يكثر الحديث هذه الفترة عن إعادة تعويم نظام بشار الأسد، عربيًا على الأقل، أو كخطوة أولى. ومع أن الأمر ليس بالجديد، فإن مساعي الملك عبد الله، ملك الأردن، حول إمداد لبنان بالغاز من مصر، والكهرباء من الأردن، عبر الأراضي السورية، تبدو وكأنها قد نجحت فعلًا في كسر عزلة الأسد وفي تحقيق اختراق مقلق لما كان محظورًا قبل أشهر. ليست محاولة الأردن هي الأولى، فقد سبقتها محاولات عربية كثيرة من أجل إعادة الأسد المنبوذ والمطرود من الجامعة العربية إلى أروقتها. بدعمٍ عسكريّ إيرانيٍّ روسيٍّ، انتصر الأسد عسكريًا على المعارضة المُسلحة، ولا يُقدّم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة أيّ بديل حقيقي، يمكن البناء عليه والتعاون معه، لمعظم الدول العربية المعارضة أصلًا لنجاح أي تجربة ديمقراطية عربية، قد تهدد حكمها الأُسريّ الاستبدادي لبلدانها. فالائتلاف الذي تحوّل إلى مجرد جثة لا تُمثّل فعليًا لا قوى المعارضة ولا الثورة، بل مجموعة موظفين من دون أي فاعلية ولا كاريزما ولا تمثيل جماهيري على الأرض، وهو يتبع لقوى إقليمية خارجية داعمة لمشاريع الإسلام السياسي الذي ترفضه وتحاربه معظم الدول العربية الفاعلة، بالإضافة إلى الغرب الذي صار يفضّل التعامل مع الدكتاتوريات على الأنظمة الإسلامية.
تغيّر المعطيات على الأرض وبقاء الأسد في حُكم سورية كشرٍّ لا بدّ منه، في نظر بعض دول المنطقة ودول العالم، أو كأفضل أسوأ الخيارات المتاحة، أو كأفضل من يلبّي مطامع ومصالح بعضها؛ جعل منه أفضل الموجود. بهذه اللغة الميكافيلية، تتكلم السياسة وتصوغ بمفرداتها مواقفها، ولهذا وجدت العديد من الدول أنه لا بد من التعامل مع الأسد، عاجلًا أم آجلًا، وأنه من الأجدى لها الاعتراف به بشكلٍ رسميّ أو ضمنيّ. هي البراغماتية السياسية إذن التي تتجاوز العدالة من أجل ضمان المصالح، وتغسل جرائم السفاحين من أجل النفوذ وتحقيق المكاسب، وتتحالف مع الشيطان ضدّ إرادة الشعوب، من أجل ضمان استقرارها وضبط شعوبها. وبما أن لغة السياسة هي كذلك، فعلينا أن نجيد قراءتها كما هي (دون أن نتبناها) فالخطاب الأخلاقي هنا، على أهميته وفاعليته بعيدة الأمد، لا يساعدنا كثيرًا في فهم الواقع الحالي ونتائجه على سورية اليوم وغدًا.
