كان المشهد الذي طبع تعاملات أسواق العملة السورية، يوم أمس السبت، استثنائياً. فقد انهار الدولار في معظم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، 200 ليرة سورية، خلال ساعات، ليتطابق سعر صرفه في تلك المناطق مع نظيره في العاصمة دمشق.
وعلى مدى عشرة أيام، كانت تحركات أسعار صرف الدولار، تتخذ طابعاً غير معتاد. إذ أصبح “دولار دمشق” هو الأرخص. فيما حلّق “دولار المنطقة الشرقية”، ليقود مسار ارتفاع الدولار في عموم البلاد، قبل أن يلحق به، “دولار إدلب”.
ولتوضيح استثنائية ما حدث، نلفت إلى معادلات لطالما حكمت تحركات أسعار الصرف في سوريا، طوال العقد الفائت. أبرزها، أن “دولار دمشق” هو الأعلى سعراً، وهو المعيار الذي على أساسه تتحرك أسعار الصرف في بقية المناطق السورية، باختلاف الجهات التي تسيطر عليها. وإن حدث في مرات عدّة، أن قاد “دولار إدلب” حركة أسواق العملة السورية، لكن بقي ذلك استثناءً، فيما القاعدة، أن “دولار دمشق” هو القائد لتذبذب أسعار الصرف. وهو ما عبّر مراراً، عن تأثير البنك المركزي الخاضع للنظام، في أسواق العملة السورية، حتى تلك الواقعة في مناطق لا تخضع لنفوذه الميداني. حيث تنشط شبكات تجار وسماسرة، مرتبطين بالنظام.
ومنذ العام 2020، حينما حلّت الليرة التركية تدريجياً، محل نظيرتها السورية، في إدلب ومناطق ريف حلب الشمالي والغربي، تراجع تأثير سوق العملات في تلك المنطقة، على نظيرتها في دمشق. وهكذا بقيت الغلبة لسوق العملة بالعاصمة، التي يحكمها المركزي. لكن سوقاً أخرى كانت تخرج عن السيطرة، من حين لآخر، وإن على نطاق محدود، هي سوق العملة بالقامشلي، أقصى شمال شرق البلاد. هناك، حيث تنشط محلات صرافة وشبكات سماسرة ينقلون كميات كبيرة من القطع الأجنبي، من خارج الحدود إلى مدنٍ خاضعة لسيطرة النظام، بطرق التفافية عديدة، يعتقد صيارفة أن النظام فقدَ السيطرة عليها، فيما يرى آخرون أن النظام ما يزال صاحب اليد العليا فيها.
بناء على ما سبق، كيف يمكن تفسير ما حدث في الأسبوع الفائت، والذي وصل ذروته، أمس السبت؟ هناك إجابتان، كما أشرنا. الأولى يرى أصحابها من العاملين في سوق العملات، أن النظام يكابد للتدخل في سوق القامشلي. وبناء على هذه النظرية، يبدو أن الأمور خرجت عن سيطرة النظام تماماً، في الأيام القليلة الفائتة، قبل أن يستعيد زمام السيطرة، وفق ترجمة ما حدث يوم السبت من انهيار كبير لـ “دولار المنطقة الشرقية”.
وما يدعم هذه النظرية، أن النظام قام بإجراءات توحي بسعيه للسيطرة على سوق العملة بالقامشلي قبل فترة قصيرة. إذ أغلق فرع شركة “الهرم” للحوالات المالية في المدينة، بتوجيه من أجهزة المخابرات. سبق ذلك بمدة قصيرة، إغلاق فرع شركة “الفؤاد”، أيضاً. أما الأسباب المتداولة أن تجاراً استغلوا الفارق بين سعر صرف الدولار في القامشلي ونظيره في دمشق، لتحويل مبالغ كبيرة إلى العاصمة، وجني أرباح كبيرة، ألهبت أسعار الصرف. وكانت شركة الهرم، وقبلها الفؤاد، من وسائط التحويل ونشاط المضاربة ذاك.
لكن هذه النظرية لا تقدم تفسيراً لما حدث يوم أمس السبت. فانهيار سعر الدولار المفاجئ في المنطقة الشرقية، يعني أن النظام يملك شبكة من المتاجرين، ما تزال تمسك بزمام السيطرة. وإلا، كيف استطاع تخفيض سعر الصرف، بهذه النسبة الكبيرة، خلال ساعات فقط. وهو ما يقودنا للنظرية الثانية. والتي يمكن أن تسمعها على نطاق واسع في أوساط العاملين بسوق الصرافة في القامشلي. فما حدث خلال الأسبوع الفائت، انتهاءً بانهيار السبت، كان لعبة مضاربات يقودها المركزي ذاته.
تقول النظرية إن النظام اشترى كميات كبيرة من الدولارات المتوفرة بكثافة في سوق القامشلي وغيرها من مدن شمال شرق البلاد، والتي تتمتع بحرية نسبية لحركة العملات الأجنبية. وهي عملية سبق أن قام بها النظام مراراً، لترميم احتياطيات المركزي من القطع الأجنبي، من أسواق العملة في المناطق الخارجة عن سيطرته، وبصورة رئيسية، من سوق القامشلي. هذا الطلب على الدولار، دفع به إلى التحليق في مدن المنطقة الشرقية، التي أثّرت بدورها على “دولار إدلب”، فيما لحق “دولار دمشق” بهذه الموجة، ببطء.
لكن لو استمرت هذه الموجة مدة أطول من ذلك، لكان “دولار دمشق” لحق بالسعر الذي وصل إليه “دولار المنطقة الشرقية”، (4700 للدولار الواحد)، وهو ما لا يريده النظام، لذلك قام يوم السبت بحركة معاكسة، وباع الدولار -عبر مضاربيه- بأسعار أقل بكثير مما هو في السوق، فانهار سعر صرف الدولار في تلك المناطق، بصورة دراماتيكية.حدثت حالات الارتفاع الفجائي والسريع للدولار، والانهيار الفجائي والسريع الذي يتلوه، أكثر من مرة خلال العقد الفائت.
وفي كل مرة، كان يثبت لاحقاً أن للمركزي السوري اليد العليا في تلك العملية. وهو ما جعل خبراء موالين في زمن حاكمه الأسبق، أديب ميالة، يصفون المركزي بأنه أكبر مضارب في سوق الصرف السورية.
ومع الاختلاف بين العاملين في أسواق العملة، حول تفسير الارتفاع الكبير للدولار، ومن ثم انهياره الفجائي، ستتيح الأيام القليلة القادمة تحديد أي النظريتين المقدمتين أعلاه، هي الأدق.
فإذا عاود الدولار ارتفاعه واستقر عند مستوياته غير المسبوقة، فهذا يعني أن سوق صرف المنطقة الشرقية خرجت عن سيطرة النظام، وستقود لاحقاً، بقية أسواق العملة نحو قفزات كبيرة للدولار، حتى في دمشق ذاتها.
أما إن استقرّ الانخفاض الأخير للدولار، ولم يكن مؤقتاً، فهذا يعني أن ما حدث في الأيام القليلة الفائتة، هو لعبة لمّ للدولار من سوق المنطقة الشرقية، قام بها مركزي النظام ذاته.
إياد الجعفري _ المدن