مع الحديث عن عمليات عسكرية تركية مرتقبة في مناطق سورية عدة ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، تبرز مؤشرات على تقارب جديد بين “الإدارة الذاتية” التي تمثل الهيئة المدنية لـ”قسد” وروسيا التي تعد لاعبًا أساسيًا في الملف السوري، وتنسق بشكل دائم مع تركيا بشأنه، إلى جانب كونها حليفًا أساسيًا للنظام.
مؤشرات على تقارب جديد
في 28 من تشرين الأول الحالي، هبطت، لأول مرة، طائرة “سوخوي” روسية، في مطار “القامشلي” شرقي البلاد، القريب من القاعدة الأمريكية في المنطقة، والذي تستخدمه الشرطة العسكرية الروسية كقاعدة عسكرية، بحسب ما نشره الصحفي الكردي هوشنك حسين عبر حسابه في “تويتر”.
قبل ذلك بيومين، تحدث الرئيس المشترك لمنظومة المجتمع الكردستاني والرجل الثاني في حزب “العمال الكردستاني”، جميل بايك، في مقابلة مع جريدة “النهار” اللبنانية، عن العلاقة “المتذبذبة” بين “الإدارة الذاتية” وموسكو.
واعتبر بايك أنه “ليس هناك أمر طبيعي أكثر من أن تقيم (الإدارة الذاتية) علاقات مع أي سلطة سياسية لا تهاجم الكرد أو ترفض الشعب الكردي، كما لا شيء يمكن أن يكون أكثر طبيعية من وجود علاقات مع روسيا”.
وقال، “نحن نعلم أن كلًا من حزب (الاتحاد الديمقراطي) و(الإدارة الذاتية) تربطهما علاقات بروسيا”، مشيرًا إلى أن العلاقة مع موسكو كانت في بعض الأحيان غير مباشرة أو مباشرة في أحيان أخرى، وتختلف بحسب علاقات روسيا بتركيا.
وأضاف أنه ليس لدى حزب “العمال الكردستاني” نهج سلبي تجاه روسيا أو أي دولة أخرى، ومع ذلك، هناك دول لديها موقف سلبي تجاه الحزب، بسبب علاقتها بتركيا، لهذا السبب لدى الحزب مشكلات مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
قبل هذه التصريحات بأيام، دخل رتل عسكري روسي مؤلف من عدة مدرعات بحماية من “قسد” من معبر بلدة الصالحية البري الفاصل بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة “قسد” بمحافظة دير الزور.
وعلى الرغم من رفض الأهالي في دير الزور واحتجاجاتهم وقطعهم الطرق، عبر الرتل فجر يوم 22 من تشرين الأول الحالي، إلى بلدة أبو خشب ومنها إلى طريق الخرافي باتجاه الرقة خفية دون علم الأهالي، وسط توتر كبير ساد المنطقة، بحسب ما نقلته شبكة “فرات بوست” المحلية.
وكانت القوات الروسية أزالت قبل مرورها السواتر الترابية المقابلة لقرية الجنينة الواقعة تحت سيطرة “قسد” للعبور إلى الرقة.
خوف من انسحاب أمريكي
تفتح هذه المؤشرات الباب أمام تساؤلات حول أسباب هذا التقارب الأخير، والمكاسب التي سيحققها الطرفان، مع تحركات “الإدارة الذاتية” السابقة ولقاءاتها مع مسؤولين أجانب فاعلين في الملف السوري مؤخرًا.
ويرى الباحث والكاتب السياسي ماجد العلوش، أن قضية هبوط طائرة حربية في القامشلي هامشية ضُخّمت إعلاميًا، لأن المطار خاضع لسيطرة النظام السوري، وربما يكون المهم هو ما يُشاع عن إنشاء قاعدة عسكرية روسية في المطار في وقت لاحق.
