سيريا برس _ أبناء سوريا
شباب جنوب سوريا.. الاغتيال في الجنوب أو التهجير .. إعداد : عبيدة عمرو – عدنان العبدالله – عامر الحوراني
أصبحت الحياة في الجنوب السوري شبه مستحيلة لأهالي منطقة جغرافية تتكالب عليها روسيا وايران لبسط النفوذ وإخضاع السكان لسلطة نظام الأسد وحلفائه المطلقة والأبديّة، وسط هذه الظروف الأمنيّة والمعيشيّة مجتمعة بالغة السوء، وأسباب متعددة ساهمت بدفع جميع الشباب للتفكير بترك البلاد وهجرتها بطرق مختلفة، لكنّ أوضاع البلاد وكون معظم فئة الشباب التي تتراوح أعمارهم من سن 18 عامًا إلى 35 وجدوا نفسهم مطلوبين للأجهزة الأمنيّة بهدف التضييق على ذويهم وابتزازهم، وكانت الحجج والذرائع أسباب سياسيّة أو التجنيد الإلزامي أو الاحتياطي مما أجبرهم على سلك الطريق الأخطر بالهجرة عن طريق التهريب ودفع أموال طائلة مقابل ذلك دون الاكتراث لخطورة الأمر على أرواحهم.
لم يغادر إلّا عدد قليل من أبناء الجنوب السوري في قوافل التهجير التي رعتها روسيا في شهر تموز 2018، بعدما وضعت الشباب أمام خيارات صعبة بالمغادرة أو البقاء إذ قدمت اتفاق غير واضح الشروط وتسوية لأوضاعهم ووعود بعدم ملاحقة المطلوبين منهم وأوهمتهم بحل سياسي قريب في سوريا، ليعيش الأهالي بعدها واقعًا مغايرًا لكل الوعود تحت سلطة النظام.
ومنذ سيطرة النظام على جنوبي سوريا، يهاجر يومياً العديد من أبنائها نحو الشمال السوري، بمساعدة مهربين يتبعون بشكل أو بآخر لضباط من النظام، وأغلبهم يكملون طريقهم إلى خارج الأراضي السورية، منهم إلى تركيا وهذا بطرق غير شرعية بينما يقصد بعض المهاجرين الجمهورية اللبنانية، كل ذلك يأتي بعد عدم وفاء النظام بوعوده واستمرار انتهاكاته لكافة شروط اتفاق التسوية “الذي تضمنه روسيا” مما جعل من الجنوب السوري بيئة غير آمنة للعيش خصوصًا لفئة الشباب.
ونجحت، مؤخرًا، مجموعة من السوريين تتألف من 106 أشخاص، بالعبور من مناطق سيطرة الأسد نحو الأراضي التي تسيطر عليها فصائل المعارضة في ريف حلب بالشمال السوري، يوم الاثنين 9 تشرين الثاني/نوفمبر، لكنّ رحلة هجرتهم لم يكتمل نجاحها لخارج البلاد إذ اعتقلتهم فرقة الحمزة إحدى فصائل الجيش الوطني المدعوم تركيًا، والتي تشرف على المناطق التي يتم منها التهريب.
تواصل “تجمع أحرار حوران” مع الشاب “أحمد” (اسم مستعار) من محافظة درعا كان ضمن المجموعة الواصلة للشمال والتي اعتقلتها فرقة الحمزة وأحالته إلى الشرطة العسكرية لتحتجزها وهو إجراء متّبع لكل القادمين عن طريق التهريب من مناطق سيطرة النظام للتحقيق في أمرهم تخوّفًا من تبعيّة أحدهم لقوات النظام أو الوحدات الكرديّة لتلافي ضلوعهم بعمليات تفجير ضمن تجمّعات شعبيّة في المناطق الخاضعة لسيطرة هذه الفصائل، وهو أمر شاع كثيرًا في الفترة الماضية.
