظام التعاوني تقودها الشرائع الإلهية التي شكّلت إطارًا آخر لفكرة الأخلاق والحفاظ على الحياة والملكية والمصلحة، وقد رُبطت بالتدوين القانوني المقرر بحسب الشرائع القديمة أو الأطر التنظيمية اللاحقة للممالك القديمة، وفي الأديان، حيث عملت جميعها على تسوية الحجج، لدعم صحة وجود عقيدة أخلاقية، تربط البشر وتحدد حقوقهم وواجباتهم، تجاه بعضهم وتجاه القانون، باختلاف صياغته، لتثبيت هذه الحقوق، وامتدت إلى أن تكون جذرًا في فلسفة حقوق الإنسان كحقوق أخلاقية أولًا، وأنها صالحة لكل زمان ومكان وإلى الأبد، بغض النظر عن تطبيقها القانوني أو الاعتراف بها.
حقوق الإنسان مسألة أخلاقية
منذ أرسطو والمدرسة الرواقية، شكّلت الحجّة الأخلاقية ووجود نظام أخلاقي طبيعي يوفّر الأساس لكل الأنظمة المنبثقة دينية أو وضعية، ويقدّم المعايير الشاملة والعالمية المحتملة لتقويم شرعية النظام القانوني الفعلي باعتبار وجود القانون الطبيعي، حالةً مُسبقة لوجود الأنظمة الاجتماعية والسياسية الفعلية؛ فالحقوق الطبيعية امتلكها الأفراد بصورة مستقلة عن المجتمع أو الدولة، بغض النظر عن الاعتراف بها من قبل قائد سياسي أو دولة خارجة عن القانون الإنساني، وهو ما أشار إليه جون لوك، منذ القرن السابع عشر، فالغرض من تنصيب السلطة السياسية في الدولة هو تقديم الحماية للحقوق الطبيعية الأساسية للأفراد، وخدمة المصالح العامة، وليس من حق الحاكم منعها، فهذا المنع يُشكّل مُبررًا أخلاقيًا لحمل السلاح ضدها، وإسقاط شرعيتها.
وقد تمّ الاستكمال الأخلاقي الفلسفي لإطار الحقوق مع أمانويل كانط، في تقديمه التبريرات الفلسفية لإمكانية قيام مجتمع عالمي مُحتمل لتأمين مبادئ المساواة والاستقلالية، وتبرير الحقوق وتقرير الذات على أساس سلطة العقل البشري، في فعل الصحيح، من خلال التزام جميع الأفراد العقلانيين، وليس من خلال سعي الفرد وراء مصالحه أو رغباته الشخصية، ليصل إلى مفهوم الحقوق بشكلها المجرّد والقطعيّ، من الناحية الأخلاقية، بعبارته الشهيرة: ” تصرّف بحيث يصبح تصرّفك قانونًا عالميًا”. أهمية الأفكار حول الاستقلال الأخلاقي الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة، التي قدّمها لوك وكانط، كان لها علاقة بمشروع التنوير، من حيث إنها شكّلت أساسًا معياريًا للمحاكمات وإسقاط الأنظمة الاستبدادية، وإعادة تشكيل نظام سياسي قادر على حماية وتعزيز هذه المثل أو الأفكار. وقد تبنّتها العديد من المواثيق: ميثاق الاستقلال الأميركي، وإعلان الجمعية الوطنية الفرنسية لحقوق الإنسان، ومواثيق حقوق النساء التي دافعت عنها ماري ولستونكرافت، وتوسيع دائرة الاقتراع السياسي لجوانب المجتمع التي حُرمت من امتلاك الحقوق السياسية والمدنية.
لكن الأمور لم تجرِ هكذا، ولم تحتمل وجود أفكار لتنفيذ هذه الحقوق فحسب؛ فإسقاط أنظمة توليتارية دينية حوّل السنين اللاحقة إلى حلبة صراعات ومذابح عرقية وأصوليات دينية وحركات عنصرية وتطهير عرقي، ليكون الهلوكوست دافعًا ومشجعًا على تحوّلها إلى إعلان اكتملت حدوده القانونية في القرن العشرين، حيث اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 1948، لإيقاف الانتهاكات البشعة ومنع حدوثها بالمستقبل، عبر مُحددات مختلفة لا تقتصر على امتلاك الأفراد الحقّ بالحياة، كحقّ أسمى، بل تمتدّ إلى ثلاثين مادة تشكّل هيكلًا لمواثيق وعهود مختلفة، تتطلب العمل والاهتمام الدوليين، بوصفها مواد قانونية تحتاج إلى أدوات التنفيذ وتحديد النموذج التشريعي، وإقراره بصورة قانونية من قبل الهيكلية الجديدة للدول المختلفة في معاييرها ومواقفها من القانون الذي يخصّ الحقوق والالتزام بها، خصوصًا مع وجود العديد من المعوقات، في الإلزام القسري للدول باعتماده، التي تُسقط صفة الكونية القانونية، وتُبقي على كونية اعتبارية أو رمزية للحقوق الأخلاقية، باعتبارها مستندًا لإدانة الانتهاكات أكثر منها فرصة لفرض شرعية قانونية عالمية، أو توسيع حدود الممكن في اعتبارها قانونًا عالميًا.
