syria press_ أنباء سوريا
أخبرتني صديقةٌ، ذات مرة، أن لها صديقة كانت موضع سرّها، ورفيقتها في تفاصيل الحياة اليومية، في الأحزان قبل الأفراح، صداقة من النوع الذي يعتدّ به، ويعوّل عليه، ليكون إلى نهاية الحياة، أخبرتني أن صديقتها ابتعدت، اختفت من حياتها فجأة من دون سبب. حاولت صديقتي معرفة سبب ما حصل منها، اتصلت بها مرّات، وحاولت سؤالها عا يحدث، لكن تلك لم تعطها إجابة شافية، وبقيت مبتعدةً، وكأن لا صلة ربطتها بها عمرا طويلا. لا بأس، حتى العلاقات الإنسانية يبدو أنها تنتهي، وأن لا شيء يدوم إلى الأبد. حصل هذا معي أيضا عدّة مرات. تقاطعني من كنت أتعامل معهن كصديقات فجأة، وأنا هنا، في كل الحالات، أتحدّث عن نساء مثقفات ومبدعات. صديقاتي شاعرات مثلا، قاطعنني من دون أن أعرف السبب حتى اللحظة. إحداهن بيني وبينها صداقة قديمة وعلاقة فيها من الترابط الإنساني والثقافي الكثير، على الرغم من محاولاتي العديدة معرفة أسباب قطعها الصلة بيننا، هي والأخريات، عبر الاتصال بهن، وإرسال رسائل لمعرفة ماذا يحدُث، ولكن من دون جدوى. لا أخفيكم أنني شعرتُ بالخذلان، إذ لا شيء يعادل خسارة صديقٍ قريب جدا، لكنني تعلمت بعدها (للأسف) أن أضع عتبةً في علاقتي مع أي شخص، عتبة حماية، تقيني من أذى الخذلان والخيبة، إذ إن الحياة أقصر بكثير من أن نقضي جزءا منها في مكابداتٍ لا معنى لها، ولا يد لنا فيها أصلا؛ إذ لكل شيء نهاية، فالمزاج والعقل الباطن يتحكّمان بنا إلى حد مهول. أكاد أجزم أن جزءا كبيرا من الأصدقاء الذين فقدناهم في حياتنا يرجع فقدنا لهم أو فقدهم لنا إلى ألاعيب العقل الباطن، واضطراباتنا النفسية التي لا نعيها، ولا ندرك وجودها أساسا.
ثمّة في علاقة الصداقة ما يميزها عن باقي العلاقات الإنسانية الأخرى، فهي تتم بناء على اختيار عقلي وعاطفي، منفعي وفاضل (حسب أرسطو) الذي أضاف المتعة أيضا إلى بنية الصداقة، لكن ذلك كله قائمٌ على الاختيار الشخصي، حيث لا دور للغريزة (الجنسية) كما في الحب، ولا دور للمصادفة، كما في العلاقات الأسرية، وهو ما يضع الصداقة في المرتبة الأولى من العلاقات الإنسانية، إذ إنها تحتمل كل شيء من دون ضغوط خارجية، فهي من العلاقات الإنسانية النادرة التي لا تخضع لشروط الوصاية المجتمعية، ولا لمعاييرها، إذ إن ما يربط الأصدقاء هو التقارب الفكري المشترك الذي هو حصيلة تراكم خبراتٍ عديدة. ولعل هذا ما يجعل من خذلان الصديق أمرا ممضّا جدا، فهو يفقدنا الثقة بقدراتنا وصوابيتنا في الاختيار، ذلك طبعا حين نكون مدركين الآلية التي نختار بها أصدقاءنا، مدركين الروابط التي تجمعنا بهم، وهو ما يحتاج لأن ندرك، أولا، ما نحن عليه حقيقةً وليس ادّعاء، أي أن نعرف ونفهم أنفسنا إلى حد ما كي نتمكّن من التحكّم في اختيارات حياتنا، سيما في الصداقات.
لا شيء يدوم إلى الأبد حتى الصداقات، على أن علاقاتنا القائمة على الاختيار الشخصي تحتاج إلى جهد لبنائها بشكل سليم، وإلى جهد آخر للحفاظ عليها. أعتقد أن هذا الجهد يتلخص في كلمة واحدة هي “الوضوح”، أو وعي الوضوح في بناء علاقة الصداقة، الوضوح الذي يعني أن أخبر صديقا حين أنتبه إلى تصرّف أو سلوك، سبّب لي إزعاجا أو توترا ما، بانزعاجي، وأطالبه بترير سلوكه معي. والوضوح يعني أن أستمع إليه وأن أناقشه، وأن نحاول الوصول إلى صيغةٍ لفهم ما حدث وتجاوزه. الوضوح يعني أيضا أن يتيح لي صديق سبّب سلوك مني له غضبا ما أن أعرف خطئي معه، وأن أبرّر ما فعلته، وأن يتيح لي ميزة الاعتذار إن كنت فعلا مخطئة. الوضوح يعني أيضا أن أطالبه بالوجود معي في لحظات فرحي وحزني، وفي الأوقات التي أحتاجه فيها لمجرّد الاستماع إلى هواجسي. الوضوح هو أن يفعل ذلك من دون أن يشعرني بأنني أثقل عليه بما أطلبه. الوضوح هو في تبادل هذه “المنفعة”، كما أطلق عليها أرسطو من دون تذمر ومن دون تراجع، إذ ليس هناك ما هو أسوأ من انسحاب طرفٍ من علاقةٍ ما، سيما الصداقة، من دون أن يُتاح للطرف الآخر معرفة السبب وراء هذا السلوك، حالة من النرجسية، المختلطة مع الجبن والخوف من المواجهة. الصداقة الحقيقية تتطلّب شجاعةً بقدر ما تتطلب مرونة، تتطلب غيريةً بقدر الأنوية. لا تخذلوا أصدقاءكم الحقيقيين، إذ نحن في زمن الافتراض، وفي زمن الافتراض يصبح الواقع الجميل مثل جوهرةٍ في وسط التراب.
رشا عمران _ العربي الجديد