لكن حصل ما هو غير متوقع في التعامل مع هذه المجموعة إذ يتحدث أحمد عن قيام الشرطة العسكرية بابتزاز أفراد المجموعة وطالبتهم بدفع مبالغ مالية مقابل إخلاء سراحهم وخيّرتهم بين ذلك أو إعادتهم لمناطق سيطرة النظام، حينها قبل قرابة 35 شخصًا بدفع مبلغ 1500 دولار عن كل شخص منهم بينما رفض البقية لتقوم الشرطة العسكرية بتسليمهم لفرقة الحمزة على أساس أن تعيدهم من حيث أتوا ثم بعد يوم أطلقوا سراحهم.
ويبيّن أحمد إنّ الفرقة قامت بعمليات تمويه لإخافتهم وإرجاعهم عدة كيلومترات ووضعهم في منزل قريب من خطوط الجبهات مع النظام لكن في النهاية جاء “دلّال” وأرسلهم لمدينة عفرين بريف حلب، ليتبيّن أن كل ما حصل كان بدافع ابتزاز أفراد المجموعة لإجبارهم على دفع الأموال مقابل إبقائهم، وعندما لم ينجح ذلك أطلقوا سراحهم.
1. البشر سلعة:
لا قيمة للشخص أو لما قد يتعرّض له بالنسبة للسمسار أو المُهرّب، فهو لا يرى فيه إلا مبلغاً من النقود يأخذها حال وصوله إلى وجهته، وفي حال تعرّضه للاعتقال أو القتل أو فشلت محاولته في الوصول، فالمُهرّب لا يدفع من جيبه فلسًا واحدًا، وهذه قاعدة أنشئت عليها عدة أساليب للتهريب، كإدخال عدة مجموعات في توقيت واحد من عدة أماكن، تستخدم واحدة أو أكثر كطعم ليمسك بها حرس الحدود و تدخل المجموعات الأخرى، المهرب طبعًا لا يخبر هذه المجموعة بأنها طعم لكنه في العادة ينتقي هذه المجموعات بحسب المربح المأخوذ على كل شخص فيها، فمن مربحه خمسمئة دولار أمريكي ليس كمن يستفيد منه بمئة دولار، كما يقول أبو محسن (اسم مستعار) وهو مُهرّب سابق تواصل معه تجمع أحرار حوران.
وينقسم المهرّبون لعدة أنواع وأشكال، فمنهم الكبار وهم من يخطّون الطرق ويفتحون الجدران وهؤلاء معدودون على الأصابع، أما السماسرة فأعدادهم بالآلاف أو حتى بعشرات الآلاف، وقد يمر الزبون على عدة سماسرة بتراتبيّة حتى يصل إلى المهرّب الأساسي، ويأخذ كل سمسار من الزبون نصيبه من المربح، كما حصل مع أبو أنس (اسم مستعار) وهو شاب من محافظة درعا حاول الخروج إلى تركيا عدة مرات مع عائلته.
لكن جميع محاولات أبو أنس باءت بالفشل، ويقول “ذهبنا إلى طريق يُفترض أنه طريق إذن عسكري، وكنت اتفقت مع السمسار على مبلغ 1200$ لكل فرد من عائلتي، لكني تفاجأت أثناء محاولتي العبور وعبر دردشتي مع ركابٍ آخرين، بتفاوت المبالغ المدفوعة من قبلهم على نفس الطريق ولدى نفس المهرب، وتجاوز هذا التفاوت 500$ بين راكب وآخر”، عندما فشلت هذه المحاولة قطع علاقته بالسمسار وتواصل مع المهرّب الرئيسي بشكل مباشر.
وفي طرق التهريب من الجنوب إلى الشمال، مخاطر جمّة ومهربون بالجملة، يقول أبو سامر (اسم مستعار) وهو سمسار يعمل في تهريب البشر من محافظة درعا إلى الشمال السوري المحرر، أنه حين حديثه مع زبون يود الخروج يُبيّن له مخاطر الطريق واحتماليه اعتقاله أثناء عبوره، أو تعرّضه لكمين أو حتى إطلاق النار عليه، وهو ما لا يفعله كثيرٌ من المهربين، الذين “يحوّلون البحر لطحينة للزبون أو الراكب” أو يضمنون الطريق له مقابل أخذ سعر أكبر بالادّعاء بأن الطريق “آمن ومكفول”، وفي حال حصول أي مكروه للراكب، يُخلي المهرب أو السمسار مسؤوليته بقوله “ما في طريق تهريب مكفول” على حد وصفه.
