منذ تواتر الحديث عن احتمال الانكفاء الأميركي عن منطقة الشمال الشرقي في سورية، تتسابق روسيا وتركيا على ملء الفراغ المحتمل، وأفسح ذلك الأمر المجالَ للعب الأميركي مع كلا الطرفين، بحيث توحي لروسيا بأنها تدعم رعايتها للقاء (قسد) مع النظام السوري، وفي الآن نفسه، تُطمئن تركيا على مصالحها في المنطقة.
وتحاول روسيا ترتيب أوضاع الشمال السوري، في الغرب والشرق. وفي المقابل، تحاول تركيا التمدد في الشمال الشرقي، لإبعاد خطر (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) على الأمن القومي التركي، مع المحافظة على نفوذها في الشمال الغربي. وفي هذه المقاربة، نحاول أن نرصد مواقف الأطراف المؤثرة في مشهد الشمال السوري، كي نصل إلى تقدير موقف أقرب إلى الصواب حول الطموح الروسي.
المحاولات الروسية المتكررة للتمدّد في الشمال السوري
منذ سنة 2019، سعت روسيا، من خلال الاتفاق مع تركيا على تسهيل عملية “نبع السلام” واستهداف قوات (قسد)، إلى تثبيت وجودها في شرق سورية، بما يعزز خططها في سورية، ويُكسب دورها زخمًا أكبر كدولة فاعلة في الملف السوري، معتقدة أن وجودها في شرق الفرات سيعزز استراتيجيتها في سورية.
وتكررت المحاولات الروسية للتمدد في المنطقة؛ ففي البوكمال ودير الزور والرقة، توجد الشرطة العسكرية الروسية وقواعد عسكرية محدودة منذ سنة 2019، وكانت قد سيطرت على آبار نفط عدة كانت في حوزة الميليشيات الإيرانية، معتمدة على إقامة علاقات وتفاهمات مع أطراف الصراع هناك، خاصة العشائر العربية وقوات “قسد”. واعتمدت على توظيف تناقضات المصالح بين مختلف الأطراف، لزيادة وجودها ونفوذها في تلك المناطق: تخوفات “قسد” من احتمال الضربات العسكرية التركية، وتخوفات العشائر العربية من النفوذ الإيراني في المنطقة.
وقد ظهرت النيّات الروسية تجاه شرق الفرات أخيرًا، من خلال طلب وزير الخارجية سيرغي لافروف من إلهام أحمد، الرئيسة المشتركة لـ (مجلس سوريا الديمقراطية/ مسد)، في أثناء زيارتها لموسكو في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، دخول عناصر من الشرطة العسكرية الروسية، وثلاثة آلاف من قوات النظام، إلى منطقة عين العرب، تحت ذريعة “حمايتها من خطر الغزو التركي”.
توظيف روسي لتخوّف “قسد” من احتمال الانسحاب الأميركي والحشود التركية
منذ التدخل العسكري الروسي المباشر، في أيلول/ سبتمبر 2015، أقامت روسيا علاقة مباشرة مع قيادة مناطق “الإدارة الذاتية”، في الشمال الشرقي من سورية، وتطورت العلاقة تبعًا لتوتر العلاقات الروسية-التركية، خاصة بعد إسقاط الطائرة الروسية في أواخر العام 2015، ولمستوى تنسيق المواقف الروسية- الأميركية في الملف السوري، حيث سمحت لهم بفتح مكتب في موسكو. ولكن علاقات روسيا مع “قسد” في عام 2017، مع تحسّن العلاقات الروسية التركية، شهدَت تراجعًا مؤقتًا لم يصل إلى حد إغلاق مكتبها في موسكو، ولكنه وصل إلى حد قصف قواتها في المنطقة الصناعية ومعمل الغاز، في أيلول/ سبتمبر 2017، لإيصال رسالة إلى الأميركيين بصدد تقاسم النفوذ في المنطقة.
والآن، تستثمر روسيا في تخوّف “قسد” من احتمال انسحاب أميركي مفاجئ، كما حدث في أفغانستان، وتخوفها من حشود تركيا عند حدودها المتاخمة لشمال وشرق سورية، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حيث بدا المشهد وكأن هناك عملية عسكرية وشيكة، لكنّ المعطيات اللاحقة للقاء الرئيسين التركي أردوغان والأميركي بايدن، على هامش قمة العشرين في روما، 31 تشرين الأول/ أكتوبر، أظهرت استبعادًا مؤقتًا للعملية العسكرية التركية، مع وعود أميركية بإبعاد عناصر حزب العمال الكردستاني (PKK)، في صفوف قوات (قسد)، إلى جبال قنديل.