حقوق الإنسان أم حقوق المواطنين
تُعرّف حقوق الإنسان بأنها الضمانات الأخلاقية المؤكّدة التي يمتلكها جميع المواطنين في كل البلدان والثقافات، لأنهم مواطنون، ويكون امتثالهم لها إلزاميًا، وليس تقديريًا؛ ليكون الشرط الأساس الذي تُوجّه له هذه الحقوق مبنيًا على المواطنة، باعتبارها أساسًا في الثورة القانونية التي أسست لمثل هذه المعايير، ولكن هذه الخصوصية لا تدفع إلى الاعتقاد بأن كل قوانين الدول تعترف أنظمتها القانونية بهذه الحقوق، أو من يدافعون ويرغبون في تحقيقها هم أوّل المنفذين لها؛ فمن وقّعوا إعلان الاستقلال كان العديد منهم من مالكي العبيد، ولم يطلقوا عبيدهم، ولا اعتبروا أنفسهم منافقين، فالحقوق السياسية والقانونية، في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لم تكن تعترف بوجود حقوق لغير البيض، واقتناع غالبية المواطنين الأميركيين في عام 1860 بأن العبيد الأفارقة هم بشر، ويجب أن يتمتعوا بحق الحرية، استدعى حربًا أهلية دامية لإرضاخ الولايات الجنوبية. وكذلك التفاوت الطبيعي بين الرجال والنساء، والأنظمة الهرمية وتراتبية الأغنياء والفقراء واللامساواة الناجمة عنها، لم تدخل في البنية الأخلاقية، باعتبارها جزءًا من قوانين الطبيعة الأبدية، ولم يكن ممكنًا تكريسها كقانون يلغي التفاوت أو يحدّ الملكية، فهذه أخذت تحديداتها بناءً على المواطنة في دول أقرّت في دساتيرها حفظ الحقوق للجميع.
المشكلات المتعلّقة بالحقوق السياسية والقانونية دفعت حنة أرندت، في كتابها “أصول التوليتارية”، إلى رفض تعليق مسألة الحقوق الإنسانية بالمواطنة، واعتبارها (قانون من لا قانون لهم)، فوجود المواطنة يكون نتيجة لوجود قانون يستطيع البشر من خلاله الوقوف في وجه الانتهاكات. أما المجرّدون من القانون، كاللاجئين في أنحاء أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، فهؤلاء حُرموا من حقوقهم كونهم مجرد بشر، إنهم السكان المطرودون من ديارهم، الملاحقون والمهددون بالتطهير العرقي، ولا وجود لأي مجتمع وطني يضمن لهم تلك الحقوق، وهم غير قادرين على ممارسة حقوقهم، ولا بدّ لهم من أن يقوم آخرون بتأييدها، والمطالبة بها باسمهم. هؤلاء دخلوا في شرعة الحقوق باعتبارهم ضحايا، ليغلق قانون حقوق الضحايا على حالات خاصة، ويترك كثيرًا من الناس (من لا حقوق لهم) خارج التصنيف، باعتبار التدخّل لحمايتهم يتعارض مع الحقوق الدولية، فمسألة التدخّل لها اعتبارات مختلفة، ولها أصول قانونية متباينة عمّا يرغب فيه البشر المضطهدون. لتبقى حقوق الإنسان صيغة مجردة تحتمل الكونية دون أن تحتمل إمكانية التطبيق.
حاجات ومطالب ورغبات
بقيت مسألة حقوق الإنسان، منذ إقراراها، حقوقًا مجرّدة، تتداخل حول إقراراها القانوني اعتبارات مختلفة، حتى في بنيتها الأولى: حق الحياة، حق الحرية، حق المشاركة السياسية، الحقّ في حماية سيادة القانون، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي تأخذ قيمة متساوية من حيث الأهمية، ولها وزن أخلاقي واحد ومتداخل، بالنسبة إلى مشرّعيها، ولكنها ليست بتلك الأهمية، بالنسبة إلى المصادقة والإلزام والالتزام القانوني والأخلاقي بهذه الحقوق من قبل الدول، خصوصًا أن بعض الحقوق يمكن أن ترفضها الدول، لما تمثله من امتدادات تطال البنى الشرعية الدينية، وبعضها الآخر يشكّل حبرًا على ورق، في الدول التي لا تتشكل على أساس مواطنين وربطها بنظام المجتمع والدولة، وإنْ تضمّنت قوانينها ودساتيرها صيغة المواطن، كالدول الدكتاتورية الشمولية، في عالمنا العربي. فضلًا عن أن كثيرًا من الدول العربية لم تصادق على كل البنود في إعلان حقوق الإنسان، بل تبّنت ميثاقًا مشتقًا من الشرعية الدولية لحقوق الإنسان خاصًا بها، وجرى اعتماده في القمة السادسة عشرة لجامعة الدول العربية عام 2004.
