يبدو أن مشهد الحل السياسي للصراع السوري لا يزال في مربع التنازع الإقليمي والدولي، هذا التنازع يتوزع على قوى رئيسة أربع، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وإيران، وتركيا. مقدمات التنازع مختلفة، وبالتالي أهدافه هي الأخرى مختلفة ومتناقضة، ولهذا لا بدّ من زمن تجتمع فيه هذه القوى على مربع حل، يمثّل في تلك اللحظة ميزان قوى حقيقيًا على الأرض.
ولكن مشهد هذا الحل يغيب عنه فعل قوى الثورة والمعارضة، وهو أمر يُظهر هشاشة دور هذه القوى، وضعف حيلتها، وبالتالي يكشف عدم قدرتها على تغيير الأوضاع القائمة في مشهد الصراع، وفق سياستها التي تبدو أسيرة تنازع القوى.
مشهد الحل السياسي لا يزال في طور متدنٍ، فقرار مجلس الأمن الدولي 2254 لم يدخل حيّز التنفيذ، بل لا يزال أسيرًا للتنازع الرئيس فيه، بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يكشف عن تحويل سلال هذا القرار، التي وضعها دي مستورا، إلى كوّة صغيرة بلا ضوء، هي كوّة اللجنة الدستورية.
تحويل محتوى القرار 2254 إلى سلال، لم تكن الغاية منه ترتيب أولويات تنفيذ القرار، أو السعي نحو تنفيذه، بل كانت تخدم أجندة دولية محددة، هي الأجندة الروسية، التي تقضي بدفع محتوى القرار المذكور، إلى مربع التفسير الروسي له (مربع أستانة وسوتشي).
أمام هذه اللوحة، كيف يمكن للمراقب الحيادي قراءة الحراك الذي يقوم به “الائتلاف الوطني السوري” في هذه الأيام، من أجل توسعة بنيته السياسية، برفد نفسه بممثلين مفترضين عن مكونات الأقليات السورية؟
التوسعة التي يقوم بها “الائتلاف” هي توسعة تتم ضمن إطار بنيته السياسية، التي لا تزال غير فعالة في إدارة الصراع بين الثورة السورية ونظام الاستبداد في دمشق، أو القدرة الحقيقية على تمثيل مطالب هذه الثورة، وهذا يتطلب مراجعة شاملة، يقوم بها “الائتلاف”، تخصّ بنيته وتطويرها ومدى تمثيلها للسوريين.
التوسعة المنشودة، التي يعمل عليها “الائتلاف”، هي توسعة تتم ضمن إطار سياسي تشكّل في لحظة سياسية هذا الإطار ببنيته وتكوينه، وبآليات عمله، وحتى بتوسعته، لا يستطيع تغيير قواعد اللعبة الدولية والإقليمية الخاصة بالصراع في سوريا وعليها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما غاية “الائتلاف” من توسعة بنيته السياسية والتمثيلية دون تغيير بنيته التنظيمية، وآليات عمله، التي تضمن تجدد قدراته واتساع قاعدة تأثيره الوطني والدولي؟
وهل يستطيع “الائتلاف”، بصيغته الحالية، ملاقاة التطورات السياسية للصراع السوري، أم يبقى في حالة عدم وزن في ظل التجاذبات والتناحرات بين القوى الدولية المنخرطة بهذا الصراع؟
الثابت الوحيد الممكن الذي يعيشه “الائتلاف الوطني السوري”، هو حالة العجز البنيوية الموجود فيها، هذه الحالة غير منتجة سياسيًا، لأنها ارتبطت بحالة التشكيل الأولى، وارتبطت بنظام مغلق البنية، فـ”الائتلاف” لم يتشكّل في الداخل السوري، ولم يستطع إيجاد ركائز فعل حقيقية له في هذا الداخل، فهذه الركائز محكومة من قوى حقيقية موجودة على الأرض، هي الفصائل الثورية المسلحة، كذلك، هو لم يستطع أن يكون التمثيل السياسي الفعلي للفصائل الثورية، لأنه لم ينبثق من رحمها، بل تشكّل من قوى سياسية معارضة ضعيفة التأثير بالداخل السوري.