وفشل العديد من أبناء الجنوب السوري من إكمال رحلة هجرتهم غير الشرعية نحو الشمال السوري، إثر تعرضهم للاعتقال من قبل حواجز النظام على الطريق، وهو عادة ما يكون بسبب تواطؤ المهرب مع النظام واستغلاله لهم بعد أن كسب منهم أموال طائلة مقابل إيصالهم لوجهتهم.
ومثال على ذلك الشاب محمود الزعبي المنحدر من ريف درعا الشرقي إذ اعتقله فرع أمن الدولة على حاجز طيّار “مؤقت” في العاصمة دمشق في طريق هجرته للشمال السوري عن طريق “التهريب” برفقة شبّان آخرين من المحافظة، وقضى في المعتقل أكثر من عامين.
كان اتفاق الزعبي مع مهرّب، من محافظة درعا ويعمل لدى ضابط روسي كـ”مترجم”، على أن يوصله لمحافظة حماة شمالي سوريا، مقابل 1100 دولار أمريكي، ولا يسلمه المبلغ إلى حين وصوله لحماة، إذ بقي المبلغ بحوزة وسيط في محافظة درعا، وفق حديث الزعبي بشكل خاص لتجمع أحرار حوران.
ويضيف مررنا بأربعة حواجز لنظام الأسد لم يوقفنا أيّ منهم إذ أن سيارة الضابط الروسي كانت تسير أمامنا لتمنع إيقاف الحواجز لنا، ولكن قطع طريقنا حاجز طيّار يتبع لفرع أمن الدولة وأثناء حديثهم معنا تبيّن بأنهم على دراية بأمرنا وقد وضعوا الحاجز خصيصًا لاعتقالنا.
يقول الزعبي البالغ من العمر 27 عامًا، على الرغم من أننا استرجعنا الأموال ولكنّي قضيت عامين صعبين في سجن صيدنايا بتهمة الإرهاب، إذ كنت عنصرًا سابقًا في فصائل الجيش الحر وقررت الهجرة للشمال السوري بعدما تعرّض الكثير من معارفي للاعتقال فخفت من مصير مشابه، لكن هذا المصير اصطدمت به أثناء محاولتي الهجرة.
وتمكن تجمع أحرار حوران من توثيق أسماء 183 شخصًا من محافظة درعا اعتقلتهم قوات الأسد أثناء محاولتهم الخروج عن طريق التهريب نحو الشمال السوري، منهم من اعتُقل في دمشق ومنهم في حماة وآخرين في ريف حلب وكل هذه محطات طريق هجرتهم نحو الشمال، إذ يرجح المكتب الحقوقي في التجمع أن أعداد من جرى اعتقالهم خلال تلك المحاولات يزيد عن ذلك بكثير.
2. معابر موت ما قبل الحدود:
كثير من مجموعات المهاجرين وقعت بين معتقل وجريح وقتيل جرّاء فشل العديد من عمليات التهريب تلك نحو الشمال السوري، ومن أبرز الأمثلة على ذلك حادثة منتصف ليلة (الثلاثاء – الأربعاء) 12 آب/أغسطس الفائت، حينما قتل وجرح واعتقل العشرات من السوريين الفارين من مناطق النظام نحو مناطق فصائل الجيش الوطني المعارضة شمال حلب بعد أن كُشفت عملية تهريبهم.
وتوصّل تجمع أحرار حوران لأحد الناجين من تلك الحادثة الشاب حسن ابن مدينة درعا، الذي اختار الهجرة إلى الشمال السوري ومنه إلى تركيا، بسبب تخوفه الشديد من الأوضاع الأمنية في منطقته بعد اختطاف أحد أصدقائه على حاجز للنظام في مدينة درعا بالرغم من حمله لبطاقة التسوية والتي يصفها أبو حسن (ببطاقة التصفية لا التسوية).