وقد استغلت روسيا المشهد لجر قوات “قسد” إلى جانب قوات النظام السوري، بعد فقدان ثقتها بالولايات المتحدة الأميركية، واعتبارها أنها تخلت عنها أمام الضغوط التركية. بحيث أصبح مصير قوات مناطق “الإدارة الذاتية”، خاصة بعد الزيارات العديدة لقيادات هذه المناطق إلى موسكو، مرتبطًا بالتوجهات الروسية إلى فرض تسوية بين النظام و “قسد”، بما يؤدي إلى احتواء قواتها في صفوف قوات النظام.
الحسابات الروسية الخاطئة حول “الانسحاب” الأميركي من الملفّ السوري
أطلق الانسحاب الأميركي من أفغانستان توقعات متسرعة، لروسيا وتركيا والنظام السوري، رغبة في تقاسم النفوذ الأميركي في الشمال الشرقي من سورية، خاصة بعدما أبدت قيادات قوات “قسد” تخوفاتها من تركها وحيدة أمام التجاذبات الروسية-التركية، وانتظار النظام قبول “الإدارة الذاتية” لشروطه في العودة تحت “سقف الوطن”. غير أنّ ما تسرّب عن لقاءات إلهام أحمد في واشنطن، وتصريحات مسؤولين أميركيين، يشير إلى أنّ واشنطن تنتهج سياسة تنطوي على احتمال إغراق الطرفين الروسي والتركي في الرمال السورية، إيمانًا منها أنّ الأمور ستعود إليها أخيرًا. وأدى أدى إلى سياسات روسية متواضعة إلى حد ما، والاكتفاء برعاية الحوار بين “قسد” والنظام، تبعًا لسياسة “خطوة روسية مقابل خطوة أميركية”، تطبيقًا لما تمَّ الاتفاق عليه في لقاء بايدن-بوتين، في حزيران/ يونيو الماضي.
وفي الواقع، تكتنف الرؤية الروسية لمشهد تفاعلات القوى المؤثرة في الشمال الشرقي السوري أوهامًا عديدة منها:
1 – رؤية الخلافات الأميركية-التركية فرصةً للضغط على تركيا، وانتزاع تنازلات منها لصالح تمدد قوات النظام السوري في جنوب إدلب، لفتح الطريق التجاري الدولي اللاذقية-حلب، أو ما يعرف بـ “M4 “. ولم تدرك روسيا أنّ تركيا لا تأمن الجانب الروسي، خصوصًا أنّ معظم مناطق النفوذ، في ليبيا وآسيا الوسطى والقوقاز والبحر الأسود وأوكرانيا، متنازعٌ عليها بينهما. وبالنسبة إلى تركيا فإن الحليف الأميركي مضمون أكثر، وهي لا تسعى إلى ترك حلف الناتو. مما قد يفقدها القدرة على المناورة التي تتطلع إليها، ويجعلها أسيرة توجهات لا تصبّ بالضرورة في مصالح خياراتها الذاتية، خاصة إمكانية معاناتها نتائج التوافقات الأميركية-الروسية المحتملة.
ثم إنّ روسيا تقدّم الدعم في إدلب للنظام السوري، من أجل تهديد تركيا، وكذلك في تل رفعت ومنبج وعين عيسى، حيث تقدّم الدعمَ لقوات (قسد) -بشكل مباشر وغير مباشر- للهدف ذاته. على أمل أن يُسهم ذلك في ثني تركيا عن أهدافها وتقديم تنازلات لصالح روسيا في القضايا المشتركة التي قد تتجاوز الملف السوري.
2 – امتلاك روسيا لأوراق ضغط على إيران، من خلال الانتشار العسكري في شرق سورية، عبر الاقتراب من منطقة العمليات الإيرانية في سورية والعراق، أي الحاجز الأمني الإيراني الممتد من العراق إلى لبنان. حيث زادت نشاطها أخيرًا لتجنيد الشبان في “البوكمال” و “الميادين” بريف دير الزور، التي تعتبر أهمّ معقل للميليشيات الإيرانية في المنطقة، حيث ضمّ “الفيلق الخامس” المدعوم من روسيا، إلى صفوفه، المئات من الشبان. متوهمة بأنّ هذا الانتشار ستستفيد منه في إطار التفاوض مع الدول الغربية وإسرائيل على الملف الإيراني، متناسية تغلغل النفوذ الإيراني في مفاصل حياة المجتمع في المنطقة.
