الزيارة الخاطفة التي أجراها اللواء علي مملوك لإيران ورُتبت إجراءاتها على وجه السرعة من قبل قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، لأن خطورة الوضع في سوريا أصبحت لا تحتمل النقاش ولا التأجيل، وفيها مهد “مملوك” لزيارة بشار الأسد إلى طهران، التي تمت بداية شهر أيار/ مايو، والتي تضمن جدول أعمالها بنداً واحداً فقط: ما العمل إزاء الانسحاب الروسي الجزئي من سوريا؟ وما الخطوات الأخرى إذا ما كان هناك انسحاب كلي أو انكفاء روسيا للساحل وإبقاء وجودهم فقط على قاعدة حميميم وقاعدة جول جمال في طرطوس ومهبط سطامو؟
القيادة السياسية في روسيا دفعت أثماناً باهظة نتيجة التقارير الكاذبة التي خدعهم بها جنرالاتهم الفاسدين، من تقارير صيانات أسلحة كاذبة، ومشاريع قتالية خلبية، وفساد وسرقات لتعيينات الجيش من طعام وشراب حتى طعام الطوارئ (كما أظهرت مجريات الحرب في أوكرانيا)، وإهمال قادة الوحدات بإجراءات تخزين السلاح، وبانت كل تلك العورات مع الأسبوع الأول من حرب الروس على أوكرانيا، وبعد فشل 190 ألف مقاتل روسي زجّ بهم بوتين في أوكرانيا وفشلوا بتحقيق الأهداف المنوطة بهم، فضاعت مقرات القيادة، وتعطلت منظومات وشبكات الاتصال، وتأخر الدعم اللوجيستي (التأمين القتالي والفني والطبي والهندسي)، وتبين أن كل معلومات الاستخبارات الخارجية (الاستطلاع) التي بنيت عليها خطط الهجوم الروسية كانت وهمية، لأن التقارير العسكرية التي ترفع لبوتين عن حالة الجيش (كما في سوريا)، تتضمن ما يحب الرئيس أن يسمعه وليس حقيقة الجيش المتهالك والمفكك.
وهكذا قاربت مغامرة بوتين في أوكرانيا على الفشل، فسارع لاعتقال قائد الدائرة الخامسة في الاستخباراتية الروسية، والمسؤول عن جمع المعلومات الاستخبارية في أوكرانيا، سيرغي بيسيدا، مع نائبه، أناتولي بوليوخ، المسؤول عن قسم المعلومات التشغيلية، وتم وضعهما قيد الإقامة الجبرية، والخطوة التي تلتها كانت إقصاء أو اغتيال معظم قادة الصف الأول بالجيش الروسي المشارك في الحرب الأوكرانية، تلتها خطوة أخيرة باستقدام الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، الذي قاد العمليات العسكرية في سوريا، ليعينه قائداً جديداً للحملة الروسية في أوكرانيا.
كما جرت العادة في روسيا منذ أيام القائد الروسي الاستثنائي الجنرال جوكوف (الذي هزم الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية)، فلكل قائد مجموعته العملياتية، وكان جوكوف يتنقل بطاقم من ضباطه على كل جبهات الاتحاد السوفييتي التي تطلب منه القيادة العليا الانتقال إليها لقيادتها، وهذا ما فعله “دفورنيكوف”، فمع استدعائه لموسكو والزج به قائداً للعمليات العسكرية في كامل جبهات أوكرانيا، استدعى مباشرة كامل طاقم عملياته من قاعدة حميميم، ولحقت بهم الكثير من الوحدات العسكرية العاملة في سوريا، حتى شركة مرتزقة فاغنر التي أسسها “يفغيني بريغوجين”، الطباخ السابق للرئيس بوتين، تم استدعاء أكثر من ثلثيها لجبهات القتال في أوكرانيا.
الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الجزئي الروسي أقلق نظام دمشق وهو العاجز عن ملء فراغها بسبب نقص القدرات والإمكانيات، خاصة مع خروج الوحدات الرئيسة عن سيطرته، فالفرقة الرابعة التي تضم احتياط الجيش والوحدات الأكثر جاهزية وتجهيزاً ويقودها اللواء ماهر الأسد هي في الحضن الإيراني، والفرقة 25 التي يقودها العميد سهيل الحسن تتبع لقاعدة حميميم.
ومن حيث المبدأ، بشار الأسد يدرك تماماً أن العمليات العسكرية بعد عام 2015 أصبحت تتم عبر تفاهم ثلاثي، قتال أرضي تقوم به ميليشيات إيرانية وأدواتها، تدعم جوياً من الجانب الروسي، وتؤمن لوجيستياً من جيش الأسد، وبالتالي وأمام عقدة الانسحاب الروسي كان لا بد لبشار الأسد من الهرولة لطهران لتلقي الأوامر ومعرفة الخطوات القادمة.
