الغوغائيون موجودون في كل زمان ومكان، لكنهم يكونون، عمومًا، أكثر انتشارًا مع ارتفاع نسبة الجهل، وخلال الأزمات. ويعدّ التأخر الثقافي، وتأخر الثقافة السياسية بشكل خاص، البيئة الملائمة لنمو وازدهار الغوغائية، ولا شك في أن هيمنة الخطاب الغوغائي في مجتمع ما تكون، غالبًا، مؤشرًا قويًا إلى انهيار وتحطّم أو انحطاط النخب الثقافية السياسية القادرة على بناء الوعي العام والقيادة وتقديم المفيد للبشر. كذلك، غالبًا ما تكون مراحل الأزمات والثورات والانتقالات السياسية وغياب الدولة هي أكثر المراحل الملائمة لانتشار الخطاب الغوغائي وسيطرته، بسبب قابلية البشر خلالها للانقياد لكلِّ من يدعي قدرته على إخراجهم مما هم فيه، وإنهاء مشكلاتهم وأزماتهم.
تتحول الغوغائية إلى سلوك جمعي يصيب المجتمعات، ويهيمن على المجال العام، ويمتلكه، وإلى ظاهرة عارمة ومهيمنة، عندما يحدث فراغ في السلطة؛ إذ يستغل الشعبويون وروّاد الغوغائية حالة الفوضى وأحوال البشر ومعاناتهم لتسويق مشاريعهم الأيديولوجية ودعم سعيهم للسلطة وتحقيق مصالحهم عبر تبني شعارات بسيطة وإطلاقية لديها القابلية للتحشيد، وهي عادة ما تكون غير ممكنة أو مستحيلة، على الرغم من أحقيّتها وعدالتها أحيانًا. استثمر هتلر والنازيون الأزمة الاقتصادية في ألمانيا عام 1929، وفي عام 1933 أوصل الغوغائيون هتلر إلى الحكم، وهذا الأخير دمر أوروبا بالاعتماد عليهم. تتغذى الغوغائية من الفوضى، وهذه الأخيرة تستفحل عندما تسود الغوغائية.
خلال الثورات الشعبية، في ظل غياب القيادة الثقافية السياسية الوازنة والعاقلة، يبرز خطر التحول من هدف إسقاط السلطة الحاكمة إلى الانتقام من كل شيء، من الآلة والمصنع والطريق، وإلى سلوك عصبوي تدميري يصطنع أعداء وهميين، فبدلًا من مواجهة جهاز شرطة قاتل وفاسد مثلًا، قد يصبح الهدف تدمير فكرة وجود الشرطة ذاتها، انطلاقًا من عداء شامل ومطلق يهدف إلى إسقاطها كاملًا، فكرةً وأداءً وأشخاصًا، وبدلًا من إنهاء سلطة قائمة، مستبدة وإجرامية، قد يحدث التحول إلى الوقوف ضد أي نمط من السلطة أو القيادة، وضد أي قانون، ومن ثمّ تصبح الفوضى هدفًا مركزيًا لتحركات القوى والبشر.
هذا ما حصل في بلدان عربية عدة، فقد لجأت القوى السياسية، من دون حدٍّ أدنى من الحكمة، إلى الشارع لتحشيد البشر الذين يعيشون أزماتٍ خانقة، انطلاقًا من شعارات غوغائية، مثل الدعوة إلى مليونية “نصرة الشريعة” التي أعلن عنها التيار السلفي رافعًا شعار “ارفع رأسك فوق… أنت مسلم”، ما دفع المصريين الأقباط لرفع شعار “ارفع رأسك فوق.. أنت قبطي”، ومن ثمّ أصبح التحشيد العدائي غاية القوى السياسية والمجتمعية، ما أدى إلى تدمير الحقل السياسي كله، وعطَّل بناء حقل سياسي وطني، وليصبح التشظي أخيرًا سيد الموقف، والفوضى الملكة التي يعبدها الجميع.خلال الثورات هناك خطر من استبداد الشعبويين والغوغاء.
