تعد مدينة جرمانا بريف دمشق خير مرآة انعكست فيها الظواهر الاجتماعية الهجينة على مدار سنوات الحرب السورية، والتي أخذت تظهر وتترسّخ شيئاً فشيئاً حتّى باتت أقرب إلى التقاليد والأعراف التي لا يمكن أن تثير دهشة المرء أو استغرابه، وتلوح ظاهرة تعاطي الشباب للمخدّرات والاتجار بها كأكثر هذه الظواهر خطورةً وتأثيراً على حياتهم؛ لأنّها بمنزلة الخطوة الأولى على طريق العطالة الفكرية والانحلال الأخلاقي.
فما الذي حدا بشباب جرمانا وغيرها من المدن السورية إلى اجتراح كهذه الحلول المرفوضة اجتماعياً؟ وكيف تحوّلت حياة البعض منهم من الدراسة وبناء الذات وتطوير المهارات إلى حياة اللذّة والخدر وإضاعة الوقت والبطالة؟ والأهمّ.. ما هي أنواع المخدّرات التي يتعاطها الشباب ويتاجر بها؟ ومن أين تأتي؟ ومن يدعم وجودها بين أيديهم؟
التحوّل الكبير.. “واحدة في الصباح وأخرى عند منتصف الليل”
لم يعد أهالي جرمانا، ومنذ أكثر من خمس سنوات، يرضون بخيار التضحية بأولادهم في سبيل النظام، وراحوا يبحثون عن سبل لتخليص أبنائهم؛ إمّا بتسفيرهم خارج البلاد أو بإرسالهم إلى السويداء.
واليوم يغدو من بقي من شباب المدينة كمن فقد بوصلة الحياة؛ فهم كما يقول معتز (28 عاماً):
” نحن فئة محكوم عليها بالقمع والبطالة والفقر والاكتئاب وانسداد الأفق في ظلّ سلطة غير شرعية لا تعترف بحقوقنا وإنّما فقط بواجبنا (المتخيّل) في أن نضحّي بأنفسنا لضمان استمراريتها في التشفّي ممّن بقي من سوريي الداخل”.
وتحت وطأة كلّ تلك العوامل، من التهميش والملاحقة وردم الآفاق المأمولة، يخضع المجتمع الشبابي في المدينة إلى تحوّلات عميقة تهدّد مستقبلهم العلمي والمهني وتضعهم شيئاً فشيئاً على طريق الزيغ الأخلاقي والجريمة المحتملة.
وللكشف عن هذا التحوّل الاجتماعي والمراحل التي مرّ بها على مدار تسع سنوات حرب، التقى تلفزيون “سوريا” بمجموعة من الشباب الذين نشؤوا وشبّوا في أزقّة المدينة ومدارسها وشوارعها.
بدا لنا معتز، طالب في كلية الآداب جامعة دمشق، أقلّهم حماسة للحديث عن ماضيه، فيقول لموقع تلفزيون سوريا:
“إنّ فكرة نبش الماضي بحدّ ذاتها تولّد شعوراً سيئاً في نفسي. فكيف سيكون الحال عندما نشرع في الحديث عنه؟”
لم يوفَّق معتز في اللحاق بزملائه إلى الخارج، فتوفّي والده بعد بضعة أشهر من اتخاذه للقرار، فاختار أن يبقى إلى جانب والدته وشقيقتيه اللتين ما تزالان طالبتين في المدرسة.
متى بدأت تدخين الحشيش؟
“بعد وفاة والدي بثلاثة أشهر التقيت بصديق قديم كان منزله بحارتي السابقة، أصرّ صديقي على أن نعدّ لسهرة نستعيد فيها ذكريات الطفولة وكذا الأيّام الجميلة، وفي تلك السهرة دخّنت للمرّة الأولى سيجارة حشيش، ضحكت بعدها كما لم أضحك في يوم، ومن يومها إلى يومنا هذا وأنا أجد بتدخين الحشيش نوعاً من السعادة والسلام.”