ويروي ما جرى تلك الليلة “طريق الشمال كان أحقر طريق رأيته في حياتي، نمشي بين الجبال والوديان المرعبة من نبل لعفرين، وكان عددنا ما يقارب 50 شخصًا، ومعنا دلال (مهرب) أدخلنا بين نقاط عسكرية للنظام وفصائل الأكراد، وبدت عليه ملامح الخوف فعرفنا أننا قد وقعنا في كمين، وبدأ إطلاق النار علينا من نقاط جيش الأسد ونقاط الأكراد، وعندها قال لنا الدلال اتجهوا نحو الضوء الأحمر، ركضنا في ذلك الاتجاه فوجدنا أنفسنا في حقل ألغام سرعان ما بدأت بالانفجار مخلفة قتلى وجرحى كان من بينهم القيادي السابق في فصائل المعارضة “رمزي أبازيد”، الذي يعرف بـ(رمزي سجيل) الذي داس بقدمه وسقط على لغم متفجر ليفارق الحياة على الفور”.
وفي التحقيق في تلك الواقعة الأليمة، تحدث لـ”تجمع أحرار حوران” أبو خالد (اسم مستعار) وهو سمسار كان لديه عدة ركاب في عملية التهريب تلك، “كان الطريق مغلقاً بين منطقتي نبل التي تسيطر عليها الميلشيات الشيعية ومنطقة عفرين شمال حلب، لعدة أيام قبيل عيد الأضحى، ما أدى لتكدّس أكثر من 1700 مهاجر في منطقة نبل، وعند أول فرصة لفتح الطريق أصبح المهربون يدفعون المدنيين بأعداد كبيرة باتجاه مناطق سيطرة الجيش الوطني، وعبرت مجموعات بعشرات الفارّين في الأيام التي سبقت الحادثة ووصلوا إلى مناطق المعارضة”.
ويكمل: لكن الطريق أغلق بعد ذلك اليوم، وأراد المهربون “اختبار طريق جديد وفتحه باتجاه نقاط جديدة غير النقاط الاعتيادية، وهذا ما أدى إلى دفع الركاب إلى طريق آخر”.
وكان قد انقطع الاتصال بمجموعات من المدنيين حاولت الدخول لمناطق المعارضة في ذلك اليوم بعد منتصف الليل، في الرحلة التي تستغرق عادة بين (6-12 ساعة)، لكن أخبارهم انقطعت وتضاربت الأنباء حول ما حصل في أول يوم بعد الحادثة، بسبب تكتم المهربين وحجزهم على بعض المجموعات التي استطاعت العبور بسلام وعدم السماح لهم بالاتصال بالإنترنت ومراسلة أقاربهم، كما حدث مع نزهت ابن إحدى قرى ريف درعا الشرقي، الذي نجى من تلك الحادثة، وقد مُنع عنه الانترنت من قبل المهربين ليومين قبل أن يتواصل معه تجمع أحرار حوران بعد الحادثة بعدة أيام.
يقول نزهت إنّه لم يعرف بمقتل قريبه إلا بعد عدة أيام من الحادثة، كذلك يقول أحد أقرباء رمزي أبازيد “ظل السمسار الذي خرج عن طريقه (رمزي) يكذب علينا ليومين، ويؤكد أنه ليس بين الأشخاص المصابين أو القتلى في الحادثة” حتى جاء الخبر اليقين في اليوم الثالث من الحادثة بوجود جثة رمزي في المشفى العسكري مع جثتين أخريين، وفي تسجيلات صوتية حصل عليها التجمع تعود لهذا السمسار اتهم الإعلاميين ومجموعات الأخبار بتناقل أخبار زائفة عن وفاة رمزي نافياً صحة هذه الأخبار ومعرفته “برمزي” أيضاً في تسجيلات صوتية احتفظ بها قريبه الذي رفض الكشف عن اسمه.