وبعيدًا عن المسألة العسكرية المباشرة، فالوضع السياسي هو المهم، وهو ما تعمل عليه روسيا منذ فترة، بحسب ما قاله الباحث في حديث إلى عنب بلدي.
إذ استغلت روسيا “الهلع القسدي” من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وخطط الانسحاب القريب من العراق، لتزيد مخاوف “قسد” وتدفعها نحو المصالحة مع النظام، مستغلة تصاعد التهديدات العسكرية التركية ضد “قسد”، على خلفية اتهام الأخيرة بهجمات ضد مناطق سيطرة “الجيش الوطني” (عفرين خاصة) وضد جنود أتراك.
وكان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قال إنه يقف بشكل مباشر وراء خروج الولايات المتحدة من أفغانستان، مشيرًا إلى أنه “لم يكن هناك وقت مناسب أبدًا لانسحاب القوات الأمريكية”، على الرغم من الانسحاب “الفوضوي”.
وأعلن بايدن في بيان مشترك مع رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في 26 من تموز الماضي، انتهاء الدور القتالي للقوات الأمريكية في العراق مع حلول نهاية العام الحالي، واقتصار دورها على التدريب ومكافحة “الإرهاب”.
التماس موجود والفائدة للطرفين
لم يبدأ حوار “الإدارة الذاتية” مع روسيا الآن، وإنما بدأ منذ التدخل الروسي في سوريا، إذ سيطرت روسيا على مناطق واسعة على حدود مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، الذراع العسكرية لـ”الإدارة الذاتية”، وبالتالي هناك تماس مباشر بين الجانبين.
وتحاول “قسد” اللعب على وتر العلاقات بين الروس والأمريكيين وتناقضاتها، من أجل خلق وضع سياسي وإداري جديد في المنطقة، خاصة مع تراجع الإدارة الأمريكية، بحسب الصحفي السوري فراس علاوي.
وقال علاوي في حديث إلى عنب بلدي، إن روسيا تستفيد من محاولة ملء الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الأمريكي بالتقارب مع الكرد، وبالتالي إيجاد صيغ وتفاهمات سياسية وعسكرية مشتركة في المناطق التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية”، لعودة روسيا إلى المنطقة وإعادة النظام، وتحقيق الحل السياسي في سوريا وفق الرؤية الروسية، إذ لا بد لروسيا لتطبيق حلها السياسي من تضمين الكرد فيه.
ويستفيد المكوّن الكردي من هذا التقارب بإيجاد داعم إضافي في المنطقة، مع تخوفه من انسحاب أمريكي مفاجئ كما حصل في أفغانستان، لذلك هو يريد أن يضمن قوة إقليمية أو دولية تدعم مواقفه في سوريا، ولم يجد أفضل من روسيا التي تملك أوراق قوة في الملف السوري، بحسب علاوي، كما أنه بتقاربه هذا يضمن وجوده في الحل السياسي.
وكانت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية، القائدة البحرية جيسيكا مكنولتي، صرحت أن الولايات المتحدة ستبقي 900 عسكري من قواتها في سوريا للعمل مع “قسد”، لمهمة هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”، بحسب ما نقله الموقع المتخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية “Defense One”، في 8 من تشرين الأول الحالي.
وصرّحت الرئيسة التنفيذية لـ”مسد”، إلهام أحمد، في 7 من تشرين الأول الحالي، أن المسؤولين الأمريكيين قدموا التزامًا واضحًا للكرد ببقائهم في سوريا، خلال لقاءات لوفد “مسد” في واشنطن مع ممثلين للبيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين.
دعم في مقابل العمليات التركية
يرى الصحفي فراس علاوي أن محاولة الكرد التقارب مع روسيا هي دعم للموقف الكردي مقابل العمليات التركية، والاستفادة من التقارب الروسي- التركي في نقاط عدة فيما يتعلق بالشأن السوري، إذ تضمن هذه الاستفادة للكرد نوعًا من المناورة أو العمل السياسي لمنع العملية التركية المرتقبة إن حدثت.