3 – يبدو أنّ حسابات الحقل الروسي لم تكن على مستوى حسابات البيدر الأميركي؛ ففي حسابات واشنطن أن الوجود الروسي في سورية يُهمّش أدوارَ تركيا وإيران في إدارة الصراع السوري، ما يفتح نوافذ الفرص أمام التكتيك الأميركي للّعب على تناقضات القوى الثلاث؛ ذلك بأنّ روسيا لا يمكن أن تتحرك شرقي سورية إلا بموافقة أميركية، وتكمن الاستفادة الأميركية من ذلك، في دفع روسيا لمواجهة أخطار التمدد الإيراني في الشرق عوضًا عنها، وفي طموح تركيا بدحر “قسد”. ولعلَّ ما قاله وزير الدفاع الأميركي أخيرًا، في مؤتمر المنامة الأمني: “الولايات المتحدة في المنطقة ستبقى وستعزز تحالفاتها مع شركائها”، هو الأهمّ، وليس ما قاله دبلوماسيًا بريت ماكغورغ، كبير مسؤولي الشرق الأوسط، عن أنّ إدارته أقلعت عن ” تغيير الأنظمة”، واتجهت نحو “تغيير سلوكها”، وهو الأمر الذي بنى عليه بعض المحللين استنتاجات غير واقعية. ثم إنّ واشنطن لديها أدوات ضغط، هي الوجود العسكري شرق سورية، ونظام العقوبات الذي يفرضه “قانون قيصر”، وشروط المساهمة في إعمار سورية. أما موسكو، فهي معنية بـتعويم بشار الأسد وفك العزلة عن نظامه، والتوصل إلى تسوية وفق تفسيرها للقرار 2254، مع رفع العقوبات وإعمار سورية.
وهكذا، فإنّ قراءة المشهد الاقليمي والدولي تصعّب الجزم بأن موسكو تتجه نحو شراكة استراتيجية مع أكراد سورية، وأغلب الظن أنها تواصل توظيف “قسد” تكتيكيًا، للضغط على الأطراف الإقليمية والدولية، من أجل التعاون لفرض حل في سورية يضمن بقاءها تحت سيطرة الأسد.
ويبدو أنّ العديد من التعقيدات قد بدأت تلوح في أفق السياسة الروسية في سورية، ويؤكد ذلك تصريح رئيس مجلس العلاقات الخارجية الروسي، أندريه كورتينوف، إذ قال إنّ “تفوّق روسيا في سورية لا يعني فوزها بمعركة إحلال السلام”.
وفي الواقع، تواجه روسيا معضلة مركّبة في سورية، في طريقة التعامل مع تركيا التي تلوّح بعملية عسكرية ضخمة في شرقي الفرات ضد قوات “قسد”، ومع الولايات المتحدة الموجودة على الأرض والرافضة لتسليم سورية للجانب الروسي. ومن الواضح أنها تتخوف من أن تواجه في سورية وضعًا غير مريح، في الأشهر المقبلة، بعد خروج تظاهرات بريف دير الزور رافضة للوجود الروسي، ومنع رتل عسكري روسي من المرور باتجاه الرقة، ورفع بعض المتظاهرين شعارات تدعو لمقاومة ما وصفوه بـ “الاحتلال الروسي”.
ولا نغفل عن احتمال حدوث انسحاب أميركي من شرق سورية، قبل الانتخابات الأميركية النصفية القادمة، وإذا ما حدث ذلك فستكون تركيا أكبر المتضررين من عملية الانسحاب الأميركي، لأنّ الضغط سيبدأ حول موضوع وجودها في الأراضي السورية.
وفي النتيجة، يبدو أنّ اللعب السياسي الذي يمارسه PYD في معادلة الصراع السورية، إنما هو لعب يتمّ ضمن مساحة الهوامش القائمة، نتيجة تباين الموقفين الروسي والأميركي، حيث إنّ هذه المساحة ستتقلص أمام توافق أميركي – روسي، على حل سياسي في سورية.
المصدر: مركز حرمون للدراسات