ربما علينا تخيُّل سيناريو من هذا القبيل: إثر انطلاق الثورة، أو استباقاً لها، عُقد في دمشق اجتماع “أمني” على مستوى عالٍ جداً. مما اتفق عليه المجتمعون أنهم مقبلون على عمليات اعتقال واسعة جداً جداً، بعضها بهدف القبض على الثائرين، أما النسبة الأكبر منها فبهدف القبض على الشبهة مهما كانت واهية، وعلى الأبرياء من أجل ترويع الجميع. هنا برز سؤال: ما العمل مع مئات الألوف من المعتقلين؟ طلب المسؤول الأعلى الإجابة أولاً ممن يعتقد أنه الأكثر إخلاصاً وحماساً بين رؤساء فروع المخابرات فأجاب: نقتلهم فوراً يا سيدي. طلب الإجابة من رئيس فرع آخر فأجاب: لا يا سيدي، أظن أن الاحتفاظ بهم وتعذيبهم حتى الموت أفضل لتلقين الناس درساً لا ينسوه، فالقتيل يُدفن ويُنسى بسرعة، وهناك كثر مستعدون للموت لكنهم يخافون التعذيب. انقسم الحاضرون بين الرأيين، وفي النهاية قهقه المسؤول الأعلى فرحاً بنفسه لأنه وجد الحل، وخاطبهم بأنه تنفيذاً لمطالب الناس بالديموقراطية يترك لهم حرية الخيار، فمن شاء فليقتل المعتقلين فوراً، ومن شاء فليحتفظ بهم ويعذّبهم حتى الموت.
يبرر لنا تخيُّلَ السيناريو السابق، وما هو أفظع منه، كلامٌ ورد في وثائقي خاص من إنتاج “التلفزيون العربي”، بُثّ قبل خمسة أيام. يقول العقيد جمال الخطيب، وهو المسؤول المباشر عن “بطل” مجزرة التضامن النقيب أمجد يوسف، في التسريب الجديد: “سوريا ساحة حرب، ما في داعي ناخذه ع السجن ونقتله. نقتلهم في الساحة أوفر علينا؛ يعني بالساحة بيموت بطلقة، بالسجن بيكلفنا مئات الدولارات، أكل وشرب، وبعدين بقتله! ليش؟”.
في الوثائقي نفسه، يظهر أمجد يوسف بدايةً وكأنه لا يتذكر حفرة التضامن، إذ يقول: “منطقة التضامن؟ خليني أتذكر.. أنا مشلوش وعندي شغل”. ليس الأمر أنه مشلوش “مشتت الذهن” بسبب تراكم العمل؛ الأفظع أن مجزرة ارتكبها تتطلب منه ذهناً صافياً ليتذكرها، وهذا دليل ساطع على أنه ارتكب الكثير من المجازر، بل لعل قوله “عندي شغل” لا يعني سوى كونه على موعد مع مجزرة أخرى في ذلك الوقت. وكي لا نظلمه؛ ربما يتأفف أحياناً من كثرة الشغل، لا لعدم رضاه عن العمل نفسه، بل كما يتأفف كثر من أعمالهم ولو أحبوها.
النقيب أمجد يوسف، كما يظهر في إحدى محادثات الوثائقي، مستاء أيضاً من مسؤولين وعناصر سيئين نسبتهم 95% “ما اشتغلوا لصالح البلد”، بل “اشتغلوا لمصالحهم الشخصية”. وعلينا هنا أن نفهم ما يعنيه انتقادُه أولئك الفاسدين، بالمقارنة مع أمثاله من المخلصين على النحو الذي رأيناه في تنفيذه مجزرة التضامن. جزء من أقوال والدة الفلسطيني وسيم صيام، والتي رأت مقتل ابنها في فيديو مجزرة التضامن، يوضّح لنا جانباً من ذلك الفساد. تقول والدة وسيم: “كنت أستنى.. وأعطوني بيان عائلي بأنه موجود. ليش يكذبوا عليّ ويبتزونا بالمصاري؟ واللهِ دفعنا ملايين.. انشالله يذوقوا نفس الكأس.
لقد أدى أمجد يوسف واجبه، على النحو الذي يريده “عن قناعة” رئيسه المباشر العقيد جمال الخطيب، ثم بعد ذلك أتى فاسدون وابتزوا أهالي الضحايا التواقين لمعرفة مصير أبنائهم. هو في أداء واجبه، وتوثيق ذلك وتقديمه للمسؤولين عنه، غير مسؤول عن إخفاء الحقيقة، أو عن التجارة الضخمة المتعلقة بالمعتقلين. من جهته، فعل ما ينبغي فعله، ووفّر على الخزينة مئات الدولارات عن كل قتيل أرداه بثمن بخس من طلقات الرصاص.
