لا بدّ في البداية من الإشارة إلى أنني استعمل مفهوم “الشعبوية” في هذا المقال، بتعريفها الأكثر قربا إلى “الغوغائية”، وكان بالإمكان استعمال “الديماغوجية”، لكن ارتباط “الديموغاجية” و”الغوغائية” في تعريفاتنا المتداولة يغلب عليه التقييم الأخلاقي أكثر من معناه العلمي مما قد يتسبب بإشكال في فهم المقصود، عدا عن أنه سيثير حفيظة من يستسهلون القراءة ويذهبون للأحكام فوراً.
كانت الشعبوية قبل ثورة الاتصالات وانتشار وسائل التواصل، وإغراق العالم بـ “تسونامي” المعلومات المتناقضة، أقرب إلى حقيقة ما يجري في عمق المجتمع
ليست الشعبوية مكروهة دائماً، فهناك من يرى فيها وسيلة لاستعادة الحقوق التي سُلبت، وهي أساساً أُطلقت على قوى اجتماعية مهمّشة تمرّدت وتحدّت أجهزة سلطة مهيمنة، ولاحقاً وكما هي العادة، فقد حاول سياسيون كثر انطلاقا من “ميكافيلية” فجّة أن يجيروا هذه الشعبوية لأهدافهم الخاصة، وليس لمصلحة الشرائح المضطهّدة في المجتمع، وأصبحت اليوم تُطلق غالباً على الحركات السياسية أو الاجتماعية حديثة العهد، التي تتحدى القيم، والقواعد، والمؤسسات الراسخة في المعتقدات الديمقراطية، في حين ذهب “بن ستانلي” الذي قرأها بدلالة الشعب والنخبة إلى القول: إن الشعبوية هي نتاج «علاقة عدائية» بين «الشعب» و«النخبة».
كانت الشعبوية قبل ثورة الاتصالات وانتشار وسائل التواصل، وإغراق العالم بـ “تسونامي” المعلومات المتناقضة، أقرب إلى حقيقة ما يجري في عمق المجتمع، أي أنها كانت تعكس إلى حد كبير ما يجري بعيداً عن الضوء، وكان انفجار المهمشين كل فترة هو انفجار الصراخ المحتقن لجموع بشرية مضطهدة، لكن المشكلة اليوم في الحركات الشعبوية، إنّما يكمن أساساً في القدرة على صناعتها وتوجيهها قبل إطلاقها، وهي بهذا الشكل إنّما تعكس رغبة صانعيها، وليس حقيقة أوضاع وحاجات هذه الجموع.
الشعبوية هي التي دفعت أنصار ترامب لاقتحام مجلس النواب الأميركي، بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، في محاولة لمنع إعلان خسارة ترامب للانتخابات، وهي التي دفعت بالأمس، مؤيدو التيار الصدري لاقتحام مقر البرلمان العراقي، ومبنى القضاء الأعلى (ولست هنا بوارد إبداء الرأي حول صوابية هذا الفعل أو خطئه)، وهي التي دفعت (كما يظهر فيديو تم تصويره أمام أحد الأفران في لبنان)، مجموعة من الرجال يعتدون بوحشية على شاب سوري حاول شراء ربطة خبز، وهي التي تسببت في تركيا بموجة من التمييز العنصري تتصاعد كل يوم ضد السوريين.
لم تعد إذا الأوضاع المعيشية أو الحقوقية أو غير ذلك هي الفاعل الرئيس في انطلاق الحركات الشعبوية اليوم، فهناك، وفي كل الحركات الشعبوية اليوم يتدخل عاملان أساسيان:
- قادة أو سياسيون أو أحزاب..إلخ. يقدمون إجابات ساذجة أو كاذبة على أسئلة معقدة ومصيرية، مستعملين خطابا عاطفياً، أو انتهازياً، يحاول – أي الخطاب الشعبوي – أن يرضي نزعات ما عند جمهور واسع، ويهدف لتحشيدهم خلف فعل ما بغض النظر عن الاعتبارات المنطقية لهذا الفعل، وبغض النظر عن نتائجه وكيف سينعكس على المجتمع لاحقاً، لكنه فعل يخدم هذا القائد أو السياسي أو الحزب.. إلخ، في اللحظة الراهنة.