هذا ما حصل في الثورة السورية مثلًا، وما زال مستمرًا؛ يكفي أن تجد وسيلة إعلامية لتظهر على شاشتها، ولتؤكِّد بصوتٍ عالٍ على إسقاط النظام السوري بأركانه ورموزه كافة، أو لتطلب تدخلًا أميركيًا، حتى تصبح قائدًا أو سياسيًا لا يشقّ له غبار، ومن ثم تحجز لك مقعدًا في “المجلس الوطني” أو “الائتلاف الوطني” أو في أي هيئة قيادية أخرى، أما الإجابة عن أسئلة الواقع الحقيقية والجوهرية؛ كيف؟ وما الوسائل؟ والمراحل؟ ومتى؟ ونقاط القوة والضعف؟ والعلاقات الدولية؟ وغيرها، فهذه لا تثير شهية الشعبويين والغوغائيين على التفكير والعمل، لأنهم سرعان ما يضجرون. يكفي أن نلاحظ الرهاب الذي شكله الشعبويون والغوغائيون لكل الذين حاولوا التأمل والتفكير فيما جرى ويجري، والتحشيدات والعداوات والتصنيفات التي بنوها خلال السنوات الماضية استنادًا إلى معايير سطحية ووهمية.الشعبوية والغوغائية تعتمدان على بعضهما بعضًا. عندما تتعانق الشعبوية والغوغائية في الخطاب السياسي سنكون أمام كارثة محقّقة.
القائد الشعبوي لا يقود، بل يُقاد ممن يظنّ قيادتهم، يركب على أي تحرك شعبي، ويتملق البشر وينافقهم، هدفه الرئيس الاعتراف بقيادته وأهليته والوصول إلى السلطة، متنكرًا لأبسط معايير العقل، ينتحل خطابًا دعائيًا وتحشيديًا وغرائزيًا وقطعيًا، وأحيانًا عدائيًا، وتثير شهيته الانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية والقومية فيبني خطابه على أساسها.
تزداد الكارثة عندما يكون القائد الشعبوي غوغائيًا. في ثلاثينيات القرن الماضي، أنتجت الشعبوية الفاشية والنازية في أوروبا، وبعد الاستقلال في أواسط القرن الماضي أنتجت الحكام الدكتاتوريين في المنطقة العربية. الغوغائية عنصر مشترك بين الداعشية والنازية والفاشية والسلطات الدكتاتورية والتيارات الإسلاموية والقوموية واليسراوية العصبوية.
من نافل القول إنه لا وجود للديمقراطية مع سيطرة الغوغائيين ومع نهج الاستثمار في الغوغائية. في منطقتنا العربية، تعتمد كثير من القوى السياسية على الاستثمار في الغوغائية لزيادة رصيدها وحضورها. الجماعات الأيديولوجية، مثل الجماعات القومية والدينية واليسارية، كلها انتهجت الشعبوية واعتمدت على الغوغائيين، ولذلك تحولت هذه الجماعات من عامل مساعد في البناء إلى عامل هدم، خصوصًا عندما استثمرت في الديمقراطية ذاتها، وحولتها إلى صندوق انتخاب فحسب.
المعركة ضد الاستبداد هي ذاتها المعركة ضد الجهل، ولا معنى أن يكون المرء ضد الاستبداد، ونصيرًا للجهل في آن معًا، ولا معنى لادعاء المرء الديمقراطية عندما يسبح عقله، وتدور ممارساته، في فلك الغوغائية. الغوغائيون هم حكمًا نصراء الاستبداد، أكان استبدادًا سياسيًا أم دينيًا أم قوميًا أم يساريًا، وهم غير صادقين أو مخلصين عندما يرفعون شعاراتهم ضد الاستبداد، فكلُّ همهم استبدال استبداد باستبداد آخر.
ليس كل اجتماع أو تجمهر للبشر فيه خير. في بعض الأحيان يشير التجمهر إلى خلل عميق في الرؤية إلى الفرد، وقيمته، ورأيه، واحترام حقوقه، والاعتراف بكينونته. أحيانًا، قد يطمس التجمهر الغوغائي الأفراد، ويلغي التمايزات في ما بينهم، ويحولهم جميعهم إلى مسوخ متشابهة، ولذلك ترتبط سهولة القابلية للتحشيد والتجمهر بتناقص قيمة الفرد في مجتمع ما. يقينًا إن تجمعات الأفراد الأحرار أو الساعين إلى الحرية حقًا تختلف كليًا عن التجمهر الغوعائي.
