لم يأتِ مفاجئاً اتصال بشار الأسد بملك الأردن قبل يومين، هو تتويج للعديد من اللقاءات بين مسؤولي الأسد ونظرائهم الأردنيين، اللقاءات التي ابتدأت اقتصادية، وأعقبتها أخرى عسكرية-أمنية، لتتوج أخيراً بالتواصل على المستوى “السياسي”.
خبر الاتصال نال حيزاً واسعاً في وسائل الإعلام، باستثناء الإعلام الرسمي للجانبين اللذين نقلا الخبر بشكل رسمي مقتضب، وكما نعلم لا تحظى اتصالات القادة بهذا الاهتمام الإعلامي، بما فيها اتصالات ملك الأردن بنظرائه من القادة. لقد صار مجرد الاتصال ببشار خبراً يُنشر في الصدارة!في الأسبوع الأخير من آذار2020، حظي خبر اتصال ولي عهد أبو ظبي ببشار الأسد باهتمام مماثل، رغم تغطية الإعلان عنه بأسباب إنسانية متصلة بانتشار كورونا.
حينها اعتُبر الاتصال فاتحة تطبيع عربي تقوده أبو ظبي، إلا أن الاندفاعة الإماراتية لقيت معارضة أمريكية متسلحة بالعقوبات بموجب قانون قيصر. الاتصال بين بشار والملك أتى في ظروف مواتية أكثر من قبل، وفوق دعوته العلنية إلى التطبيع مع الأول فإن الاتصال تلا زيارتي الملك إلى واشنطن وموسكو على التوالي.
بالطبع، للاتصال بقاتل مئات الألوف من شعبه وضع مختلف، يستحق القاتل بموجبه التهنئة، فهو باقٍ رغم ارتكابه مختلف أنواع الجرائم ضد الإنسانية، وسبق للملك أن نقل هذه الخلاصة: إنه باق، فلنطبِّع مع بقائه. لكن الخلاصة الأخيرة ليست بالجديدة أيضاً، فالإدارات الأمريكية التي تعاقبت منذ عام2011 لم ترفع ولا لمرة شعار رحيل الأسد، وصولاً إلى تكرار الإعلان عن أنها تريد تغييراً في سلوك الأسد لا تغييره.
يُضاف إلى ذلك أن واشنطن وصلت إلى قمة الضغط على بشار بعقوبات قيصر، ولا تخفي إدارة بايدن عزمها على النزول من تلك القمة كلما توفرت لها الذرائع. بعد تهنئة القاتل بالتطبيع معه، وبعد تجاوز الكلام المعتاد عن عدم أخلاقية هذا التوجه من الدول الديموقراطية أولاً، نزولاً إلى أنظمة لم يكن خلافها معه يوماً يتعلق بمقدار جرائمه.
بعد الانتهاء من هذا الجانب “الاحتفالي”، تبقى رؤية الواقع أقل احتفالية، بل تعِد بتقديم الدرس المناسب وهو أن كل ما يحدث دون التطبيع الدولي الشامل “المتضمن رصد مبالغ ضخمة لإعادة الإعمار” لن يكون له تأثير يُعتد به على صعيد إنقاذ بشار من “ورطة” إبقائه هكذا كمنتصر عسكرياً بقوة حلفائه، وكعاجز عن تظهير الانتصار رئيساً تتعدى رئاسته كونها عنواناً لخراب البلد ودماره الشامل.
يجدر التذكير بأن إعادة إعمار ما دمره بشار تقدّر كلفته بحوالي 500 مليار دولار، من دون احتساب الدمار اللاحق المتوقع، وفوقه الاهتلاكات الاعتيادية في بنية خدمية أو صناعية واقعة تحت الإهمال أو عدم القدرة على صيانتها.
إلى جانب هذا، يجدر التذكير بهبوط 90% من السوريين تحت خط الفقر، وهذه نسبة لا تؤثر فيها دفعات من المساعدات الأممية ذات الطابع العاجل غير المستدام، كما أنها نسبة كافية لهبوط حاد في الطلب العام الذي يسيّر النشاط الاقتصادي، وهي في المقابل لا يمكن أن تتراجع سريعاً من دون فورة اقتصادية شاملة.
قبل حوالى أسبوعين أشار بعض التقديرات إلى أن 3 آلاف سوري يغادر البلاد أسبوعياً، في الوقت نفسه قال عضو اتحاد غرف الصناعة مجد ششمان أن 19 ألف رجل أعمال غادروا من حلب، و28 ألف من دمشق خلال الأسبوعين السابقين.
بتقشير الأرقام الأخيرة من المبالغة، هناك اتفاق بين مجمل المصادر على مغادرة الصناعيين والحرفيين، من دون استخدام وصف رجال أعمال وصناعيين حصراً الذي يضخّم من دلالة ما يحدث.
الأرقام حقيقية، والمغادرون سبق أن بقوا متحملين ظروف الحرب وتقطّع سبل الإنتاج والتجارة في أثنائها، وهذا مؤشر على التدهور المستمر وزيف وعود الانتصار العسكري.الذين يغادرون البلد، والذين غادروه مهجّرين بسبب مواقفهم، لن يعودوا في القريب العاجل إذا توفرت أفضل الظروف.
