يشكّل العقد الماضي من السنوات السورية سجلاً أسود من جرائم نظام الأسد، والاختصار السابق، ليس كلاماً دعاوياً، هدفه التحشيد ضد النظام، ولا هو عنوان لائحة اتهام تقدم لجهة قضائية، تستعد لمحاكمة النظام. إنه ملخص لسياسات وممارسات معروفة وموثقة بأعلى الدرجات، ولدى كل الجهات المعنية والمهتمة بالقضية السورية من دول ومنظمات ووسائل إعلام دلالات الجرائم، بل إن المسؤولين عنها ما زالوا حاضرين، والدلالات العملية في أغلبها ما زالت قائمة رغم مرور سنوات طويلة على بعض الجرائم.
ولأن السجل حافل، ولا يمكن تناوله في الحيز المتاح، سيتم التوقف عند أمثلة من الجرائم، والإشارة إلى بعضها، وبيان كيف تهرّب النظام من مسؤوليته عنها، ملقياً المسؤولية على الآخرين، وأغلبهم كانوا من الضحايا، وآخرون كانوا شهوداً عليها أو مشاركين فيها، قبل أن يلتحقوا بقائمة ضحايا جرائم نظام الأسد.
تنقسم جرائم النظام في حيز الجغرافيا السياسية إلى جرائم داخلية، وأخرى خارجية، وهو تقسيم يسهم في توضيح أكثر للجرائم من حيث طبيعتها ونتائجها وضحاياها وشهودها، وما تعلق بها من سياسات في المستويين الداخلي والخارجي من الأطراف المختلفة.
بدأت جرائم النظام الداخلية بإطلاق الرصاص على السوريين وملاحقتهم، كان من نتائجها قتل وجرح واعتقال، ولحقت بالأخيرة جرائم التعرض الجنسي والتعذيب في الاعتقال وصولاً إلى الموت، فيما كانت تتفاعل جرائم الحصار والتهجير، التي تصاعدت مع شيوع المذابح الجماعية، ثم الهجمات بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، وتضاعفت الجرائم وتنوعت مع التدخل الخارجي بدءاً من إيران وميليشياتها قبل أن تبلغ حداً عالياً مع التدخل الروسي عام 2015 الذي أسهم في استعادة النظام مناطق فقد السيطرة عليها سابقاً، وتنظيم تسويات فيها، لم تمنعه من جرائم الاعتقال والاغتيال في ظل صمت روسي، رغم رعايته للمصالحات وظهوره بدور الضامن.
ويمتد الخط الثاني من الجرائم الداخلية في اتجاهات أخرى، شملت تدمير القدرات المادية للسوريين من بيوتهم إلى محالهم ومزارعهم وأعمالهم، وسرقتها والاستيلاء عليها ومصادرتها وفق مبررات مختلقة وواهية، لكن الأهم في جرائم هذا الخط، كان في تدخله في تعزيز سياسات تقسيم السوريين بإشاعة النزعات الدينية والطائفية وإعلان نفسه حامياً لـ«الأقليات»، وتعزيز العسكرة والتسلح الذي يشكل ميداناً تتمركز فيه كل قدراته وخبراته.
استهدفت جرائم النظام الداخلية، أغلب السوريين بغضّ النظر عن موقفهم السياسي من النظام، حيث شملت المعارضين والثائرين عليه وحواضنهم الاجتماعية في المدن والقرى، وشملت الرماديين، وامتدت أحياناً إلى مؤيدي النظام وبعض أركانه من المشاركين في جرائمه تخطيطاً وإشرافاً وتنفيذاً، والقائمة في هذا طويلة، حافلة بأسماء من أركان النظام والمقربين منه من شخصيات وكيانات، عملت من أجل بقاء النظام وسعياً نحو إعادة السوريين إلى حظيرته ومنهم ضباط كبار في الجيش والمخابرات ورامي مخلوف ابن خال رئيس النظام، وذو الهمة شاليش ابن عمة الأسد، وعدد من أبناء عمومته من آل الأسد، وهم مجرد أمثلة في سياسات مجموعة إرهابية متسلطة، لا تعرف سوى مصالحها الخاصة، وتستخدم في حربها أسلحة عمياء ولا حدود لاستعمالها.