وبالتالي، كيف يمكن لإطار وبنية سياسيين يتكون منهما “الائتلاف”، أثبتا عجزهما عن قيادة مشروع دحر الاستبداد، أن يستمرا كرافعة عمل سياسية بنفس البنية والأدوات؟ أليس المطلوب ثوريًا هو إعادة النظر بهذا التكوين غير الفاعل سياسيًا، والبحث عن طريق جديد، يوفر مرجعية شاملة للسوريين خارج هذا الإطار الذي بات تغييره مطلبًا ثوريًا ووطنيًا؟
لقد أثبتت المعارضة بشتى مؤسساتها (ائتلاف، حكومة مؤقتة، هيئة تفاوض) أنها عاجزة عن الدفاع عن قضية السوريين الأولى، التي ثاروا من أجلها، ودفعوا مئات آلاف الشهداء ثمنًا لها، ومثلهم من المعتقلين وضعفيهم من ذوي الإعاقة.
العجز لا يتعلق بأشخاص، بل بالبنية، التي تحتاج إلى تغيير أنساق عملها الداخلية، لتنفتح على واقع الأحداث وتطوراتها، من منظور المصلحة الوطنية والثورية السورية.
العجز بنيوي، ولا يصلح معه توسيع أو ترقيع أو تزيين.
لهذا تبدو المسؤولية الواقعة على الهيئة السياسية لـ”الائتلاف” كبيرة، فهذه الهيئة تدرك تمامًا أنها عاجزة عن إحداث تغيير نوعي في معادلة الصراع مع النظام، يخدم أهداف الثورة السورية، ولو بالحد الأدنى. وعجزها يدفعها إلى الدفاع عن نفسها، وعدم مكاشفتها للشعب السوري وثورته، ما يراكم من هذا العجز، ويهدّد بضياع القضية الأساسية للسوريين (الخلاص من نظام الاستبداد).
النظام السوري يلعب على هذه الحالة، فهو يدرك أين تقع عطالة قوى المعارضة، أو عطالة فصائلها الثورية المسلحة، وهو يعرف، أن هذه العطالة تأتي من ارتباط أجندات مؤسسات المعارضة بأجندات قوى الدعم الإقليمية والدولية. لهذا يلعب النظام بما يسمى سيرورة التفاوض، ويخضع حينًا لضغوط دولية تأتي من الروس، ويتملص في غالب الأحوال من استحقاقات هذه السيرورة.
وفق هذه الرؤية الملموسة لواقع الحال للصراع السوري، لا يمكن الركون إلى خطوات ترقيعية وتزيينية، تقوم بها مؤسسة “الائتلاف الوطني”، بل يتطلب الأمر أكثر من ذلك بكثير. بالمجرّب (الائتلاف) لا يجرّب ثانية على نفس الأرضية والبنية والإطار.
قد يتساءل متسائل، ما العمل؟
الجواب عن هذا السؤال يتطلب تحضيرات حقيقية لعقد مؤتمر وطني سوري شامل، ينتزع القرار الوطني الذي بات رهينة للقوى الدولية المتدخلة في الصراع السوري، هذا المؤتمر ينبغي أن يتمّ التحضير له على كل الأصعدة، تنظيميًا وسياسيًا وشعبيًا.
تنظيميًا، أي وضع نظام عمل داخلي يحترم إرادة الشعب السوري في اختيار ممثليه وتغييرهم عبر مؤتمرات دورية.
أما سياسيًا، فالأمر الأكثر ضرورة وإلحاحًا هو تحرير القرار الثوري السوري من أي تدخلات في صناعته، وهذا يجعل من قيادة الثورة والمعارضة الجديدة أكثر استقلالًا واعتمادًا على شعبها وقدراته.
أما شعبيًا، فعودة القرار الثوري للشعب السوري، يعني وضع القضية السورية في مسار جديد، تضعف فيه التدخلات الدولية في الصراع وتتعزز فيه الإرادة الشعبية، برفض تقديم التنازلات بما يخص الانتقال السياسي في البلاد من نظام الاستبداد إلى نظام دولة المؤسسات الديمقراطية.
فهل يلجأ “ائتلاف قوى الثورة” إلى الخروج من مربع بنيته وإطاره منتهيي الصلاحية، إلى تجديد بنيته وآليات عملها بصورة تُرضي الشعب السوري الثائر؟ لا يبدو أن الأفق يبشر بذلك.
الكاتب : أسامة آغي_ عنب بلدي