ويقول وليد المنحدر من محافظة إدلب وكان قد عبر من لبنان إلى محافظته، في ذات الطريق واليوم الذي توفي فيه “الأبازيد”، “كنا في مقدمة المجموعة، وأمامنا الدليل، لكنا خطونا فوق صواعق أطلقت إشارات ضوئية، ما جعل كافة النقاط العسكرية المحيطة بنا تطلق النار باتجاهنا، وعلى إثر ذلك ضللنا الطريق ووصلنا لمناطق سيطرة “قسد”، لكن من حسن حظنا أن مهربنا استطاع إخراجنا من قبضتهم وإعادتنا للشمال بفضل علاقته معهم”، ويؤكد هذه الرواية عدة أشخاص تواصل معهم تجمع أحرار حوران.
ويضيف وليد، “بعد هروبنا جراء إطلاق النار، سمعنا عدة انفجارات من جهة المجموعات التي تسير خلفنا وتبعها إطلاق نار كثيف”، ويُرجح نزهت أنها الانفجارات نفسها التي قضى بها رمزي أبازيد مع عدة أشخاص غيره.
ووثق تجمع أحرار حوران استشهاد 4 من أبناء محافظة درعا أثناء محاولتهم العبور للأراضي التي تخضع لسيطرة فصائل المعارضة في الشمال السوري في الحادثة ذاتها التي وقعت منتصف ليل الثلاثاء/الأربعاء 12 آب/ أغسطس الفائت، بينما وقع العشرات أيضًا بين شهيد وجريح ومعتقل لدى قوات الأسد دون وجود إحصائية دقيقة لنتائج الحادثة.
3. العبور من الجنوب لتركيا.. استغلال واحتيال:
على الرغم من المخاطرة بأرواح الشباب المهاجرين عن طريق عمليات التهريب، فإنّ الاحتيال والاستغلال أمران لا تخلو منهما هذه العمليات وذلك ما أجمع عليه من حدّثهم تجمع أحرار حوران من مهرّبين ومهاجرين، وأثبتته شهادات بعض منهم ممن تعرضوا لذلك.
يروي الشاب “خالد.م” ابن ريف درعا الغربي مشوار هجرته نحو تركيا، “خرجنا من درعا للشام مع شابين في مقتبل العمر مطلوبين للخدمة الإلزامية، ومنها لحلب، عند وصولنا لأول استراحة قال صاحب السيارة ممنوع تنزلوا وأعطونا نشتري لكم أغراض، لكنه زاد علينا في أسعار المواد وعندها بدأ الاستغلال ثم طلب منا إكرامية 3000 ل.س عن كل شخص.
وعند وصولنا إلى نبل بريف حلب أخذ المهرب حقائبنا وقال سنلحقكم بها ولم يفِ بوعده وبقيت الحقائب عنده في سرقة صريحة بعد وصولنا لعفرين، واستمرت محاولات الاستغلال والاحتيال من قبل السماسرة والمهربين خلال كل مراحل عملية تهريبنا وإيصالنا إلى إحدى القرى على الحدود مع تركيا، وفق خالد.
واحدة من هذه المحاولات في نبل حيث قدم إلينا شاب يدعى ساجد وقال لرجل خمسيني بيننا عندما تصلون للبيت أو المقر سنأخذكم بسيارات ثم نسير إلى قرية الباسوطة في ريف حلب الخاضعة لسيطرة فصائل تتبع للجيش الوطني السوري مسافة تستغرق تقريباً 6 ساعات، وأوعز لنا بأن نسلمه هواتفنا وأموالنا وهو يؤمنهن ويسلمنا إياهن عندما نصل إلى القرية، لكن الجميع رفض ذلك.
واستمرت رحلة تنقلنا من منطقة إلى أخرى إلى أن أوصلونا لقرية بقرب السياج الحدودي مع تركيا، وهناك مكثنا يومين، دون أن يسمح لنا بالتواصل مع أحد أو معرفة اسم القرية التي نحن فيها، وخلالهما حاولنا العبور إلى تركيا ولكن فشلت محاولاتنا.