في طهران نوقشت الحالة السورية وتم الاتفاق على اتخاذ ثلاثة إجراءات من شأنها تعويض الانسحاب الروسي:
الأول: السيطرة الإيرانية على كافة النقاط التي انسحبت منها روسيا، مع زيادة شحنات السلاح الإيراني إلى سوريا، فتمت السيطرة على مطارات “كويريس، النيرب، تدمر، التي فور”، مستودعات مهين الاستراتيجية، اللواء 47 في جبل زين العابدين في حماة بعد انسحاب الروس من تلك المواقع والمطارات، وتم زيادة توريد السلاح لسوريا (صواريخ د/ج عبر منظومات باور 373، راجمات صواريخ، طيران مسير)، مع زيادة خطوط إنتاج الصواريخ في مراكز التصنيع العسكرية السورية التي يسيطر عليها الحرس الثوري الإيراني (لذلك شهد الأسبوع الأخير ثلاث غارات إسرائيلية استهدفت شحنات سلاح إيرانية في محيط دمشق ومصياف).
الثاني: فتح باب التطويع وزيادة حملات التشييع، وتلك مهام أسندت لقادة الميليشيات الإيرانية في سوريا، ولنواف البشير في أرياف دير الزور، أما الفرقة الرابعة فقد أخذت على عاتقها فتح باب التطوع للشباب في الجنوب السوري، حتى لو كانوا من أصحاب السوابق، أو عليهم ملفات أمنية، وكذلك المتخلفين عن الخدمة العسكرية في جيش النظام، بعد منحهم عفواً شاملاً ورواتب مجزية.
الثالث: الدعوة لاجتماع لاحق بين قيادة الفرقة الرابعة التي يقودها اللواء ماهر الأسد والحرس الثوري الإيراني، ونتج عن الاجتماع فتح (12) مقر قيادة جديد ومشترك بين الحرس الثوري والفرقة الرابعة في كل من: “حسيا، تدمر، مهين، القريتين، الطيبة، السخنة، الكم، السلمية، السعن، إثريا، الشيخ هلال، جب الجراح”، ومعظمها تقع في أرياف حمص وحماة.
وبإضافة مقرات قيادة حزب الله بالقلمون وفي الجولان السوري وأرياف القنيطرة، مع أرياف دمشق الجنوبية في السيدة زينب ومحيط مطار دمشق الدولي الواقعة تحت سيطرة ميليشيات إيران، تصبح إيران مسيطرة على المساحة الممتدة من الجنوب السوري إلى أرياف دمشق إلى كامل الحدود السورية اللبنانية إلى أرياف حمص ثم حماة بطول حوالي 300 كم وبعمق داخل سوريا يصل لـ200 كم، لتضاف تلك المساحة إلى ما تسيطر عليه إيران في حلب وأريافها، ودير الزور والميادين والبوكمال ومواقع أخرى، مثل قاعدة “الإمام” التي تمتد على مساحة 6 كيلو متر مربع جنوب البوكمال (وهي أكبر القواعد العسكرية الإيرانية خارج الحدود)، وهكذا تصبح الجغرافيا السورية بمعظمها تحت سطوة ميليشيات إيران.
الاجتماع الذي حصل سراً في قاعدة حميميم يوم السبت بتاريخ 22 أيار/ مايو، وتسترت عنه روسيا وإيران ونظام الأسد، جمع كلاً من رئيس أركان الجيش الروسي، فاليري غيراسيموف، يرافقه الفريق رومان بريدينكوف، ورئيس أركان الجيش الإيراني، محمد باقري، يرافقه القائد العام للحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، واللواء مفيد حسن رئيس أركان جيش الأسد يرافقه اللواء زهير الأسد، دار النقاش فيه حول ملء فراغ الانسحاب الروسي، وزيادة دعم دفاعات الأسد الجوية بمنظومات “بوك إم2، وبانتسير” لمواجهة الهجمات الجوية الإسرائيلية المتزايدة مؤخراً، إضافة لأمر غريب تضمن أمراً بإخلاء اللواء 64 قوى جوية “مطار بلي” من كامل طاقمه البشري السوري وانتقالهم لمطار الضمير العسكري، وكذلك إخلاء اللواء 55 التابع لقوات المدفعية والصواريخ وانتقالهم إلى مقر قيادة اللواء 56 مدفعية وصواريخ، وتسليم مقرات تلك الألوية لإيران بعد سحب السلاح والعتاد منها.
مع السيطرة الإيرانية على مفاصل الجغرافيا السورية، وعلى مقرات الفرق البرية والمطارات العسكرية، ومع سيطرة إيران على مفاصل أجهزة المخابرات السورية، وخاصة المخابرات الجوية والمخابرات العسكرية، ومع سيطرة السفارة الإيرانية على مفاصل حكومة الأسد، تتحقق نبوءة المعمم الإيراني، مهدي طائب، عندما قال: مليارات الدولارات التي نضخها في سوريا ليست عبثاً، فسوريا هي المحافظة 35 لإيران.
كل ذلك يحدث في سوريا، وهناك من يراهن للآن على إعادة بشار الأسد للحضن العربي، ويراهن على انفكاكه عن حضن طهران، والزعم أن التنسيق مع بشار الأسد يدعم الأمن القومي العربي، ووحدة الصف العربي، وهؤلاء غائبون تماماً عن الواقع بأن سوريا أصبحت القاعدة الإيرانية الأكبر والأقوى في كامل منطقة الشرق الأوسط، وإن لم يلحق العرب بالشعب السوري وإسقاط نظام الأسد، فسوريا ستصبح حقيقة المحافظة 35 لإيران.
أحمد رحال _ ليفانت نيوز