يحدثني صديق أنه حين كان برفقة عائلته في إسطنبول قبل أشهر، إبان ذروة مرحلة كورنا، كانت كلمة “عائلة” التي قالها السائق تكفي لكي نمر سريعاً عند أحد الحواجز، أو ربما كي لا نتعرض للتفتيش، استغربَ أطفال صديقي، الذين تربوا في دولة أوروبية ما سمعوه، ولم يفهموا المراد، شرح لهم، بعد عقد من الهجرة واللجوء، مفهوم العائلة، ومن أين أتى هذا الرأسمال الرمزي للعائلة على حاجز التفتيش.
من أصعب الأسئلة التي واجهت العائلة السورية، بعد رحلة اللجوء إلى مجتمعات تعدّ قيمة الفرد فيها أعلى من حضور منظومة العائلة هو: كيف يمكن المواءمة بين قيم الفردية وخياراتها وحدودها، وقيم الأسرة وأخلاقياتها وحدودها وسلطتها، وهل قَدَرُ العلاقة الصراع؟
نتيجة قلة وجود مختصين ومنظمات وأبحاث من الجالية السورية في هولندا، برعاية الدولة الهولندية، يتولون معالجة هذه التفاصيل، وكذلك ضعف حالتهم، وعدم خبرتهم في التحولات الجديدة إنْ وجدوا؛ فإن كمّ الانفصال والمشاكل بين الأبناء والآباء والأمهات كان كبيراً جداً، قياساً لعدد الجالية (نحو مئة ألف) وحضر الصراع بين تلك الأطراف، كأبرز مكونات الأسرة الجديدة ليس لأنه ضروري، بل لأن مكونات العائلة وأفرادها لم يعتادوا على هذا الكمّ من التفكير (الفردي)، ولم يعرفوا الحدود الجديدة، ولم يستطيعوا قراءتها القراءة السليمة. وأخذَ كل فرد في تلك العائلة يفسّر ما يراه على طريقته وبما يخدم أنانيته وما يحقق أحلامه ورغباته، وليس منتظراً من تلك الجالية الفتية أن تختصر مراحل زمنية مكثفة عادة ما تحتاج إلى أكثر من جيل، كي تستوعب التغيير، خلال عقد من الزمن لذلك كان الصراخ والصراع والخلافات واللجوء على السلطات والطلاق حاضرة بقوة، باحثو علم الاجتماع، بنظرتهم الهادئة، يعدون تلك المتغيرات في باب العادي والمألوف والمتوقع كونها تعبيراً عن صدمة ثقافية ومعرفية واجتماعية.
كانت الدورات التي تقيمها البلديات حول العيش المشترك هي نوع من أنواع الاستعمار القيمي الجديد، كما يرى المتحمسون لقيمهم الأم
المجتمع الهولندي من جهته حَسِبَ أن تطبيق قيمه وخياراته على أولئك اللاجئين هو الحل الأمثل، ولأن قيم الرأسمال والإنتاج والكم والمنظومة “الديجتالية” هي المسيطرة، فقد ظن ذلك المجتمع أن البشر اللاجئين لديهم استعداداته نفسها لقبول منظومة الحياة التي أنتجها هو، وبالتالي من السهل عليه أن يتقبّلها، ولم تعطَ للاجئين مرحلة عبور كافية، بخاصة للجيل الذي تجاوز الثلاثين، الذي بات من الصعب عليه تغيير منظوماته الفكرية والمرجعية.
وكانت الدورات التي تقيمها البلديات حول العيش المشترك هي نوع من أنواع الاستعمار القيمي الجديد، كما يرى المتحمسون لقيمهم الأم، فمقابل الطعام والشراب والملجأ وجواز السفر الذي يقدمه الوطن الجديد لك، عليك أن تقبل بشروط العيش المشترك وقيم المجتمع الراسخة، التي جوهرها الإيمان بقيم المجتمع الفردية وعدم التدخل بشأن الآخر، وعلى اللاجئ السوري بصفته (ما هو كائن) أن يتثمل قيم المجتمع المستقبِل المنتصر وثقافته (ما ينبغي أن يكون) بلغة وائل حلاق في كتابه الشهير الدولة المستحيلة، بل إن لاجئين كثيرين شبّهوا حالة الإجبار وفرض قيم المنتصر هاهنا بما فرضته سلطة التشبيح في دمشق من فرض منظومتها القيمية وأخلاقيات التشبيح بعد انتصارهم العسكري على المطالبين بالحرية والديمقراطية، وإن كان الأسلوب مختلفاً وناعماً وبصيغ قانونية محددة، دون أن يوجد من يشرح لأولئك اللاجئين الخلفيات الفلسفية أو الفكرية لتلك الفردية والقيم ولماذا عليهم أن يتخلوا عن كثير من منظوماتهم وأن ينفذوا تلك الأوامر الجديدة. وإن لم تقبل بها وستهدّد قيم المجتمع المستقرة؛ وتظن أن تهديدك بالعودة إلى وطن غير آمن سيقض إنسانية كثيرين فهذا محض وهم، بل إن هناك منظمة مختصة تعطيك ألفيْ يورو وتسهّل لك إجراءات عودتك إلى بلدك الأم، وتساعدك على تنفيذ خيارك الفردي الذي تتحمل أنت وحدك مسؤوليته!