وفي اليوم الثالث سمح المهربون لنا بالخروج بعد أن ألحينا عليهم بسبب حاجتنا لتغيير ملابسنا وقضاء حاجاتنا الشخصية، وبعد ذلك بيوم كررنا محاولتنا العبور من منطقة مختلفة مع شابين فلسطينيين وجدناهم في طريقنا على الحدود لكن لم ينجح من بيننا سوى الأخيرين بالعبور للأراضي التركية كونهم قاموا برشوة الدلال بمبلغ 100 ليرة تركية عن كل واحد وحُلي إضافية.
وفي محاولة أخرى للعبور يرويها الإعلامي إسماعيل المسالمة ابن مدينة درعا لتجمع أحرار حوران، أن المهربين وضعوهم طعماً لحرس الحدود التركي حتى يفتحوا ثغرة وتسنح الفرصة لتهريب دفعة أخرى من طريق مختلف وهذا يعتمد على من يدفع أكثر، ويكمل الشاب حديثه أنه عندما تم الإمساك بهم جعلوهم يقومون بتعبئة أكياس وتحصينات عسكرية على الحدود.
وعندما ظن الشبّان أن الأمر انتهى بتعبئة الأكياس الترابية جاء ضابط تركي وبيده إسطوانة حديدية ظنّوا أنه يريد إخافتهم حتى انهال عليهم بالضرب لحد أن تكسّرت أصابع أحدهم وأضلاع الآخر ومنهم من نزف من رأسه ثم سمح لهم بالعودة للأراضي السورية.
“استمرت محاولاتنا في العبور نحو الأراضي التركية ونجحنا في ذلك ولكن بعد دفع المزيد من الأموال ومع ذلك تعرضنا لعديد من عمليات الاستغلال أثناء نقلنا داخل الأراضي التركية إلى حين وصولنا لوجهتنا الأساسية العاصمة إسطنبول” وفق حديث المسالمة.
4. بلاد بلا شباب:
ما زالت رحلات التهجير غير الشرعية من الجنوب السوري نحو شمالي سوريا مستمرة، إذ يخرج يوميًا عشرات الشبّان من محافظة درعا ومنهم من يترك عائلته وأملاكه لينقذ روحه من خطر الاغتيالات والاعتقالات التي لم تتوقف منذ سيطرة النظام على المحافظة في تموز 2018، وآخرين ممن لا يرغبون بالالتحاق بالخدمة الإلزامية أو الاحتياطية أو إكمالها في صفوف جيش الأسد الذي أصبح يزج بهم في الخطوط الأولى على جبهات الشمال السوري لقتال أبناء بلدهم، بحسب الشاب “طارق الجندي” (اسم مستعار) من مدينة نوى، انشق عن الجيش مرة ثانية بعد إجرائه التسوية والتحاقه بصفوفه لمدة أشهر قبل أن يفضّل الهرب نحو الشمال السوري عن طريق أحد المهربين.
وفي حديثه مع تجمع أحرار حوران، علّل سبب هجرته نحو الشمال السوري خوفًا من الاعتقال أو الاغتيال في مدينته التي شهدت الكثير من هذه العمليات كما سائر المناطق في محافظة درعا، وخاصة بعد تخلّفه عن الخدمة العسكرية عقب حصوله على إجازة من الثكنة العسكرية التي عاد ليخدم فيها بإجرائه للتسوية.
وصول الجندي للشمال السوري كلّفه 1200 دولار تقريبًا ومع ذلك فإن خطر الموت لم يزُل مع استمرار قصف الأسد وروسيا وغدرهما بالمدنيين هناك بين الحين والآخر ناهيك عن التفجيرات التي تحصل في بعض المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل الجيش الوطني في ريفي حلب وادلب.
ليس الجندي وحده من غادر مدينة نوى، ثاني أكبر مدن محافظة درعا تعدادًا للسكان (100 ألف نسمة)، إذ أنها تعتبر من أكثر المناطق التي عانت من فقدان شبابها وهجرتهم بطرق غير شرعية للشمال السوري أو حتى خارج البلاد، إلى جانب كلًا من مدينة الحارة وأحياء درعا البلد بمدينة درعا.