ولا يتوقع علاوي حدوث عملية تركية واسعة النطاق، إذ ربما تشهد المنطقة عمليات تركية “خاطفة وسريعة” في مناطق معيّنة لوقت محدود، وبتأثيرات أقل من سابقتيها (نبع السلام، درع الفرات)، لأسباب كثيرة تتعلق بعدم وجود تفاهمات سياسية حول العملية العسكرية، وعدم القبول الأمريكي لها وتوتر العلاقات الأمريكية- التركية، وحالة الاقتصاد التركية الموجودة.
روسيا بحاجة إلى المنطقة لإعادة الإعمار
يمكن فهم التقارب الأخير بين روسيا و”قسد” في سياق مسعى الأخيرة للدخول في شراكة مع الحكم المركزي في دمشق (أيًا كان هذا الحكم بوجود الأسد أو بعدمه)، وعدم إدخال المحافظات الشرقية الثلاث وتوابعها العشائرية والثقافية على الضفة اليمنى للفرات (خط جرابلس، منبج، مسكنة) كشريك في سوريا، بل إدخالها بوصفها “مالكًا أو ممثلًا حصريًا” لتلك المناطق في شراكة مع الحكم في دمشق.
وهذا المسعى لا يعارضه الروس من حيث المبدأ، لأن الاجتياح العسكري لشرق الفرات مستحيل، والروس بحاجة إلى ثروات الشرق السوري لإعادة الإعمار، أو على الأقل لتمويل مشروع “الدولة الأسدية” الذي شارف على الانهيار أكثر من مرة بفعل الانهيارات الاقتصادية المتتالية والمستمرة، التي لا تزال تهدد المشروع بالانهيار النهائي في لحظة مفاجئة، بحسب الباحث ماجد العلوش.
وقال العلوش، إن شرق الفرات “حلم روسي” سيسعون بكل ما يملكونه من إمكانات وألاعيب سياسية لتحقيقه، لأنه أصبح ضمانة عدم الانهيار الشامل والنهائي لـ”دويلة الأسد” التي دفعوا الكثير للحفاظ عليها.
وأضاف أن مخاوف “قسد” من انهيارها من الداخل تتضاعف بسبب طبيعة مشروعها ورؤيتها للمنطقة، لكنها لن تخرج من “المأتم السوري بخفّي حنين”، فتستميل الروس وتغازل الأسد، وتحتمي بالأمريكي.
وكانت رئيسة الهيئة التنفيذية لـ”مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، إلهام أحمد، قالت خلال اجتماع موسع بحضور مسؤولين في مؤسسات تابعة لـ”الإدارة الذاتية”، في 27 من تشرين الأول الحالي، إنهم التقوا خلال الجولة الأخيرة بمسؤولين في موسكو وواشنطن ولندن، وتطرقوا خلال تلك اللقاءات إلى أهمية الحوار السوري- السوري، وضرورة فتح مساراته بين حكومة دمشق و”الإدارة الذاتية”.
وأضافت أن الأطراف التي التقت بها أكدت دعم مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” في مجال تحسين البنية التحتية، وتقديم الدعم اللازم فيما يخص المشاريع التربوية والاقتصادية.
وزار وفد من “مسد” برئاسة أحمد العاصمة الروسية موسكو، في أيلول الماضي، وبحث مع المبعوث الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، تطورات الأوضاع بمناطق شمال شرقي سوريا، ومستجدات العملية السياسية.
ويعتبر “مسد” الذراع السياسية لـ”قسد”، التي شُكّلت في تشرين الأول 2015، وهي الذراع العسكرية لـ”الإدارة الذاتية” المعلَنة شمال شرقي سوريا، وعمادها “وحدات حماية الشعب” (الكردية)، ومدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية.
زينب مصري _ عنب بلدي