لنتذكر أن هناك محاولاتٍ عربية متعددة ودؤوبة ومن أطراف مختلفة سعت ولا زالت تسعى لإعادة نظام الأسد المنتصر عسكريًا بدعمٍ إيراني وروسي، إلى المحيط العربي الذي كان قد لفظه سابقًا بعد أن باع العروبة لصالح إيران. ولم يعد سرًّا اليوم مثلًا مساندة دولة الإمارات العربية المتحدة للنظام الحاكم في سورية، فالإمارات المعارضة بقوة للإسلام السياسي رأت، منذ وقتٍ مُبكر، أن البدائل التي تقدّمها المعارضة العسكرية والسياسية الرسمية محكومةٌ بجماعات الإسلام السياسي المدعوم من بعض دول الإقليم، وأن الأفضل لها القبول بشرور الأسد، على جماعات الإسلام السياسيّ. لا يخفي الموقف الإماراتي نفسه، فقد أعادت أبو ظبي فتح سفارتها رسميًا في دمشق، منذ وقت مبكر نسبيًا، في نهاية العام 2018، وهناك اتصالات رسمية بين البلدين يُعلن بعضها، مثل اتصال رئيس الإمارات الشيخ خليفة بن زايد آل النهيان بالأسد، لتهنئته بعيد الجلاء. وقد أثمرت زيارة لافروف المكوكية إلى دول عربية عدة، بهدف حثّ الدول العربية على إعادة تأهيل الأسد عربيًا، وأدت إلى تأكيد وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد أن إعادة سورية إلى محيطها العربي هو أمرٌ قد بدأ فعليًا، وأن عودتها إلى الجامعة العربية هو أمرٌ حيويّ لها وللجامعة العربية في آن. وقد تكرر هذا الكلام، بتنويعات مختلفة وبمناسبات عديدة، لدى كل من الجزائر وتونس ومصر ولبنان والعراق، هذا الأخير الذي كادت محاولة رئيس وزرائه الكاظمي أن تنجح في دعوة الأسد لحضور مؤتمر قمة دول جوار العراق، في آب/ أغسطس الماضي، لولا الاعتراض الفرنسي آنذاك.
وعلى الرغم من كل تلك المحاولات الحثيثة من حكام الدول العربية، فإن إخراج الأسد من عزلته الدولية، حتى العربية، لم تنجح تمامًا، فهناك فيتو سعودي إلى الآن، ضد إعادة نظام الأسد إلى رحاب الجامعة العربية، ما دام خاضعًا للقرار الإيرانيّ، وقد كان هناك فيتو أميركي من قبل إدارة ترامب، ضد إقامة علاقات فعلية لأي دولة عربية تريد الالتفاف على قانون قيصر. لكن إدارة ترامب قد تغيرت، وخلفتها حكومة بايدن التي تبدو إلى الآن رخوة ومضطربة في سياساتها الخارجية، وراحت الدول تعيد ترتيب علاقتاتها ومصالحها، بناءً على تغيّر السياسة الأميركية التي تُذكر بحقبة أوباما سيّئة الصّيت على الملف السوري. هذا يعني أن الفيتو السعودي على عودة الأسد ليس ثابتًا، بل هو قيد المراجعة، وهناك مفاوضات جارية بين السعودية وإيران، وبين الاستخبارات السعودية والسورية. سمح تراخي الموقف الأميركي من إيران وسورية، للملك عبد الله الثاني، باختراق الحصار المفروض على جاره السوريّ، ودفع إدارة بايدن إلى غضّ الطرف عن تمرير إيصال الغاز من مصر، والكهرباء من الأردن، إلى لبنان، عبر الأراضي السورية.
تؤكد جريدة (واشنطن بوست) أن العاهل الأردني قد اقترح على الرئيس الأميركي الجديد خارطة طريق لحلّ الملفّ السوري، تتوافق عليها أميركا وروسيا وإسرائيل والأردن ودول أخرى تتحاور مباشرة مع بشار الأسد. ومع أن الأنباء تؤكد أن بايدن لم يعطِ مباركته النهاية لمثل هذا المشروع، فإن تصريحات هالة زواتي (وزيرة الطاقة الأردنية) الأخيرة، حول مباشرة مشروع نقل الكهرباء من الأردن إلى لبنان عبر سورية، من دون أن تتعرض الشركات المكلفة بهذا المشروع لعقوبات قانون قيصر، تعني ضمنيًا حصول الأردن على ضوء أخضر أميركي في هذا الخصوص. يجد ملك الأردن مصلحة حيوية، إن لم تكن وجودية، في حلحلة الملف السوريّ ودعم الاستقرار في سورية البلد الجارة؛ فهو أولًا نظام غير مستقرّ بنيويًا، ويعيش تحت تهديد أمني محلي وإقليمي مزمن، يضطره إلى عقد مجموعة من التحالفات المعقدة الداخلية والخارجية، ويحتاج إلى حد أدنى من الاستقرار الإقليمي، ليفرض سيطرته على بلدٍ ضعيف اقتصاديًا، وتحت تهديد أمني دائم.
