من التغيرات الاجتماعية التي طرأت على التصورات والاتجاهات السورية، على إثر الثورة والحرب السورية التي تلتها، الانقسام السوري في الأنماط الاجتماعية والثقافية الخاصة بأدوار النساء السوريات، حيث هناك من يحمل تصورات شبيهة بتلك التي تحملها المرأة السورية المعاصرة عن ذاتها، في إطار المنظومة الجندرية المعاصرة التكاملية بين الذكور والإناث، وهناك في الوقت نفسه من يحمل تصورات الصورة النمطية التقليدية المتمثلة بمجموعة السمات التي تحملها المرأة السورية التقليدية للمعتقدات المنسوجة حولها في إطار المنظومة الجندرية الأبوية.
الحالة الطبيعية أن تتغير الاتجاهات السورية المعلنة نحو أدوار المرأة وقضاياها لدى بعض السوريين، بطريقة تواكب التغيرات التي حصلت في أدوارها الاجتماعية نتيجة الثورة والحرب، لكن معظم الاتجاهات رفضت التحولات التي طرأت لصالح المرأة على أرض الواقع. وما زالت هذه التصورات المتباينة إلى حد التناحر تتجاورُ بهدن غير معلنة، يعكّر صفوها بين الحين والآخر تصريح صاخب من هذه الجهة أو تلك، في ثنايا الخطاب الاجتماعي السوري العام، خاصة المتداخل في الحقول السياسية والاعتقادية.
بيّنت الدراسات السوسيولوجية السورية التي تصدت لموضوعات التغيرات التي طرأت على أدوار المرأة السورية في ظل الحرب السورية [1] أن هناك انخراطًا أكبر للنساء السوريات في الحياة السورية العامة، مقارنة بمرحلة ما قبل الثورة السورية 2011، كالمشاركة في التظاهرات والاحتجاجات، والعمل الإغاثي، والعمل في المشافي الميدانية، والأعمال القتالية، كذلك تحمّل مسؤولية الأسرة والمنزل كاملة، بسبب غياب الرجال (بسبب القتل والموت، والاعتقال والاختفاء، والتهجير القسري)، كذلك في أوضاع اللجوء، خاصة في أوروبا، حيث كانت لبعض النساء فرصة كبيرة للتحرر من الزواج التقليدي وثقافته الذي تراه المرأة قمعيًا أو غير مريح لها؛ وتحولت النساء من ممارسة أدوارهن التقليدية، كزوجات وأمهات، إلى تولي مهمات مماثلة لمهمات أزواجهن، بينما كان الزوج هو “المعيل” التقليدي في السياق الأسري التقليدي، بل صرّحت بعض السيدات بأن أحوال الحرب واللجوء منحتنهن حرية وحقوقًا أوسع من التي كانت متوفرة في سورية، فانبثقت لديهن أدوار جندرية جديدة بعد اللجوء، إذ انتقلت المرأة من العمل المنزلي التقليدي وتدبير المعيشة داخل البيت، إلى العمل المنتج الذي يُدرّ دخلًا، بالتفاعل مع الفضاء الاجتماعي الثقافي العام، كما انتقلت من الخضوع التقليدي الذكوري والاعتمادية، إلى تقلّد السلطة الأسرية، أو المشاركة الندية في هذه السلطة، بالحدود الدنيا. وكذلك انخرطت بعض النساء السوريات إلى جانب الرجل في إنشاء العديد من الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية، وشكلت هيئات متخصصة بشؤون المرأة السورية، واستطاعت التحرر من بعض العادات والتقاليد السائدة في المجتمع المحلي.
في الوقت نفسه، استمرت صور الأنماط التقليدية لأدوار النساء السوريات في النسق الاجتماعي السوري، بل ازدادت قوة في المناطق التي سيطرت عليها الفصائل الإسلامية الراديكالية التي عملت على إعادتها إلى البيت، وفرضت عليها الحجاب والنقاب، وبخاصة في مناطق سيطرة (داعش) و(النصرة)، واتخذت موقفًا متحفظًا أو معاديًا لأي دور نسائي معاصر، وعمقت الأنماط التقليدية النسائية في تلك المناطق، استنادًا إلى أدوارها الإنجابية والعناية المنزلية، التي لم تلحظ بعين الاعتبار الآثار التي أحدثتها التغيرات التي طرأت على واقعها في مرحلة الحرب، وخاصة انخراطها في ميادين العمل الجديدة، فالمرأة عند هؤلاء ما زالت تحتاج إلى رعاية الرجل وحمايته، وعليها طاعته والخضوع لسلطته!