- وسائل إعلام حديثة، قادرة على الوصول إلى المليارات من البشر، ومدجّجة بكم هائل من المعلومات عن الأشخاص وميولهم واهتماماتهم، أو ما يشكل بؤرة إثارة لديهم، وهذه الوسائل توظف كل هذه الإمكانات بدلالة وحيدة هي الربح، أي أنها لا تخضع لمعايير المسؤولية الأخلاقية.
في صفوف السوريين سواء “المؤيد” أو “المعارض”، أو “المحايد” أصبحت الشعبوية سلاحاً بالغ الخطورة، ولأن السوريين اليوم مشتتون بلا أحزاب، ولا جمعيات أو منظمات مدنية وبلا قادة، أو مثقفين لهم حضورهم الفاعل في الشارع السوري، فإن الشعبويين يذهبون إلى استعمال أدوات أشد خطورة وفتكاً بالمجتمع، أدوات تستثمر في الدم، والطائفية، الكراهية، وإثارة الفتن.. إلخ، وتصبح هذه الأدوات هي روافع الشعبوية، وهي الأقدر على تحشيد السوريين رغم خطورتها البالغة، ولا سيما أن دعاتها انتهازيون، ومتحللون من أي شعور بالمسؤولية.
الوجه الأشد خطورة أيضاً، إنّما يكمن في منهجية تسود اليوم، هذه الخطورة لا تنحصر في تحشيد الناس حول فكرة خاطئة فقط، بل تتجلى أساسا في تشكل ما يشبه السلطة القمعية لمن يعارضون هذه الفكرة، بصياغة أخرى لم يعد دعاة الشعبوية يركزون اهتمامهم على نشر فكرة ما، بل أصبحوا يمارسون دورا قمعيا سافرا حيال الأفكار التي لا تتوافق مع ما يطرحون، يساعدهم في قمعهم هذا غياب إحساسهم بالمسؤولية، وغياب إمكانية محاسبتهم.
لا يمكنك اليوم أن تنتقد بشار الأسد في بيئة موالية له، ولا يمكنك أن تنتقد حزب الله في بيئة موالية له أيضاً، وقس على ذلك تركيا أو إيران أو روسيا وسياساتها حيال روسيا في البيئات الموالية لها، وستجد نفسك مضطرا لأن تبتلع نصف الحقيقة، إن لم يكن معظمها، عندما تريد أن تقول رأيك بأمر يتعارض مع شعبوية هنا أو شعبوية هناك.
إن الاستهانة بالشعبوية التي تتحول إلى رأي عام قد يكون مدمراً، فهذا الرأي أو الفكرة التي تنتشر على نطاق واسع إنما تمتلك قوة قد تصبح مواجهتها أمراً بالغ الصعوبة
لم يعد أمام السوريين اليوم لمواجهة هذه الاصطفافات الشعبوية المدّمرة، التي تتمدّد كل يوم، وتهدّد ما تبقى من وشائج تربط النسيج الاجتماعي السوري، سوى البحث عن وسائل توقف هذا الانجرار الأعمى نحو تمترسات وهويات قاتلة، وهذا يتطلب خلق شعبوية تعبر فعلاً عن مصلحة الشعب السوري، كمرحلة مؤقتة تسبق استعادة السياسة من محتكريها واستعادة الأحزاب لدورها، والأهم أنه لا بدّ من امتلاك وسائل إعلام ذات مصداقية، تتحمل مسؤوليتها في لحظة فاصلة من تاريخ سوريا.
إن الاستهانة بالشعبوية التي تتحول إلى رأي عام قد يكون مدمراً، فهذا الرأي أو الفكرة التي تنتشر على نطاق واسع إنما تمتلك قوة قد تصبح مواجهتها أمراً بالغ الصعوبة، قوة يمكن لها أن تتحول من مجرد رأي واسع الانتشار، إلى قوة تغيير لا يمكن الوقوف في وجهها.
بسام يوسف _ تلفزيون سوريا