وتعد مدينة الحارّة واحدة من أكبر المناطق التي شهدت هجرة لأعداد كبيرة من شبّانها أيضًا لدرجة “أصبح من النادر أن ترى شاب يتجول في المدينة التي يبلغ تعداد سكانها 30 ألف نسمة” كما يقول أبو محمد الحارّي أحد سكان المدينة.
ويشرح الأهالي أن المدينة يكاد ينتهي فيها وجود الشباب بسن 17-35 عاماً بعد موجة اعتقالات وسحب للخدمتين الإلزامية والاحتياطية شنّها النظام وهو ما دفع أبناءها لمغادرتها.
5. إحصائيّات مخيفة:
تقاطعت الأسباب التي دفعت جميع من قابلناهم من الشباب للهجرة من محافظة درعا إلى الشمال السوري بطريقة غير شرعية، وكان السبب المشترك الأكبر هو الخوف من عمليات الاعتقال التي لا تكاد تتوقف منذ سيطر النظام على المحافظة وأجرى التسويات لشبّانها بضمانة روسيّة هشّة، إلى جانب عمليات الاغتيال التي تحصد “الصالح والطالح” بحسب مدير مكتب التوثيق في تجمع أحرار حوران المحامي “عاصم الزعبي”.
فمنذ أواخر تموز 2018، وهو تاريخ إتمام نظام الأسد سيطرته على محافظة درعا بشكل كامل، سجّل مكتب التوثيق اعتقال النظام لـ 1293 شخصًا في المحافظة الواقعة أقصى الجنوب السوري، والغالبية العظمى من المعتقلين يحملون “بطاقات التسوية” التي أجروها برعاية “الضامن الروسي” ومن المفترض أن تحميهم من هذه العمليات، وفق إحصائيات المكتب.
ويوضح مدير المكتب، إنّ 402 معتقل أُفرج عنهم لاحقًا ممن اعتقلوا خلال تلك الفترة، بينما استشهد منهم 57 معتقلًا تحت التعذيب في سجون الأسد وتسلّم ذوي بعضهم الأوراق الثبوتيّة الخاصة بهم من الأفرع الأمنيّة أو دائرة الأحوال المدنيّة في المحافظة.
أما الاغتيالات بلغ عددها 528 عملية ومحاولة اغتيال، خلال الفترة ذاتها من سيطرة النظام على المحافظة، نتج عنها مقتل 378 شخصًا وأصيب 230 شخصًا ونجا العشرات من محاولات الاستهداف بتلك العمليات الممنهجة والتي طالما كانت أصابع الاتهام والدلائل تشير لتورّط أفرع النظام الأمنيّة بتدبير غالبيتها.
ويشير مدير مكتب التوثيق، إلى أن عملية أو محاولة الاغتيال الواحدة قد تكون استهدفت أكثر من شخص معًا بينما يؤكد أن أعداد المعتقلين الموثقّة أقل بكثير من الأعداد الفعليّة لهم كون كثير من ذوي المعتقلين يُحجمون عن الإدلاء بشهادتهم أو التصريح بحادثة اعتقال أبنائهم لوسائل الإعلام لتخوّفات أمنيّة.
لم تتوقف عمليات تهريب البشر لا سيما الشباب من الجنوب السوري حتى اليوم، مع استمرار الفلتان الأمني هناك إذ يقدّر أنه يغادر محافظة درعا وحدها يوميًا أكثر من 20 شابًا بطرق التهريب نحو لبنان أو المناطق المحررة شمالي سوريا، لكن هذا لا يقتصر على الذكور فقد سُجّل وصول فتيات عن طريق التهريب للشمال السوري وعائلات كاملة وأطفال بشكل منفرد رغم خطورة ذلك، ولكن بنسب قليلة مقارنة بالشباب الذكور.
عن تجمع أحرار حوران