وجد الأب نفسه فرداً عادياً في المجتمع الجديد، لم يعد هو مصدر السلطات، أو المعرفة، أو رأس المال، ولم يعد مصدر الأمان والحماية والخطط الإستراتيجية لتأمين مستقبل الأولاد مثلاً، حلتْ بدلاً منه سلطات بديلة، أخذت كل أدواره التقليدية، وعلى الرغم من محاولات أمهات كثيرات تكرار عبارة: (احترموا أبوكن يا أولاد) إلا أن الأولاد لم يستمعوا، ولماذا عليهم أن يستمعوا وهم يعتقدون أن هذا الأب في أحد ألوان حضوره جزء من سلطة الماضي التي دمرت البلاد وهجرتهم، وأنه من جهة أخرى يعيش على المساعدة الاجتماعية التي تقدمها البلدية، (الأب الجديد لهم)؟ أما الزوجة/الأم فقد كانت تضحك في “عُبها” فرحة بردود فعلهم، خاصة أنها عانت بطريقة أو بأخرى من السلطات غير المحدودة لهذا المستبد، الذي يرمز إلى سلطات الأب والأخ والزوج، وعلى الرغم من أن أزواجاً كثيرين كان الوئام هو المسيطر على مسار حياتهم مع زوجاتهم من قبل، لكن الشماتة بسلطة المستبد والشعور بالحرية والرغبة بالانتقام من الاستبداد الطويل هو تيار جارف، لا يملك الشخص/ية إلا مناصرته والرغبة بالتخلص من تلك السلطات غير المحدودة للرجل الذكر، قائد المجتمع الأبوي البطركي الشرقي، ففي جينات كل امرأة ظلم مخزن من رجال كثيرين يحكي سرديات مئات السنوات من الظلم الذكوري والاستبداد.
أمام صدمة الرجال من سحب أدوراهم وسلطاتهم وأثرهم وخصوصية وجودهم بعد رحلة اللجوء، من ثلاث جهات: الأب والزوج والوجه الاجتماعي، بدا معظم الرجال متخبطين في حياتهم الجديدة، مرة يفكرون بالعودة، ومرة يريدون المحافظة على سلطاته، ومرة يحاولون تمثل قيم المجتمع الجديد، وأخرى يبحثون عن أنجع السبل لاستعادة دوره في المجتمع الجديد.
بلهفة شديدة أخذت المرأة (الزوجة) تدرس، وتعمل، وتشارك في المجتمع الجديد في رحلة انتصار القيم الفردية وإثبات قدرات الأنا أحياناً، أو رفع الظلم الجيني الذي يتحرك معها، وتحس به وتتمثله نساء كثيرات، ولعله من المتوقع أنه إبان بحثها عن حريتها المفقودة ستقوم بظلم أحياناً قد يكون عن غير قصد، أو عن عدم امتلاك ذات العينين اللتين يملكهما الرجل، أو نتيجة عدم الخبرة، أو رغبة بالانتقام مرات كثيرة، ليس بالضرورة من ظلم تعرضت له هي ذاتها، بل انتقاماً لعالم من النساء المظلومات من الرجال عامة.
من الطبيعي أن تحدث تبدلات عديدة في مفاهيم الزوجة وواجباتها وحقوقها، قياساً للمرحلة السابقة، فلم تعد الزوجة مضطرة لأخذ إذن الزوج إبان الخروج من البيت، إلا على سبيل الإعلام، وليس بهدف الموافقة، أو أخذ موافقته لاستقبال ضيوفها في البيت، فالبيت والمصروف في المرحلة الأولى مُقدَّم من الدولة ولهما فيه الحقوق والواجبات نفسها، كذلك إنْ قام الرجل إبان السلام على النساء بالتقبيل انسجاماً مع عادات المجتمع الهولندي فإن لها الحق ذاته بالسلام تقبيلاً على الرجال، وليس دورها بعد اليوم أن تقضي نصف عمرها في المطبخ وكنس البيت، بل يمكن تقسيم العمل، كل طرف يقوم بالعمل يوم، ولم تعد مهمة صنع الشاي والقهوة مهمة دائمة، ومثلما كان الرجل عبر سنواته الطويلة يأتيه كأس الماء إلى حيث يجلس، فلا يمنع أن يقوم بتجريب أن يقدم لزوجته كأس الماء، وهي تضع رجلاً على رجل أو تمدّ رجليها في وجه زوجها، ليس على سبيل الإساءة، بل لأن قيم المجتمع الجديد لا ترى أن مدّ الرجلين أمام الآخر بشيء معيب، وأنك إن لم تكن مريضاً عليك أن تخدم نفسك بنفسك، بل غاص التعرف إلى الحقوق والتغيير عميقاً في بنى العلاقة الزوجية ليصل إلى جانب مسكوت عنه ومغيب شرقياً وهو جانب العلاقة الجنسية بين الزوجين والحقوق المتساوية في قطف ثمراته، وهذا الجانب ينبغي الإقرار أن فيه ظلم مسكوت عنه طويل وصندوق أسود فيه آلاف الحكايات.
