تسارع المملكة الأردنية الهاشمية الخطى نحو استعادة العلاقة مع نظام الأسد، وهو ما تمّ تتويجه بالتواصل الهاتفي بين الأسد والملك عبد الله، قبل بضعة أيام، ويصحّ تعميم ذلك، وكأننا في خضم خطوات حثيثة ومتسارعة لاستعادة العلاقات بين نظام الأسد ومجمل أو غالبية دول المنطقة، وإنْ تصدّرت مصر والإمارات والأردن ولبنان المشهد.
بكل الأحوال، تبدو عودة سورية إلى النظام الرسمي العربي وربّما العالمي مسألةَ وقت لا أكثر، قد لا تتجاوز مدته العام الواحد، وهو ما ينعكس سلبًا على مشاعر جزء كبير من الشعب السوري أولًا، ومن شعوب المنطقة المناصرة لحقوق الشعب السوري ثانيًا.
لذا لا بدّ من تقييم هذا التحول السياسي العلني بموضوعية، بعيدًا عن لغة العواطف والتمنيات، كي نتمكن من فهم دلالاته ونتائجه القريبة والبعيدة، ولا سيّما ما يرتبط منها بمصالح وأهداف وحقوق شعوب المنطقة كاملة، والشعب السوري خاصة.على الصعيد الإنساني، تبدو نتائج هذه العودة كارثيةً على الوسط السوري اللاجئ في الدول المحيط بسورية، ولا سيما الدول التي أعادت أو سوف تعيد علاقاتها مع الأسد، وصولًا إلى اللاجئين في الدول البعيدة عن سورية، الذين قد يتعرضون لحملات إعلامية تحريضية منظمة تدعو الحكومات إلى إعادتهم إلى سورية، وقد يصبحون مادة رابحة لصفقات أمنيّة مع النظام.
فكما نعلم، لن تستقبل أجهزة الأسد الأمنية العائدين بالورود والأحضان، بل سوف تستقبلهم بمختلف أنواع الضرب والتعنيف والاعتقال والتعذيب، وهو ما يشكّل خطرًا على حياة شريحة عريضة من السوريين، لا سيّما من جاهروا برفضهم سياسيات وممارسات نظام الأسد وعارضوا استمرار حكمه. في المقابل، قد تُسهم عودة العلاقات في تحسن ظروف حياة السوريين داخل سورية نسبيًا، نظرًا لانعكاساتها الطفيفة على سعر صرف الليرة أولًا، ولنتائجها على التقليل من أزمة توفر بعض السلع ثانيًا، إذ لا أعتقد أن النظام وطبقته المسيطرة قادرون، في الأمد المنظور، على تأمين السيولة المالية الكافية من أجل تأمين كل حاجات المجتمع السوري، لذا لن يلبّي النظام كل حاجات المجتمع، لكنه قد ينجح في تأمين جزء منها.تمثل عودة العلاقات مع نظام الأسد نصرًا إعلاميًا له، في مقابل اعتبارها هزيمة إعلامية ومعنوية للشعب السوري، وهو ما يفسّر أجواء الفرح والابتهاج في وسائل النظام الإعلامية والوسائل المقرّبة منه، في مقابل أجواء الحزن والغضب في الوسط المعارض له.
لكن أعتقد أن نتائج عودة العلاقات مع نظام الأسد سوف تنعكس سلبًا على الأسد ذاته، بل ربما على حلفائه والمتعاونين معه أيضًا، في المستقبل القريب، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وذلك بحكم دلالاتها ومنعكساتها اللاحقة. فعلى المستوى السياسي، سوف تُسهم عودة العلاقات معه في إزالة كثير من الأوهام الرائجة في السنوات الماضية، ولا سيما تلك المتكئة على موقف المجتمع الدولي والإقليمي من حقوق الشعب السوري، ومنها حقهم في إسقاط الأسد ونظامه، كما سوف تسهم في مراجعة دور المجتمع الدولي والإقليمي في تخريب وحرف الحركة الثورية منذ بداياتها الأولى. حيث أسهمت القوى المعروفة بأصدقاء الشعب السوري في تخريب الثورة، عبر دعم قوى الثورة المضادة الإسلامية والفاشية، على حساب قوى الثورة الشعبية المنظمة، كالتنسيقيات واللجان والمجالس المحلية، ثم عملت على ضرب هذه القوى بعضها ببعض، تحقيقًا لمصالح داعميهم الخارجيين، حتى بتنا أمام قوى متعددة، لكلٍّ منها مناطق سيطرة منفصلة ومتباعدة عن البقية، فأصبحت درعا كتلة جغرافية وسياسية منفصلة تمامًا عن غوطة دمشق الشرقية والغربية، وعن إدلب وحمص والدير… إلخ، وقس ذلك على كل منطقة من المناطق الأخرى.