ملك الأردن الذي كان من أوائل من طالب الأسد بالتنحي، بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، وجد بدوره أن هذا الأخير لم يسقط بعد عشر سنوات من الحرب، وأنه باقٍ إلى وقت طويل، كما صرّح إلى شبكة CNN الإخبارية الأميركية، ناصحًا الأميركيين بضرورة الحوار مباشرة مع الأسد، لإيقاف العنف في سورية، ولأن المطلوب، اليوم، بحسب تصريحاته، تغيير سلوك نظام الأسد لا النظام نفسه.
لا شكّ في أن الحرب السورية قد ألقت بثقلها على الجار الأردني، فمع إغلاق معبر نصيب الحدودي مع سورية عام 2015، الذي يمثل عصبًا حيويًا للتجارة والحركة، لكلا النظامين، تفاقمت أزمات الأردن الاقتصادية، هذا بالإضافة إلى استقباله على أراضيه لأكثر من مليون لاجئ سوريّ. إذن، الوضع الاقتصادي والاضطراب الأمني المتزايد دفعا الأردن إلى تغيير موقفه من نظام الأسد، وصار يقوم بدور عرّاب إعادة تأهيله عربيًا، بعد أن ضمن هامشًا ضيقًا للعبور، منحته له إدارة بايدن.
لكن السؤال الذي يشغل البال هو: هل يمكن حقًا إعادة تعويم بشار الأسد، بعد كل تلك المجازر وجرائم الحرب والتوترات التي سببها للمنطقة عمومًا وللعالم أجمع؟! هل يمكن أن يقبل الغرب بإعادة تأهيل مجرم حرب، كما يوصف في إعلامهم؟! مع الأسف، يبدو أن الجواب الواقعي هو نعم، لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة، ومع أن إعادة تعويم الأسد ستكون جزئية وناقصة وطويلة، فإنها ستبدأ قريبًا، هذا إن لم تكن قد بدأت فعليًا.
حاليًا، يتشابه وضع نظام الأسد مع وضع طالبان في أفغانستان التي تظلّ في نظر الغرب جماعة متشددة دينيًا، إن لم تكن إرهابية (أميركا لم تصنفها حتى اليوم كجماعة إرهابية، منذ حرب بوش الابن عليها). لكن الغرب نفسه، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية التي شنت حربًا عليها عام 2001، تفاوض ويتفاوض معها علنًا؛ فطالبان لم تخسر الحرب ضد الغرب، وقد فرضت نفسها على المشهد السياسي الأفغاني، كشرٍّ قائم وموجود، تمامًا كما حال الأسد الذي بقي في السلطة، كأحد قطاع طرق السياسة، وما أكثرهم على كراسي الحُكم! وتتقاطع تأكيدات دول الغرب على لا شرعية حكم طالبان لأفغانستان، وأنها لن تعترف رسميًا بها، ما لم تحترم هذه الجماعة الدينية حقوقَ الإنسان وحقوق المرأة وتتوقف عن دعم الإرهاب، مع ما تقوله بحقّ نظام الأسد الذي ترفض التعامل معه، ما دام عنصرَ عدم استقرار في المنطقة، كما صرح وزير خارجية فرنسا أخيرًا.
