تحت وطأة اللجوء وتعقيداته في تركيا، وجدت عائلات سورية نفسها في حالة أقرب إلى الصراع مع التغييرات الاجتماعية والعلاقات الأسرية، التي فرضت نفسها على حياة اللاجئين السوريين، صراع يتمثل في صعوبة التمسك بنمط الحياة والتربية الاجتماعية التي اعتادوا عليها في سوريا وبين أنماط جديدة لم يكونوا يقبلونها لو كانوا في سوريا.
تجد كثير من الأسر السورية اللاجئة في تركيا صعوبة في الانسجام مع أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، وتحاول الموازنة بين ما اعتادوا عليه وبين ما يفرضه الواقع في غربتهم القسرية.
يتّضح من خلال مقابلات أجراها موقع “تلفزيون سوريا” مع عدد من الأمهات السوريات في تركيا، أنّ هذا التباين يختلف بحسب الخلفيات المجتمعية الأصلية والتحصيل العلمي، إضافة إلى مستوى الانفتاح والمشاركة داخل الأسرة للتعامل مع المستجدات الاجتماعية.
ويعد التغيير الاجتماعي ظاهرة عامة وسمة مميزة للمجتمعات الإنسانية، وتحولاً بنائياً يطرأ على المجتمع في تركيبه السكاني ونظمه ومؤسساته وظواهره الاجتماعية، وما يتبع ذلك التغيير من قيم جديدة ومفاهيم وأنماط سلوك.
ويبلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا، وفقاً لآخر إحصائية المديرية العامة لإدارة الهجرة التركية، قبل شهرين، ثلاثة ملايين و715 ألفاً و913 شخصاً، وهذه الإحصائية تشمل من يحملون بطاقة الحماية المؤقتة “الكيملك”.
وبحسب الإحصائية فإن معظم السوريين في تركيا هم من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0-9، يليهم الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و24 عاماً، في حين يزيد عدد الذكور عن الإناث بنحو 250 ألفاً.
تحدي الخلفية الاجتماعية
اللاجئة السورية، وفاء سلامة، ربة منزل تنحدر من ريف حماة، كانت تجد صعوبة في الانسجام مع أنماط المتغيرات الجديدة في التعامل مع بناتها، لا سيما أنها من بيئة محافظة.
تقول وفاء: كنت يومياً أعيش صراعا مع بناتي، لقد كبرن وكبرت معهن المطالب، وفي حال لم آذن لهن بالذهاب مساءً إلى الكافيتريا مع صديقاتهن، على سبيل المثال، يتحوّل البيت إلى جحيم.
وتضيف في حديثها لموقع تلفزيون سوريا: لم أعتد على حفلة عيد الميلاد، والرحلات المختلطة، والقراءة في المكتبات العامة.
وتتابع الأم باستغراب: “إنّهن يطالبن بحفلات عيد الميلاد، لهنّ ولصديقاتهن، لم أكن أعرف هذا العيد من قبل إلا على التلفاز”.
وتحاول وفاء أن تحدث توازنا، فلا تمنع كل شيء عن بناتها، كما لا تخبر زوجها بكل شيء، لكنّ هذه الحالة من عدم التوازن لها نتائج سيئة، كما ترى السيدة الأربعينية.
وفي محاولة منها لتحسين الواقع، سجّلت وفاء مع بناتها في المعهد، الذي يتعلمن فيه اللغة التركية، لتكون أقرب إلى الواقع الذي تعيشه الصبايا، ولتزيل عن عاتقها اتهامات بناتها لها بالتخلّف عن الحياة السريعة.
وتتابع: اكتشفت خلال تجربتي في المعهد أن هناك أشياء كثيرة يجب أن يعطى بها الأبناء الحرية في اختياراتهم لتتكون عندهم قدرة على مواجهة الظروف.. وبدأت أتقبل كثيراً من تصرفات بناتي وأقنعهن ببعض قناعاتي وما تربينا عليه، ووصلت إلى ما يشبه حالة وسطية بين قناعاتي والمحيط الجديد، ولا يخلو الأمر من الصعوبات بسبب فروقات كثيرة في الحياة وسلوكيات الجديدة في المجتمع.
في الغربة القلق مبرر
تختلف تجربة سعاد مرعي عن حالة وفاء، فهي تعيش في مدينة الريحانية الحدودية مع سوريا، وطابعها أقرب إلى المجتمع السوري وتتقاطع معه أكثر مما تتنافر معه.
تقول سعاد إنها جاءت من مدينة إدلب قبل سنوات، وإن بناتها كن حينذاك في عمر 9 و10 سنوات، لكنهن اليوم صبايا وبدأن شقّ طريقهن العلمي.
ولم تواجه سعاد مشكلات، ساعدها في ذلك مساعدة زوجها، والخلفية المجتمعية القادمة منها، فهي لم تلمس تبايناً بين مدينتها السورية وبين المدينة التي تعيش فيها اليوم.
كما أنّ بناتها درسوا في المدارس السورية المؤقتة، ولكنّها تشعر بالقلق حيال اغتراب بناتها، خاصة أنهما مضطرات للسفر إلى مدينة بعيدة في تركيا للبدء في الحياة الجامعية.