إن التحفظ على عمل المرأة لدى هؤلاء ليس ناتجًا عن الخوف على النساء من العمل خارج المنزل، بل لأن هذا العمل يؤدي إلى الاستقلال المادي، وهو السبيل إلى التحرر الشخصي من السلطة العائلية الذكورية، كما يؤدي إلى بروز مكانتها الشخصية في الفضاء السوري العام، وما ينتج عنه من تآكل لسلطتهم الاجتماعية السائدة في السياق الاجتماعي السوري. كذلك نجد بعض السوريين يشجعون عمل النساء بشرط أن يكون أقلّ شأنًا من عمل الرجال، لكيلا ينتج عن عملهن تحدّ لرفعة ومكانة الذكور اجتماعيًا وثقافيًا في الأسرة! ولذلك وجدنا العديد من النساء السوريات قد صرّحن بأن عملهن خارج المنزل لم ينتج عنه مساواة جندرية حقيقية على أرض الواقع.
ربما أكثر تجليات ثبات الصور النمطية التقليدية للنساء السوريات نجدها في قوانين الأحوال الشخصية السورية؛ فالتمييز الجندري المتضمن في هذه القوانين هو صورة مكثفة عن الصورة التقليدية النمطية للنساء في الثقافة لاجتماعية الأبوية السورية، لذلك نجد البعض ما زال يدافع بشراسة ضد دعوات التغيير أو التعديل في هذه القوانين، استنادًا إلى ثقافة تقسيم الأدوار النمطية الطبيعية، كذريعةٍ تستمدّ قُدسيتها من تأويلاتهم الخاطئة للنصوص الدينية التي يرفعونها فزاعة في وجه المطالبين بتعديلها أو تغييرها لهذه القوانين.
كذلك لا تزال التنشئة العائلية تتجه إلى تعزيز القيم الاجتماعية التي تشدد على ضرورة الامتثال للمنظومة القيمية التقليدية السائدة بين السوريين، التي تثمن الأدوار النمطية التقليدية للإناث والذكور، من خلال تنشئة الأبناء الذكور للتشبه بالأب، والأبناء الإناث للتشبه بالأم، من خلال تحفيز الزواج والإنجاب والعناية بأفراد الأسرة والمنزل.
يبقى هذا النمط التقليدي للمرأة السورية في العمل المنزلي، حتى في حال قيامها بعمل خارج المنزل، حيث تكون المساعدة في الأعمال المنزلية من الإناث لا من الذكور، حتى في مساحة القرارات الأسرية يُترك للمرأة البتّ في ما يخص الشؤون المنزلية وتربية الأطفال، وتظل الأمور المالية والقضايا المتعلقة بالخارج من مهمات الذكور.
في الوقت نفسه، تتوفر أنماط معاصرة لدى البعض في ما يتعلق بالاستقلال المادي للنساء، والمشاركة في اتخاذ القرارات واعتماد الحوار أداة لحلّ الخلافات الأسرية، وذلك لدى الفئات الأكثر تعلمًا، والفئات التي تكون المرأة عاملة في مهنة خارج المنزل. وتتكثف الأدوار النمطية التقليدية في أكثر تجلياتها وضوحًا في ثقافة ما يسمى “الشرف” ذات الصلة بجنسانية المرأة، وبارتباطها بذكورة رجال عائلتها، التي ينتج عنها مقتل العديد من النساء تحت هذه الذريعة.
نستنتج مما سبق أن التحديات التي تواجه النساء السوريات كبيرة جدًا، خاصة الناجمة عن استمرار وتجاور الأنماط الثقافية التقليدية إلى جانب المعاصرة الجندرية، وهذا ناتج عن التغيرات التي طرأت على أدوار ومكانة النساء السوريات، إثر الثورة والحرب، ولم يرادفها تلقائيًا تغيرات بالتصورات الاجتماعية والثقافية الخاصة بسلوك المرأة والرجل، خاصة المرتبطة بالثقافة الجندرية، لذلك يجب على المهتمين بشؤون المرأة وقضاياها، وبخاصة المنظمات النسوية، رصد مكامن التمييز الجندري في البنى الثقافية المتنوعة لدى السوريين كافة، من أجل بث الثقافة الجندرية المعاصرة، ثقافة المساواة بين الإناث والذكور التكاملية، حيث الحاجة الماسة إلى ردم الهوة بين الواقع الفعلي لأدوار ومكانة النساء السوريات والتصورات النمطية السائدة عنهم، من خلال الإقلاع عن الهدن الثقافية السائدة والداعمة لتجاور تصورات واتجاهات داعمة لتعايش أنماط أدوار نسائية تقليدية ومعاصرة في الوقت نفسه.
[1] – طلال مصطفى، حسام السعد، التغيرات التي طرأت على أدوار المرأة في الحرب السورية – مركز حرمون للدراسات المعاصرة https://bit.ly/3gobjQ9
طلال مصطفى _ مركز حرمون للدراسات