بوضعها شروطًا للاعتراف بكل من طالبان والأسد، تقول المواقف الغربية بإمكانية الاعتراف والشرعنة والتعويم، في حال قامت هذه الأنطمة الإرهابية ببعض الخطوات التي يطلبها منها الغرب. وبكلام آخر: هو اعتراف، لكنه منقوص، أو اعتراف ضمني ناقص ينتظر الاكتمال؛ إذ يصعب على الغرب، لأسباب كثيرة، بعضها قانوني، أن يُقدِم علنًا على مثل هذا الاعتراف الرسميّ بمجرمي حرب، مثل طالبان والأسد. لكن عدم الاعتراف الرسميّ لا يعني رفضًا للتفاهمات غير المباشرة، وللتعاون في العديد من القضايا الأمنية، والاقتصادية على الأقل. فدول الغرب لا تعترف بطالبان، لكنها تتفاهم معها اليوم على كل تفاصيل الوضع في أفغانستان؛ فأميركا -مثلًا- قد نسّقت معها عمليات إجلاء رعاياها من مطار كابول، وهي من تحتاج إلى أن تُبقي على خيوط تعاون معها حتى لا تتركها لقمة سائغة أمام مطامع روسيا والصين العسكرية والجيواستراتيجية والاقتصادية. هناك نفاق في السياسة الخارجية للغرب، فهي تتعامل مع دول يحكمها مستبدون وجنرالات حرب وزعماء فساد، وتبيع لهم السلاح، وتتعامل معهم -استخباراتيًا وأمنيًا- في الواقع، لكنها تحتفظ بخطاب أخلاقي ضدهم للاستهلاك الإعلامي. إذن، حالُ الأسد كحال طالبان؛ لن يحظى -بتصوري- بأي شرعية غربية رسمية، ولن يستطيع السفر إلى معظم دول الغرب، قبل عقد من الزمن على الأقل، لأسباب قانونية تتعلق بالدعاوى المرفوعة ضد نظامه حول الجرائم التي ارتكبها في سورية منذ 2011، لكن ذلك لن يمنع تعاطي الغرب معه، في معظم القضايا والملفات.
أما على الصعيد العربي، فإنّ إعادة تعويم الأسد أسهل بكثير؛ فمعظم الأنظمة العربية الحاكمة ترحّب اليوم بعودة الأسد، ليس حُبًّا به على الأغلب، ولكن تخوفًا من بدائل الإسلام السياسي، ورغبة في دفن التغيير السياسي الذي اجتاح العالم العربي، منذ ثورة تونس، كإعصار قضّ مضجع السلطات العربية. عقدة المنشار اليوم في إعادة الأسد إلى الجامعة العربية تكمن في موقف المملكة العربية السعودية التي تريد مساومة الأمر على مثل تلك العودة، مقابل تخليه -ولو جزئيًا- عن الحلف الإيراني. وعلى الرغم من أن السعودية تدرك استحالة مثل هذا الأمر، وتعلم أنّ نظام الأسد لا يستطيع فكّ هذا التحالف الذي تحوّل إلى هيمنة وابتلاع، فإنها قد تقبل بتسوية كليّة مع إيران التي تخوض جولات حوار معها منذ فترة. عودة الأسد، كمجرم حرب مطلوب دوليًا، إلى الساحة العربية، تذكِّر بحال الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير الذي صدر بحقه حكم توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، لكنّ جامعة الدول العربية اعترضت على ذلك الحكم، وبقي الرئيس السوداني السابق يتحرك بِحرية، كممثل رسمي للسودان، في جميع الدول العربية.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن سيكون حول مصير الأسد في المستقبل: هل سيواجه مصير زميله البشير الذي أطاحت به الثورة السودانية عام 2018، وأودع في السجن، قبل أن يتم تسلميه إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته، فيتحقق شيء من العدالة المنتهكة في سورية؟ أم أنه سيشهد موقفًا يشبه موقف فرانكو الدكتاتور الإسباني السابق الذي ساند هتلر ضدّ دول التحالف (رغم إعلان حياد بلاده) ومع ذلك أُعيد تعويمه في الغرب الديمقراطي، بحجة الخوف من وصول الشيوعين إلى حكم إسبانيا، في حال سقوطه، في حين قام تشرشل وآيزنهور بغسل جرائمه، حينما فتحا أمامه أبواب الأمم المتحدة، مقابل إنشاء قواعد عسكرية أميركية وبريطانيا في إسبانيا؟
تتوقف مثل هذه الخاتمة على استمرار السوريين في طرق أبواب العدالة والمحاكم الدولية، وتشكيل قوى ضغط دولية ومعارضة نظيفة، وتعلّم لغة السياسة التي صار بإمكانهم اليوم الاطلاع عليها، بعد اعتقالهم لأكثر من خمسين سنة في زنزانة الأميّة السياسية.