وبالتالي؛ باتت حماية كل منطقة منوطة بتوجهات القوى الداعمة، كما نشهد راهنًا في إدلب، وكما شهدنا سابقًا في درعا التي لعبت الأردن دورًا بارزًا في منع النظام من السيطرة عليها في العام 2018، وساعد صمتها أخيرًا في تسهيل سيطرة الأسد عليها.
وعليه، سوف تُكشف الأقنعة بعد عودة العلاقات، وسوف نستعيد الأحداث الماضية بنظرة نقدية كانت مغيبة أو -مع الأسف- مهمشة، ما سوف يُسهم في إنضاج الوعي الثوري الشعبي وتحريره من أوهام الدعم الخارجي، فقد أسهمت مجمل القوى الإقليمية والدولية في حماية الأسد، منذ 2011 حتى الآن، بعضها عبر تدخلها العسكري الداعم له، كما في مشاركة روسيا وإيران، أو عبر حرف الثورة وتخريبها، كما في دور النظام الرسمي العربي والتركي، أو من خلال غضّ النظر عن جرائم الأسد، كما في الدور الدولي، ولا سيما الأميركي والفرنسي والأوروبي.
أما اقتصاديًا، فلعودة العلاقات مع نظام الأسد نتائج كارثية عليه، وإيجابية على صعيد قوى الثورة الشعبية، نظرًا إلى طبيعة التوجهات الاقتصادية الأسدية النهبية، التي تسارع الخطى من أجل نهب ثروات سورية والسوريين، من دون أن تكترث بالواقع الاقتصادي المدمّر الذي أفقد الاقتصاد السوري عناصره الإنتاجية الزراعية والصناعية، ووهب ثروات سورية الباطنية لحلفائه العسكريين من الروس والإيرانيين، ما أفرغ الخزينة السورية من أهمّ مصادر دخلها في السنوات السابقة للثورة، المتمثلة بالصادرات النفطية والمعدنية والزراعية والصناعية؛ إذ تتناقض مصالح الطبقة المسيطرة في سورية مع مسار النهوض الاقتصادي الذي يتطلب دعم الإنتاج الصناعي والزراعي وتوفير متطلباته الخدمية والأساسية، لصالح تعزيز نفوذ التجار وأمراء الحرب القابضين على واردات سورية من السلع.
المعنى أن سورية لا تملك اليوم القدرة على زيادة واردات خزينة الدولة من عودة العلاقات، لافتقادها السلع الممكن تصديرها أولًا، ولغياب الاستراتيجية الوطنية الهادفة إلى تطوير الإنتاج الصناعي والزراعي مستقبلًا، الأمر الذي سوف يؤدي إلى تحول سورية إلى دولة مستوردة بصورة شبه كاملة، تتلقى السلع من الدول المحيطة بها أو عبرها، وهو ما يفيد خزينة تلك الدول، ويزيد من إفلاس خزينة النظام السوري.
بالتالي؛ سوف ينعكس إفراغ خزينة الدولة على مجمل الوضع الاقتصادي السوري سلبًا، دافعًا بشرائح وطبقات اجتماعية جديدة نحو معسكر الثورة على النظام وضرورة تجاوزه وتغيره.
من الصعب التكهن بتوقيت حصول هذا الانهيار أو التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، نظرًا لارتباطه بتسارع نهب ثروات سورية وآليات التحكم الدولي فيها، لكن أعتقد أن تدويل عملية إعادة الإعمار عبر فتح الاستثمارات الخارجية سوف يمنح النظام استقرارًا اجتماعيًا خادعًا، لفترة زمنية بسيطة قد لا تتجاوز ثلاث سنوات، يتبعها انهيار سريع ومدوّ مشابه للانهيار الاقتصادي والاجتماعي الحاصل اليوم في لبنان.
من كل ذلك، أجد في عودة نظام الأسد إلى النظام الرسمي العربي والعالمي ما قد يخدم مستقبل سورية والسوريين، بالرغم من تبعاته القاسية اليوم، إن استفدنا من تجارب السنوات الثورية العشرة الماضية، ومن تجارب الحركات الثورية الأخرى، من خلال رفع الوعي والتنظيم الثوري، ووضع الخطط والبرامج التي تخدم أهدافنا ومصالحنا الوطنية، وعبر تحديد حلفائنا الحقيقيين من القوى الشعبية الثائرة في المنطقة وحول العالم، بعيدًا عن وهم التعلق بأوهام التحالف أو التعويل على دعم النظام الرسمي العربي أو الإقليمي أو الدولي، مهما كانت خطاباتهم وكلماتهم منمّقة ومغرية، كالتي سمعناها كثيرًا في السنوات الماضية.
حيان جابر _ مركز حرمون للدراسات