أسهم استمرار الانتهاكات ووجود عددٍ من المبررات لاختراقها، حسب بنى الدول القومية والوطنية، وحسب القيادة السياسية وفروض القوة والمصلحة وغيرها من تشابكات على صعيد البنى الحديثة، في جعل ما تقدمه حقوق الإنسان بعيدًا من حيّز التنفيذ؛ فكميّة الانتهاكات لا تتعلق بمن صادق عليها أم لا، بالرغم من ضرورته، بل بكمّية النقد الذي تواجهه هذه الحقوق، من حيث افتراضها كحقوق، والنقد الموجّه إلى الجهات المسؤولة عن تطبيق هذه الحقوق وآلية تنفيذها التي تأتي لتكمل بنية الأفكار حولها، أو تصوّب ما يمكن منها، أو تجردها من قيمتها، فهذه الحقوق، كغيرها من الأفكار (الرأسمالية، الشيوعية، الديمقراطية، الليبرالية..)، وُضعت تحت مطارق المفكرين والباحثين والكتاب، في المجالين القانوني بسبب الانتهاكات المختلفة له؛ والأخلاقي بما يمثله من فكرة عاطفية أو طوباوية، لدرجة اعتباره مجرّد نظام مُتخيل أو إحدى الأساطير، ويقول يوفال نوح هراراي، في كتابه (العاقل- تاريخ مختصر للنوع البشري)، بأن “لا وجود لتلك الحقوق خارج القصص التي يخترعها الناس ويُخبر بعضهم بعضًا بها، لتصير خيالًا إيمانيًا مشتركًا مثلها مثل: وجود وطن وقوميات وقوانين وعدالة وأموال وآلهة، يجتمع حولها البشر كما اجتمعوا حول اعتقادهم بالأشباح والأرواح وغيرها من خرافات، ونرفض تصديق أنها مجرد خيال، فهناك خطر أن ينهار العالم”.
وبالعموم، تبقى مسألة حقوق الإنسان غير خاضعة لأخلاقيات الافتراض الأولي بوجود حقوق ونقض الفرضية فقط، إنما بأن كل الأفكار التي عمل البشر على تحويلها إلى قوانين شكّلتها الحاجة. وكل القوانين الأولى -منذ تكوّن الأعراف- اتّبعها البشر كقضايا غير خاضعة للجدل، وفقدان أي جزء منها يؤدي إلى مشكلات على الصعيد المجتمعي، وإن كان عرفًا بائسًا وسيئ المردود، بالنسبة إلى حق البشر في الحياة، ومع الدول الحديثة، يصبح الحديث عن القوانين أكثر فعلًا، بل يتحول وجوده وتنفيذ بنوده إلى مطلب، بغض النظر عن اقترابه وابتعاده مما يُعدّ “عقيدة” حقوق الإنسان، فالبشر لا يمكن أن يستمروا في حياة منزوعة من الحقوق، أو العيش تحت ظل أنظمة تُقصِّر في تلبية حاجاتهم ومطالبهم، وتحويل نيلهم لحقوقهم إلى مجرد رغبات.
في سورية، بعد مُضيّ عشر سنوات من الانتهاكات المختلفة، والعجز الكبير أمام كتلة مُكتملة من الحاجات والمطالب، يصير تطبيق “حقوق الإنسان: للفرد، الفقير، اللاسياسي” رغبةً لا يمكن التخلّي عنها لبناء واقع أفضل، أو بحدود أقلّ، سيبقى “إعلان حقوق الإنسان” أساسًا صالحًا للعمل، كضمانات أخلاقية تساعد في طرح مطالب المجرّدين من الحقوق، والمضطهدين في بلدانهم، لأي اعتبار من الاعتبارات التي تكثر في الأنظمة الشمولية، باعتبارها الظاهرة السياسية للقرن الحادي والعشرين؛ فهذه الدول يتمثل مبدؤها في إنكار الحقّ، وتفريغ القانون الوضعي من معناه، وإحلال القهر مكانه، ولا يمكن إدانة قانونها، إلا من خلال قانون أكثر جدارة واحتواء منه، من الناحية الأخلاقية الإنسانية.
وبالنتيجة، لكي يعمل القانون فعلًا كقيمة مشتركة بين جماعات مختلفة ضمن مجتمع ما، ويكون مناسبًا لِحسّ مشترك كحدٍّ أدنى للحوار والنقاش والتواصل، ينبغي أن يكون بعيدًا من لعبة المصالح الخاصة لفئة أو سلطة، بحيث يُشكّل معيارًا مرجعيًا للجميع، ولا يمكن لمطلب تطبيق الحقّ الذي يتضمّنه الدستور أن يُشكّل سوى الخطوة الأولى لرسم العلاقات بين السلطة والدولة والقانون القائم، ولتحديد من يملك الحقّ نفسه في الدولة.
هوازن خداج - مركز حرمون للدراسات المعاصرة