وقد يكون غريباً للوهلة الأولى أن يعرب العقيد جمال عن غيرته مستخدماً الدولار بدل العملة المحلية، لكنه توخى الموضوعية فاستخدم عملة معروفة القيمة ليكشف لنا عن الكلفة الوسطية للمعتقل، وهي مئات الدولارات لا غير قبل مقتله تحت مختلف أنواع التعذيب ومنها سوء التغذية الشديد. في ظروف أقل وحشية، قبل الثورة بعقود، اختبر معتقلون التنكيل بهم من خلال الطعام، كأن يحصل الواحد منهم مثلاً على خمس حبات من الزيتون هي طعام إفطاره، وقد تكون من النوع الرديء جداً أو المنتهي الصلاحية. هنا صنف آخر من الفساد، فما هو مخصص “رسمياً” لإطعام المعتقلين، وهو شحيح أصلاً، يتعرض للسرقة من قبل ضباط المخابرات، وهي سرقة مضمونٌ فيها الإفلات من العواقب، لأنها تزيد في التنكيل المطلوب منهم.
لغيرته على الأموال “العامة”، يستحق العقيد جمال الخطيب أن يُشيّد له تمثال، خاصة ونحن نتابع التذمر المتزايد لجمهور الموالين من الفساد. فها هو شخص من ضمن التركيبة الفاسدة يضع غيرته على “الصالح العام” في إطار منطقي جداً، ويُطالب بتحاشي الهدر الحاصل من أجل الوصول إلى النتيجة ذاتها. ولو رجّح المسؤولون الأعلى وجهة النظر هذه لما كان هناك الآن معتقلون في سوريا، وتوقف ذووهم عن التعلق بالأمل، وكفّت المنظمات الحقوقية الدولية عن المطالبة بمعرفة مصيرهم، وأُعفي وفد المعارضة إلى مفاوضات اللجنة الدستورية من التأكيد المستمر على أنه يضع قضية المعتقلين في رأس أولوياته.
تكتمل مرارة الحديث إذا قلنا أن العقيد الخطيب يستحق أيضاً تمثالاً من أهالي الضحايا، إذا قورن بنظرائه الذين يفضّلون إيصال ضحاياهم إلى الموت ببطء. ففي الجانب الآخر من مقلب العقيد زملاءٌ له يزيدون عليه وحشية ووضاعة، وهؤلاء لا يستمتعون فقط بتعذيب المعتقلين؛ إنهم “حرفياً” يتاجرون بهم. نحن نتحدث عن تجارة تبدأ بإخفاء المعتقلين بحيث لا يعرف الأهالي خبراً عنهم، لتبدأ عملية الابتزاز من أجل معرفة مكان تواجد المعتقل، ثم عمليات ابتزاز لمعرفة ما إذا كان على قيد الحياة أم لا، وربما رشاوى إضافية يدفعها بعض العائلات لتجنيب معتقلهم جرعات التعذيب الشديدة جداً، والاكتفاء بما هو إلزامي وأخفّ قليلاً.
في الوثائقي، يقول البروفسور أوغور أوميت أنجور، الذي كان له دور أساسي في الكشف عن مجزرة التضامن بمشاركة الباحثة أنصار شحود، أن فيديو مجزرة التضامن يوضّح قيام القتلة بعمليات مماثلة سابقة، من حيث تنفيذهم إياها بما يوحي باعتيادهم على ذلك، أي أن الأمر منهجي، ويندرج ضمن ما يسميه “صناعة القتل”. وإذا شئنا الاستفادة من التعبير الأخير، مما لا شك فيه أن الاعتقال صار أشبه بصناعة راسخة، لها اقتصادها المتشعب و”تقاليدها”، فمثلاً قبل أربعة عقود كانت زوجة مدير سجن تدمر تتقاضى نصف كيلو من الذهب لقاء الكشف عما إذا كان معتقلٌ ما موجوداً في “سجن زوجها”. الفاسدون في صناعتهم يفضّلون وسائل دفع ليست بالعملة المحلية، على شاكلة العقيد الوطني الغيور وهو يتحدث عن التوفير بالدولار.نطق العقيد جمال الخطيب بالخيارين المتاحين، فإما القتل فوراً، أو القتل البطيء مع التعذيب الوحشي في أحد السجون، وحرق الجثث موجود هنا وهناك. لنتخيّل لو أتيح الخيار، فماذا يختار الواحد لنفسه أو لأحبائه: حفرة التضامن أم محرقة سجن صيدنايا؟
عمر قدور _ المدن