تقول سعاد إن قلقها مبرر، وتشير في حديثها مع موقع تلفزيون سوريا إلى أن بناتها لو كنّ ذكوراً فإن القلق سيساورها أيضاً، “ليس سهلاً أن يسافر أبناؤك”، تقول سعاد.
وتضيف: “لذلك لا بد بعد التوكل على الله من استمرارية النصح والتوعية والحذر وتحديد الهدف والطريق لتحقيقه من دون الالتفات إلى غيره.. وتقديم الدعم لهما بأنهما أهل للمسؤولية والثقة”.
وتتابع حديثها: “كنت دائماً أحاول دعم حرية بناتي في الخيارات حتى تكون لديهن القدرة على تقبل أي جديد من دون تأثر بشكل سلبي”.
تعزيز الحوار الأسري
بدورها الطالبة لجين شعبان، شابة سورية عشرينية، تدرس في إسطنبول، ترى أن مخاوف الأهل لا يجب أن تمنع الأبناء من الوصول إلى أحلامهم.
وتستعيد لجين ردود أهلها على مقترحها بالدراسة في إسطنبول وحدها، إذ قالوا لها: “لا يمكنك العيش وحدك، كيف تريدين تدبير أمورك؟ من سيكون هناك ليحميك؟ كيف ستعيشين وحدك ولا يوجد شخص كبير وواع؟”.
وتضيف لجين: “الأهل ما يزالون يروننا أطفالاً لا نقوى على مواجهة الحياة، ولكن الأمر أبسط من ذلك بكثير! بدأت أُريهم – وهو أهم شيء – ما هي الفرص المتاحة لي هناك وكيف أنه أستطيع بناء مستقبلي بأريحية وبجهدي، ولذلك أريهم الخطوات التي سوف أقوم بها بالتفصيل – لكي لا يظنوا أنك فقط تريد السفر فحسب – وما هي خطتي للمستقبل، فوجود خطة مدروسة من قبلك تجعلهم يوقِنون بمدى جديتك بالأمر”.
وأوضحت الشابة أنه “بالطبع عندما تكون جدياً بالأمر وتظهر مدى استطاعتك على تحمل المسؤولية بشكل كامل – وهو الأهم – وطموحك الذي تريد تحقيقه وقدرتك على مواجهة الحياة بجميع المشكلات التي قد تظهر، فسوف يزداد ثقتهم فيك وفي قدرتك”.
نظرة المجتمع
خلافاً للحالات التي تحدّثت عن واقعها، تظهر حالة سوزان الرجب، الأم لشاب وطفلتين، والقادمين من المملكة العربية السعودية.
فهي لن تشتكي من “عيد الميلاد” أو تستغرب الرحلات والسهرات في المقاهي، كونها أموراً روتينية بالنسبة لها.
تقول الأم إنها درّست أبناءها خلال إقامتها في السعودية بمدارس بريطانية، وهناك تعلّم الأولاد اللغة والعادات، وخالطوا على مدار سنوات طويلة أشخاصاً من جنسيات عدّة.
وتشرح الأم أن أبناءها يستخدمون اللغة الإنجليزية حتى في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يبحرون في الصفحات البريطانية أو الأميركية ويدخلون في النقاشات ويتعلمون.
لكنهم يصطدمون في المجتمع هنا، وتروي الأم قصصاً وقعت مع أبنائها، فهم “لا يحبون المجاملة، ويتحدثون الصراحة، لكنّ ذلك لا يروق للأتراك تماماً كما لا يروق للعرب”.
وتضيف: أبنائي يرفضون إرث العادات الاجتماعية، لم يتفهموا حتى الآن سبب تدخل السوريين مثلاً بلباسنا وقصّات الشعر وأسلوب الحياة، والتمييز بين الذكر والأنثى، والأديان وما إلى ذلك.
وفضّل أبناء سوزان الانعزال، واقتربوا من حالة الاكتئاب، وبدأت مخططاتهم تتجه نحو الهروب إلى أوروبا، بحسب ما تقول، مؤكّدة أنّ مشكلتها في هذا التباين بين أبنائها وبين المجتمع الراهن في تركيا جميعاً.
“الأبوية.. ديكتاتورية المنازل”
الخبير والمستشار الأسري الدكتور محمود الحسن، يرى أنّ المشكلة تكمن فيما أسماها “الدكتاتورية التربوية التي تتعامل بها معظم الأسر السورية، وعدم إعطاء أبنائهم فسحة من الحرية لخوض تجاربهم الخاصة والوصول إلى قناعاتهم”.
ويقول الاستشاري الأسري الذي يدير مركزاً للتدريب في إسطنبول: “التربية الأولى والتي تعتمد على الإعداد الجيد للأبناء ستعطيهم قوة للعيش بأي بيئة من دون الخوف عليهم، وأثبتت التجارب أن البيئات المغلقة هي الأكثر معاناة مع الأبناء لأنها لم تعطهم حرية التجربة والمعرفة فكانت صدمة قوية بين الأبناء والأهل”.
وحذّر الحسن، خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا من أنّ هذا الصراع بين الأهل والأبناء، قد يتسبب بأذى نفسي يصل بكثير من الحالات إلى الاكتئاب أو ترك المنزل أو حتى الانتحار.
وضحى عثمان _ تلفزيون سوريا