توزيع السلطات في البيت متساو، تجتمع العائلة لتنظيم الأدوار، لكلّ فرد في العائلة دوره على مستوى خدمة ذاته وعلى مستوى المشاركة في مشتركات المنزل
الأم من جهتها كسرت مفهوم الأم التقليدية، التي تستيقظ لتجهز طعام الإفطار للعائلة، إذ إن لكل شخص منبّهه، وبرنامجه الدراسي ومصروفه الذي قد يمكنه من ممارسة خياراته في الطعام والشراب، وصار من النادر أن تجتمع العائلة على وجبة طعام مشتركة داخل البيت!
توزيع السلطات في البيت متساو، تجتمع العائلة لتنظيم الأدوار، لكلّ فرد في العائلة دوره على مستوى خدمة ذاته وعلى مستوى المشاركة في مشتركات المنزل من تنظيف وغسيل وجلي وطبخ.
على مستوى خدمة الذات مثلاً، فإنه على الأب مثلاً أن يغسل صحنه وكأسه بعد الطعام، وأن يضع جواربه في المكان المناسب، وأن يطوي لباسه، وحين يحاول التفلت من تلك الواجبات الثقيلة بنظره تستحضر الزوجة/الأم جملة شرقية: كي تبقى قدوة بنظر أطفالك!، مع أن الأطفال وتربيتهم في المجتمع الجديد تركز على القانون والتنظيم بصفتهما طريقة حياة ضرورية، وليس على الأب أو الشخص ذي المكانة الاجتماعية بصفته قدوة، لأن مفهوم القدوة لا قيمة له في المجتمع الجديد! وهو يدرك أن هذا كرم أخلاق منها لأن العائلة وضعت سلسلة عقوبات لمن لا يلتزم بما تم إقراره ديمقراطياً من أنظمة داخل البيت في الاجتماع الذي يتمتع فيه الجميع بالحقوق والواجبات ذاتها (الأب والأم والأطفال).
وتغدو الحرية في ظاهرها إكراه، وإن وافقتَ على الاشتراطات فإن ذلك هو الفيصل، لكنك توافق أحياناً لأنه لا يوجد حل آخر، أنت توافق على شروط العمل وتفاصيله في إطار العملية الديمقراطية، إذاً أنت حر في ذلك، من هنا تقويض سلطة الأب والأم في النظام العائلي من أجل انتصار قيم الديمقراطية في العدل والمساواة.
يحدثني صديق من جذور سورية يدير مؤسسة ناجحة أن موظفاً لديه توقف عن العمل في المؤسسة، احتجاجاً على تكرار المدير جملة (نحن عائلة واحدة) لأن صديقي ظنّ أنه باستعمالها يشير إلى الحميمية والتكاتف، وكانت حجة ذلك الموظف أن العائلة ليست شيئاً مقدّساً كما في خلفية صديقي الثقافية، وكان عليه، وفقاً للموظف، أن يستعمل عبارة نحن فريق عمل واحد، تحكمنا أنظمة وقوانين الشركة.
كتبتُ قصة قصيرة جداً، قبل ربع قرن، ونشرتها في مجموعة عنوانها (همهمات ذاكرة)
“جمعت الأم المطلقة ولديْها قائلة: ماذا تحبّان أن تصيرا في المستقبل؟
صاحا بصوت واحد: شرطي!
- من سيكون رئيس المخفر؟
أجابا بصوت واحد: أنا!
قالت سأسألكما سؤالاً واحداً، ومن سيجيب الإجابة المناسبة سيكون رئيساً للمخفر:
ما أول شيء ستقوم به بعد أن تصبح رئيساً المخفر؟ أجابا بصوت واحد: سنسجن أبانا!
ضمّت الأم المطلقة ولديْها، مزهوة بهما: كلاكما تصلحان لرئاسة المخفر!
ها هي مقولة القصة تتحقق اليوم ليس في مجتمع المخافر والعسس والاستبداد، بل في مجتمع القانون ودولة الرعاية الاجتماعية، فالكثير من علاقات الآباء والأمهات والأولاد باتت أسيرة الانتقام، في سجن القانون الجديد الذي لم يتدربوا على العيش به!