إلى كم سيجارة من مخدّر الحشيش تحتاج يومياً؟
“حسب اليوم، عادةً ما أدخّن واحدةً في الصباح وأخرى عند الظهيرة بعد الطعام، ونهايةً عند الليل عندما أستلقي في فراشي”.
يتعاطى معتز مادّة الحشيش المخدِّر يومياً وحده أو برفقة أصدقائه الذين يتراوح أعمارهم بين الستّة عشر والسبعة وعشرين عاماً، وهم معظمهم من الطلبة الجامعيين، كما ويشير معتز إلى أنّ هؤلاء الشباب إمّا لا يشتغلون بالمطلق أو أنّهم يعملون في أعمال متقطّعة عادةً لا تكفيهم مصاريف تبغ وكحول ومخدّرات واتصالات، فضلاً عن المواصلات التي غالباً ما يتحاشون الذهاب إلى الجامعة بسبب عدم امتلاكهم لمصروفها ومصروف الأطعمة والمشاريب في مقاصف جامعاتهم.
“دقّ الوشوم أفضل من الوظيفة الحكومية أو الخاصّة”
التقينا بسها (21 عاماً)، طالبة هندسة في جامعة دمشق، والتي استقبلتنا في ورشتها الصغيرة في جرمانا. تعمل سها في نقش الوشوم ورسم رسومات تجارية بالفحم، هي أيضاً لم تكمل جامعتها التي تصفها بالمقزّزة، انتقلت من منزلها مطلع العام وتسكن الآن وصديقها الرسّام محمّد في شقّتهما التي هي في القسم الثاني من الورشة.
سها أنت فتاة تركتْ منزلها وجامعتها وسكنت مع رجل غريب عنها دون مبرّر اجتماعي، تدخّن الحشيش وتتعاطى حبوباً للاكتئاب والآلام المركزية، تشرب الكحول وتعمل في عمل غير تقليدي. لو أنّ الحرب في سوريا لم تحدث هل كنت لتكونين ما عليه الآن؟
“لا أجد ما هو معيب في نفسي الآن، فأنا إنسانة مستقلّة ولي عملي فضلاً عن كوني بالغة وأستطيع أن أحدّد ما هو الخطأ وما هو الصواب. ولكن من وجهة نظر أخرى أعتقد أنّ الأمر كان ليكون أصعب من ناحية أهلي.”
لو افترضنا أنّك متخرّجة الآن وحاصلة على وظيفة ما ومقبلة على الزواج من الرجل الذي تحبّين. ألم يكن ذلك ليكون أفضل؟
“لي صديقة تكبرني بالسنّ وكانت تخرّجت من كليتي ومن ذات القسم الذي كنت فيه منذ عامين وهي تعمل الآن في معمل للألبسة القطنية المطبوعة كمشرفة على التصاميم المطبوعة وعمل الآلات وفقاً للمعايير المطلوبة، تعمل لمدّة تسع ساعات يومياً عدا يوم الجمعة وتتقاضى تسعين ألف ليرة شهرياً، المبلغ ذاته الذي أطلبه عند دقّي لوشم متوسّط الحجم. إنّها ببساطة صفقة خاسرة على المستوى المادي أن أكون موظّفة براتب لا يتجاوز الخمسين دولارا. وبالنسبة لي لم أكن راغبة في هذا النوع من الدراسة، كانت تلك رغبة أمّي أن تراني مهندسةً بحجم الدنيا، وأنا عن صغر عقل طاوعتها، ولو عاد بي الزمن لسجّلت في كلّية الفنون الجميلة.”