والنوع الثاني هو جرائم النظام الخارجية، وتتصل بأعمال وسياسات تتعلق بالمجتمع الدولي، ودول ومنظمات وهيئات دولية وشخصيات عامة. ورغم أن الجرائم ركزت على كيانات وشخصيات، عارضت سياسات النظام وممارساته أو اعترضت عليها، فإنها طالت في بعض الأحيان أطرافاً صديقة للنظام أو قريبة منه، اقتضت مصلحة النظام في مرحلة ما، أن يذهب في بعض جرائمه ضدها. وتتضمن قائمة جرائم النظام الخارجية الكثير ومنها جرائم عامة تتعلق بانتهاك القانون الدولي والإنساني مثل استهداف المدنيين بوصفه جريمة حرب، والإبادة الجماعية واستخدام الأسلحة الكيماوية، وتعذيب السجناء ومعاملتهم معاملة مهينة وقتلهم. أيضاً الاغتصاب والعنف الجنسي في أثناء النزاعات المسلحة. ومن جرائمه ضد الدول تصدير اللاجئين والاشتغال عليهم في دول اللجوء ونشر الكراهية ضدهم، وتوتير ظروف حياتهم، واعتقال وقتل الصحافيين الأجانب في سوريا، وشن حملات الكذب والافتراء والتشهير ضد دول وقادة وشخصيات من كل المستويات في الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية خصوصاً الحقوقية والإنسانية، وكان كله تعبيراً واضحاً عن رفض أي سلوك أو قول لا يتوافق مع سياسة الحل الأمني العسكري الذي اختاره النظام منذ البداية، وما زال مستمراً فيه مع حلفائه الروس والإيرانيين.
إن الخط المشترك في جرائم النظام الداخلية والخارجية، يقوم على فعل ارتكاب الجريمة، وترك الضحايا يتحملون النتائج، وهو ما تمثل عملياً في أول جرائمه عندما بدأ القتل والاعتقال واجتياح بعض المناطق وحصارها تحت ظروف غير إنسانية، وعندما وجد عجزاً من السوريين على رد حازم وسكوتاً من المجتمع الدولي في رد قوي، ذهب إلى الأبعد والأشد في جرائمه؛ تدمير قدرات السوريين وإمكانياتهم المادية الفردية والاجتماعية من مشافٍ ومدارس وطرق وشبكات كهرباء وماء واتصالات، ثم ذهب إلى جريمة نزوح وتهجير، لم تشكل ضغطاً على المناطق الخارجة عن سيطرته فقط، إنما على دول الجوار والأبعد منها، التي استقبلت ملايين المهجّرين واللاجئين، ولم تقل كلمة في وجه من تسبب فيها، وهي تقوم اليوم بلوم اللاجئين الضحايا، وتطالب بعودتهم إلى سوريا رغم استحالة العودة.
ورغم خطورة جريمة تهجير ملايين السوريين، ودفعهم إلى شتات في نحو مائة وثلاثين بلداً، فإن ثمة جرائم تعدّ أكثر خطراً وهي استخدام السلاح الكيماوي، وكان يُفترض تطبيق أقصى العقوبات فيه، لكن الرد على الجريمة بدا ضحلاً وهزيلاً لدرجة لافتة، حيث جدد النظام ترسانته الكيماوية، وأعاد استخدام السلاح مرات ومرات، ودخل في اشتباك دولي، ينفي التهم المتعلقة بالملف الكيماوي الذي لا شك أن لدى الدول المؤثرة في السياسة الدولية كل المعطيات والحقائق حول جرائم الكيماوي.
إن تقديم دلالات على رمي ونفي النظام جرائمه على السوريين والمجتمع الدولي، مسألة سهلة لا تحتاج إلى كثير من الجهود، وإذا كان السوريون في مستوى العجز عن الرد بسبب ما أصابهم، فإن المجتمع الدولي لديه كل القدرة والإمكانية ما عدا توفر الإرادة في الرد على تلك الجرائم، لكنه فضل السكوت عن الجرائم وتحمل تبعاتها، بل مسايرة مرتكبها وشركائه الإيرانيين، وأفرغ الطاقة الإيجابية للسوريين في مواجهة نظام الأسد عبر تدخلات حرفت مسار الثورة، وعززت حضور المتطرفين في البلاد، وهمّشت المعارضة خصوصاً القوى الوطنية الديمقراطية فيها.
ويمثل معالجة شكل التعامل الدولي مع جرائم النظام على مستوى الدول والمؤسسات معاً مهمة مماثلة، لا بد من حلها، وأولى الخطوات في هذا السياق، تتمثل في إطلاق فاعلية السوريين في مواجهة النظام وجرائمه، ثم في انخراط الدول والهيئات باتجاه تطوير سياسات سورية تواجه نظام الأسد، ولا تردّ على جرائمه فقط، فهذا صار شيئاً من الماضي في بعض منه.
فايز سارة_ الشرق الأوسط