وصف عبد الرحمن الكواكبي، في طبائع الاستبداد، الغوغائيين بقوله: “هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون” مشيرًا إلى غياب منفعتهم، لكن الإمام علي بن أبي طالب أشار، في نهج البلاغة، إلى ضررهم بقوله: “هم الذين إذا اجتمعوا أضرّوا، وإذا تفرّقوا نفعوا، فقيل: قد عرفنا مضرة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟ فقال: يرجع أصحاب المهن إلى مهنهم، فينتفع الناس بهم كرجوع البناء إلى بنائه، والنساج إلى منسجه، والخباز إلى مخبزه”، وحذر منهم النعمان بن بشر، طالبًا من العقلاء مواجهتهم: “يا أيها الناس خذوا على أيدي سفهائكم قبل أن تهلكوا”.لكن مواجهة الغوغائية غير ممكنة بنخبوية مريضة، بل بمثقفين وسياسيين وتنويريين مندمجين بهموم مجتمعاتهم، يؤمنون بأن الحقيقة أهم من الشعارات والأيديولوجيات كلها، ويستطيعون التوفيق بين احترام البشر من جهة ومخالفتهم الرأي من جهة أخرى، ويسلكون طريق تبسيط رؤاهم وتصوراتهم العقلانية والنقدية لأن غايتهم تعميم المعرفة لا التفاخر بعلومهم.
كلتا الطريقتين، الغوغائية والنخبوية، غير مفيدتين؛ فالنخبويون يحصرون مجالهم في فئة معينة، يتحدثون ويطربون لأصواتهم وصداها، فيما الغوغائيون يتعمدون التلاعب بالعاطفة وإثارة الحروب وتصفية الحسابات أكثر من اهتمامهم بالتثقيف والتعليم والتوعية. البناء غير ممكن من دون التفكير بعيدًا من الضوضاء والضجيج، والتغيير الإيجابي لن يكون إلا عبر عمل هادئ ومتواصل يستند إلى رؤية عقلانية لا إلى عواطف جامحة، وإن كانت صادقة ومحقة.في قواميس اللغة، تعني كلمة “غوغاء” الرعاع من البشر. وسُمّوا كذلك لكثرة لغطهم وصياحهم وجلبتهم، وأُخذت الكلمة من صوت الجراد حين يَخِفُّ للطيران، ربما لأن القاسم المشترك بين الغوغائيين والجراد هو الفوضى والعشوائية والتسرّع؛ تصف الكلمة صوت الجراد حال انطلاقه في الطيران بعد أن تنبت أجنحته، إذ يشكل أسرابًا تنطلق لتدمِّر كل ما هو أخضر في طريقها.
يقول خبراء إن الجراد لا ينطلق في أسراب مرتحلة كبيرة بحثًا عن مناطق خضراء جديدة فحسب، بل أيضًا هربًا من مصير أن يكون كل فرد فيها فريسةً لغيره، عبر الحفاظ على مسافات فاصلة بين أفراده تحول دون أن يقضم أحدُهم غيرَه من الخلف، ما يعني أن أسراب الجراد محكومة بالفزع من بعضها بعضًا، وأن الخوف هو عامل أساس في تحولها إلى حشود تدميرية.في الزحام الغوغائي يسيطر على كل فرد شعور الفزع بأن الآخرين منافسون له ويتربصون به، فيتصرف على أساس أنه في صراع معهم، ومن ثم تزداد قابليته للانفجار والعدوانية والتعصب والعنف لأوهى الأسباب، وهذا يؤدي بالضرورة إلى هيمنة الصراخ والضجيج على الفضاء المجتمعي، ومن ثمّ انحطاط الذوق العام. الغوغائي هو إنسان مسكون بالخوف، وسلوكه التدميري لا يعبِّر إلا عن هذيان المذعور.
حازم نهار _ المدن