ما حاجة فتاة في سنّك إلى الكحول والمخدّرات بأنواعها؟
” لا أريد أن أبدو كما لو أني أبالغ، ولكن معظم شباب جرمانا وفتياتها يتعاطون المخدّرات، أو على الأقلّ كلّ أصدقائي وصديقاتي، كانت في البداية نوعاً من الاحتفالية واللهو، ثمّ تحوّلت إلى مصدر رزق لبعضنا، ثمّ إلى شيء أساسي في كلّ جلسة أو استراحة عمل أو اجتماع للأصدقاء. يؤلمني أحياناً أنّني أقع في فخّها أثناء العمل فلا أعود قادرة على إكمال اللوحة أو الوشم، أشعر بالإعياء بعد تناولي لحبّة أو اثنتين في السهرات، ولكن هناك لحظات بعينها من التجربة هي التي تحملني لتعاطي هذه المادّة أو تلك مجدّداً. أمّا بالإجابة عن سؤالك.. فلا أعرف ما هو السبب تماماً.. إنّها موجودة والجميع يأخذها وأنا واحدة منهم”.
تبدو سها كضحية لظاهرة اجتماعية لا تقوى على صدّ أثرها أو كشف القناع عنها، فهي تشعر بآلام المعدة بعد تناول حبّ “الترامادول” أو بالإعياء بعد تعاطيها حبّة “زينكس” أو الخدر المصحوب برعشة ولذّة آنيتين بعد تدخينها للحشيش؛ مضيّعةً ساعات عملها بالاستلقاء والإعياء و”الصفنات” التي لا تصل إلى حدّ التأمل وإنّما الشرود فحسب.
والتقينا بالعديد من الشباب والشابات الذين لم يبخلوا علينا بالكشف عن هذا النمط من الحياة الذي يعتمد على إيقاعات الخدر البطيئة والمذهبة للعقل؛ فمنهم من تباهى بكونه يدخّن الكثير من الحشيش ويتعاطى كميّة ضخمة من الحبوب، ومنهم من ادعى أنّه بطريقهِ للإقلاع بالتزامن مع نفثه لآخر خيوط الدخّان/الحشيش من فمه، ومنهم من عزا تعاطيه إلى هموم ومشكلات حياتية لا تتجاوز المستوى العاطفي، وبعضهم أرجع ذلك إلى انسداد الآفاق وعدم وجود العمل والاكتئاب العام الذي ولّدته ممارسات الحكومة الفاشلة في إدارة الدولة وقمع الشباب وملاحقتهم على مدار السنوات التسع الماضية، وآخرون اعتبروا أنّها ضروريات العزلة التي بدورها ضرورة لعدم الاشتراك والمساهمة أو التطبيع مع هذا النظام الذي أورثهم خيبة عارمة وصدمة لم يفق أحد منها بعد.
تعدّدت أسباب سقوط واستسلام الشباب وبقي الفخّ واحد.. الإدمان. فما هي أنواع المخدّرات التي يستهلكها الشباب؟ من أين يجيئون بها؟ كيف توزّع؟ من المسؤول عن ذلك؟ كلّها أسئلة كانت تراودني أثناء استماعي لهم، وأسعى الآن للكشف عنها.
الحجّي.. أو رجل المخدّرات الأوّل في جرمانا
موزّع أقلّ ما يقال عنه أنّه لا يعي من اليوم إلا ساعاته الأولى، فضلاً عن تورّطهِ في العديد من الجرائم المحلّية التي كان آخرها إطلاق رصاص على دورية أمن داهمت منزله.
الحجّي شاب في الخامسة والعشرين من عمره، وهو مقاتل في صفوف النظام في ما يسمّى الفرقة الرابعة والتي تُعرف بتبعيتها إلى ماهر الأسد، يخدم منذ سبعة أعوام في منطقة القصير المتاخمة للحدود اللبنانية السورية.
يقول الحجّي عن تجارته:
” إنّها بذرة (يقصد بالبذرة نوع من الحشيش) واحدة تأتي من البقاع اللبناني عبر مقاتلي حزب الله إلى منطقة القصير حيث تتركّز قوات حزب الله وبعض فرق الجيش السوري حيث أخدم أنا، وهناك يتمّ خلطها بمادّة الحنّاء وبعض الحبوب المخدّرة بحسب الصنف المراد إنتاجه، وبحسب مقدار الخلط تصنّف جودة البذرة، وللتفريق بين الأصناف يتمّ فرز الكمّيات بحسب الجودة وكبسها في مكبس مخصّص وملئها بأكياس من القماش الأبيض ومن ثمّ ختمها في أختام كمثل: الأميرة، الخال، سلطانة ..إلخ. وهكذا تكون أكياس الخال أجود من أكياس السلطانة وبالتالي يكون السعر أعلى على سبيل المثال”.
