سيريا برس _ أنباء سوريا
يثير الانتباهَ والعجب ذلك التشابه بين نموذج السيطرة القائم في الجزيرة، وذلك الحاكم في دمشق، حيث يقوم كلاهما على احتواء تمثيلات المجتمع السياسية والمدنية، ومنع تخلّق مجال سياسي مستقلّ عنهما، أو خاص بأي كيان مجتمعي أو تجمعي لا ينتمي إليهما، كي لا يكون هناك مَن يختلف عنهما في حقول سيطرتهما التي لا بدّ أن تكون مطلقة ودون منافسة أو معارضة!
والغريب أن من يمنعون بناء تمثيل خاص بالعرب، في الجزيرة وشرق الفرات، يفعلون ذلك باسم حقهم في تمثيل أنفسهم دون تدخل من أي طرف لا ينتمي إليهم، واحتكار تمثيل أغلبية المنطقة العربية التي ترفض أن يمثلها أحدٌ غير الذين تختارهم وتثق بأنهم يمثلون قضيتها وحقّها في الدفاع عن مصالحها وانتمائها إلى وطنها وثورته، ومع ذلك فإنها تواجَه برفض السماح لها بتمثيل نفسها، لأسبابٍ من الصعب (إن لم يكن من المستحيل) قبولها، وهي تتصل بمشروع سياسي يبدأ بإقامة حكم ذاتي، كلبِنة أولى على طريق بناء “أمة ديمقراطية” لا يجوز للعالم السياسي أن يقدّم أو يستوعب خيارًا آخر غيرها، ولا يجوز لأحد رفضها أو معارضتها، بحجة أنها أمّة من نمط جديد، يعني التهاون في تأسيسها التخلّي عمّا وراءها: كردستان الكبرى، الحلم الذي يسعى التوجّه الأوجلاني لتحقيقه، بما يتجاوز الحدود التركية والإيرانية والعراقية والسورية، انطلاقًا من إدارات ذاتية في كردستانات هذه البلدان، ومنها كردستان الغربية، أو “روجآفا”، التي صارت تغطي ربع مساحة الدولة السورية، بعد أن كانت، إلى ما قبل أعوام قليلة، مقصورة على مناطق ثلاث يتكثف فيها وجود الكرد السوريين، هي عفرين وعامودا وعين العرب؛ فهي في نظرية “الأمة الديمقراطية” يجب أن تقوم بإرادة الكرد، وإن انتشرت في مناطق تغلب عليها كثافة سكانية غير كردية (عربية بوجه عام) لأنها، بالنسبة إلى منظّرها أوجلان، تنظيمٌ إنساني يتخطى الوطنية والقومية، ويندرج في سياق أممي لا يجوز تقييد فرص قيامه خارج مناطق كردستان في تركيا وإيران والعراق، أو التزامًا بحقوق من لا ينتمون إلى حامله الاجتماعي المؤسس: الجماعة الأوجلانية.
ما معنى الحؤول، بالقوة، دون تشكيل تمثيلات عربية مستقلة للعرب؟! وما مصلحة الأغلبية العربية في مناطق “الإدارة الذاتية” في أن يمثّلهم غيرهم؟ بل بالأحرى ما هي مصلحة كرد سورية في أن يمثلوا عبر مشروع إقليمي، غير سوري، مَن لا ينتمي قوميًا إليهم؟ وما الحكمة في أن يفعلوا ذلك، باسم قوميتهم وحقوقها التي توضع بصيغتها هذه في مواجهة مبدأ الحق في التمثيل الذاتي لكل جماعة قومية، الذي يرفعه الأوجلانيون أنفسهم ويسوغون به سيطرتهم على من لا ينتمون إليهم، من أغلبية الكرد والعرب؟ وما عساها تكون نتائج رفض تطبيق مبدأ التمثيل السياسي، على من يقولون إنهم شركاؤهم من العرب؟ أليس هذا التمثيل، الذي يجب أن يتم بمبادرة هؤلاء ووفقًا لرغباتهم، أساسَ بناء التحالفات وما تفرضه من تنسيق وتعاون يحترمان حقّهم في التعبير عن مصالحهم، واختيار طرقهم في تبنيها، في إطار المساواة والندية، الذي يقال إن نموذج الأمة الديمقراطية يضمنه؟! أخيرًا، هل تعني مبادرة “الإدارة الذاتية” إقامةَ تمثيل سياسي خاص بالعرب لا يجوز لهم إقامة غيره أو النشاط خارجه، إنّ هذا هو كلّ حقّهم في تمثيل أنفسهم، فإن رفضوه أو اتخذوا موقفًا سلبيًا منه، كان عليهم الركون إلى السلبيّة؛ لأنه لا مكان لهم خارج “الأمة الديمقراطية”، ولا إرادة خاصة ومشروعة قبل قيامها، مهما كان الدور الذي يؤدونه إيجابيًا أو ديمقراطيًا.
ما الذي يكمن وراء موقف الطرف الذي يلاحق مَن يحاولون تمثيل أنفسهم سياسيًا، من عرب الجزيرة الذين يمنحهم المبدأ الديمقراطي الحقَّ في أن يعبّروا عن أنفسهم بالحريّة التي خرجوا يطالبون بها، وضحّوا في سبيلها طوال عشرة أعوام؟ أهو الشكّ في انتمائهم إليها؟ أم هو فارق الوعي السياسي الذي يمنح الإدارة الحقَّ في احتواء كامل المجال السياسي لمن يعيشون فيه، دون أن يسمح لهم بالانتماء إليه، من المواطنين، ويبدو أنهم فقدوا حقّهم في تخطي الفارق بين العيش والانتماء، مع أن تمثيلهم الذاتي والتعبير عن مصالحهم يتكفل وحده بردمه وتوحيد خيارات وإرادة “أهل الجزيرة” المغيّبة اليوم؟ أم هو الخوف من انهيار المشروع الديمقراطي الموعود، القائم لأول مرة في تاريخ الديمقراطية على خضوع الأغلبية لأقليّة خضوعًا لا تنتجُه انتخابات، بل يحرسه السلاح، وترعاه المخابرات “الثورية”، ويوطده تهجير السكان واعتقالهم، وتجريف قراهم، وحرق منازلهم، سواء أكانوا عربًا أو كردًا؟
تعيش منطقة شرق الفرات وضعًا متفجرًا يُدار وينضبط بالقوة العارية، وبالإفساد السياسي القائم على شراء الذمم والتخويف، وحؤول قوة “الأمر القائم” بين عربه وبين تمثيل أنفسهم، ورفضها تمتعهم بأبسط حقوقهم، كأحرار جديرين بتحديد مصالحهم وتحقيقها، في الصراع المفتوح مع الاستبداد، الذي يدور حول وجودهم السياسي والإنساني في وطنهم، الذي لن يقبلوا بتقرير مصيره في غياب السوريين كشعب، وسيدافعون عن حقهم في تعيين حاضره ومستقبله، بما أنه يعادل في أهميته الذاتية والموضوعية حقّ غيرهم فيه، حتى حق أولئك الذين يفرضون نظامًا أسديًا عليهم، ويغطونه بوعود برّاقة، أين هي من وعود الأسدية، التي لم تحجب يومًا ما وراءها من أخطار، وانتهت جميعها إلى ما نراه من كوارث لم يعد أحدٌ ينكرها، ولا ضرورة لتكرارها بلغةٍ وصياغاتٍ أخرى!
ميشيل كيلو _ مركز حرمون للدراسات