أما ما هو مطروح لجهة إعادة تدوير الأسد فسيؤدي إلى امتناع عودتهم، فرجال الأعمال الذين يسارعون إلى الهرب مع اضطراب الظروف العامة يسعون إلى بيئة مستقرة، ولن يغامروا بالعودة إلى ما هربوا منه قبل اختبار استقراره مجدداً ولسنوات طويلة.
يرتبط بهم أصحاب المهارات الحرفية والصناعية، فهم أيضاً إذ يحصلون على فرصهم خارجاً لن يضحوا بها ولن يعودوا إلا إلى بيئة مضمونة الاستقرار وذات مردود أعلى. تجدر الإشارة إلى أن نزيف الموارد البشرية ليس مساراً ميكانيكياً يُعوَّض بسهولة تعويض لوازم الإنتاج الأخرى، ويُستحسن عدم التبسيط في التحدث عن “هجرة العقول” كما حدث مؤخراً مع نزيف الحرفيين.
المسألة هي في تجريف البلد على نحو تفقد الكفاءات المتبقية فيها الفرص الاعتيادية للعمل، والمناخ الطارد نفسه لا يشجع على تعويض النزيف بأجيال جديدة. ما قُتل ويُقتل هي روح سوريا، من دون أن يقع التوصيف في خانة المجاز الأدبي. يفيدنا تاريخ سوريا نفسه في توضيح الأثر المدمر للسلطة، السلطة التي بسببها جُرّفت البلد من فعاليتها الحية كلما استردت قليلاً من العافية.
فرغمفرغم أن العقد الأول بعد الاستقلال شهد العديد من الانقلابات والاضطرابات إلا أن حيويته الاقتصادية والسياسية كانت أقوى من العثرات، هكذا شهدت سوريا نهضة اقتصادية وثقافية وفنية هي استمرار لما بدأ في السنوات الأخيرة للانتداب الفرنسي.
ستأتي الوحدة مع مصر أولاً، ثم يليها انقلاب البعث ليقطع ذلك المسار، إذ يقضي على البنية الاقتصادية تحت يافطة الاشتراكية، وينهي الحراك السياسي والاجتماعي والإعلامي والثقافي بإعلان حالة الطوارئ التي سيعيش السوريون تحت وطأتها طوال العقود اللاحقة.
من ضمن البعث نفسه، ستأتي حركة 23 شباط ثم انقلاب حافظ الأسد ليُقضى على الحراك الداخلي، حراك سلطة البعث التي راحت تترسخ مترافقة بصعود أبناء الريف ومشاركتهم في الفضاء العام، وهم رغم ما يُحكى عن سلبيات الترييف أمدّوا الفضاء العام بحيوية، ولو أن الأخيرة كانت محمولة على أيديولوجيات عابرة للحدود.
فشلُ اليسار البعثي وانقلاب حافظ الأسد مع وعود بالسير يميناً أعطى الاقتصاد جرعة ضرورية في وقتها، ليستمر ما تبقى من حيوية الستينات مع اكتساب حيوية جديدة سهلتها أيضاً الوفرة التي أتت بها المساعدات الخليجية عقب حرب تشرين1973.
في نهاية السبعينات قدمت المواجهة مع الإخوان ذريعة ليقضي حافظ الأسد على القليل مما كان قد يُحسب له، فقد قتل وأودع في معتقلاته عشرات الآلاف ممن سيكون تغييبهم قضاء على روح البلد، بالتزامن مع الحملة التي شنها على بقايا البرجوازية، ما أدى إلى هروب ضخم لرأس المال، ولم تنج السلطة نفسها من حملة التجريف فأطاح الرؤوس ذات الوزن على الصعيد العسكري خاصة.
مرة أخرى ستبدأ البلاد بطيئاً وتدريجياً باستعادة بعض من عافيتها بسبب تساهل الأسد مع تقدم مشروع التوريث، لنرى الوريث يحرق كل ما تُرك للسوريين إنجازه كرمى لتوريثه.
دمار السنوات العشر الأخيرة في جانب منه استمرار لنوع من السلطة لن تفعل شيئاً سوى ما فعلته، سلطة مضادة للحياة والحيوية بالمعنى العميق، وفي أحسن الأحوال ستصطدم الحيوية الطبيعية لأي مجتمع بهذه السلطة ليُقضى عليه بعنف ووحشية.
ما يميز درس السنوات العشر أن أثره لن يُمحى بسهولة، وإذا كان من السهل دولياً إبقاء بشار فمن المستحيل إعادة تدويره كما يُشاع، أي على النحو المجدي لتعبير إعادة تدوير. من يفعلون ذلك لا يتواطؤون على طمس الجرائم الماضية فحسب، هم شركاء في الجرائم المقبلة، الجرائم التي لا بد أن يرتكبها سفاح مدمن.
عمر قدور _ المدن