وعن الأصناف الأخرى المتوفّرة يقول:
“هناك الحشيش الفرط، والذي يأتي في أكياس شفّافة، ليس عليه ختم وهو من أردأ الأنواع على الإطلاق، يكاد لا يمكن تدخينه حتّى. أمّا الحبوب فلا يتوفّر في القصير سوى حبّ الكابتاغون أو الكابتيكول بالمسمّى الدارج، وبدوره يقسّم إلى أنواع وهي: الكريستال وسعر الحبّة 2000 ليرة، والأصفر وسعر الحبّة 2500 ليرة، والكابتشينو أو الأسمر وسعر الحبّة 1500 ليرة”.
وماذا عن أسعار الحشيش؟
” يتراوح سعر المئة غرام من الـ30 ألف وإلى غاية الـ80 ألف، أمّا إذا كانت الكمّية أقلّ من مئة غرام، وفلتكن 25 غرام مثلاً فإنّها تتراوح من الـ10 آلاف وإلى غاية الـ18 ألفاً. فهذه المغلّفة في أكياس الخال هي الأغلى بحيث يصل سعرها إلى 160 ألفاً للكفّ أو الكيس الواحد وهو عبارة عن 200 غرام”.
يمتلك الحجّي في غرفتهِ كيساً من نوع آخر فيه العديد من عُلب الحَبّ الدوائية التي سمح لنا بمعاينتها، وكانت على اختلاف أنواعها كالتالي: ترامادول عيار 225، نيودول (مشتقّ من مشتقّات الترامادول) عيار 100، ترامادول ساندي أزرق عيار 50، بارا زولام عيار 2.5، بيوباغلين عيار 100 وعيار 150 وعيار 300. وهي خليط من أدوية الآلام المركزية والاكتئاب والشدّ العضلي، كما أنّها مرخّصة تباع بموجب الوصفات الطبّية، فسألناه كيف يحصّلها وهي محظورة لغير حملة الوصفات، فأجابنا الحجّي:
“هناك العديد من الصيدليات في جرمانا تقوم ببيع هذه الأدوية بأربعة وخمسة أضعاف قيمتها الحقيقية، وبإمكان أيّ شخص أنْ يشتريها شريطة أن يُحسن الكلام مع الصيدلاني”.
كيف تعبر الحواجز من القصير إلى جرمانا دون أن يُكتشف أمرك؟
“غالباً لا يفتّشُ العسكري على الحواجز، وأنا أملك بطاقة خاصّة بالفرقة الرابعة ويستحيل عليهم توقيفي أو تفتيشي أو “تفييش” اسمي حتّى، ولكن للاحتياط، وعندما أحمل كمّية كبيرة، أقوم بالاستعانة بأحد الأصدقاء في الفرقة، والذي يملك سيّارة [مستحيل تتفتّش] مقابل دفعي له عمولة مادية معيّنة”.
هل يعلم كبار الضباط في الفِرقة أنّكم تنقلون المخدّرات باتجاه العاصمة وريفها؟
” لكن شلون عم نصرف على حالنا! بيعرفوا وهنن اللي مزبطين كلّشي مع جماعة حزب الله والإيرانيين”.
يبيع “الحجي” اليوم لشباب المدينة ما لا يقلّ عن خمسة إلى ستّة كيلوغرامات من مخدّر الحشيش بأنواعه، إضافة إلى حبوب الكابتاغون و”الإكس تي سي”، ويصل سعر الحبّة الواحدة منها، بحسب الحجّي، إلى 15000 ليرة.
المصدر: موقع تلفزيون “سوريا”.