كانت تمشي أمامي في الشارع الموصل إلى منزلي. سيدة أربعينية محنية الظهر وقليلة الهامة، ترتدي اللباس الذي ترتديه النساء المصريات في المناطق الشعبية، ملاءة سوداء وغطاء رأس أسود، وتحمل في يدها طربيزة بلاستيك حمراء اللون من النوع رخيص الثمن، وبيدها الأخرى تمسك هاتفها المحمول غير الذكي، وتتكلم به بصوت تمكّنتُ من سماعه بسبب قربها مني: “عايزة إيه حاجة حلوة أجيبهالك معايا؟ بصّي أنا جايبالك الطربيزة اللي حاتذاكري عليها، بس عايزة أجيبلك كمان حاجة حلوة، نفسك رايحة على إيه؟”. بدأت أتخيل فخر هذه السيدة وسعادتها، وهي التي لا يمكن لأحد أن لا يلاحظ آثار الشقاء على وجهها وجسدها، وهي تراقب ابنتها جالسةً على الأرض، وتضع كرّاساتها وكتبها على الطربيزة البلاستيك الحمراء الصغيرة، وتذاكر واجباتها المدرسية.
بدأت أتخيّل أيضا فخرها حين تكبر ابنتها وتدخل الجامعة وتتخرج منها، “ما رحش تعبها هدر”، هذا ما سوف تشعر به حتما.تقول لي سها، الشابة المصرية الجميلة التي تساعدني في أعمال البيت، المبتسمة دائما: “عايزة ابني يتعلم أحسن تعليم”.
لديها ولد واحد، وضعته في مدرسةٍ شبه خاصة كي يحصل على تعليم محترم، “التعليم في المدارس الحكومية مش ولا بد”، وتدفع لمدرّسين خصوصيين يدرسون ابنها موادّ تشعر أن المدرسة لا تفيده كثيرا بها.
نزّلت سها على هاتفها المحمول تطبيقا لتعليم اللغة الإنكليزية، تسمعه وهي تعمل، كي تتعلم تلك اللغة التي أصبحت طلبا رئيسا في أي عمل ووظيفة في بلادنا العربية. قالت لي حينما سألتها: “عايزة أعرفها عشان لو ياسين احتاج سؤالا في اللغة الإنكليزية أعرف أجاوبه”. تريد لابنها أن يتقن هذه اللغة، وتُحاول هي معرفة ما يمكنها منها، كي لا تشعر بفرق ثقافي بينها وبينه.
ليست سها، ولا السيدة التي تحمل طربيزة بلاستيك حمراء رخيصة الثمن، استثناءين بين النساء المصريات اللواتي ينتمين إلى الطبقات الشعبية، أو الطبقة المتوسطة الآيلة إلى الزوال، فحضور هاته السيدات في الشارع المصري واضح جدا، بائعات الخضار وبائعات الخبز، عاملات التنظيف في كل مكان، بائعات في المحلات الراقية والمحلات المتوسطة، في المولات، في عيادات الأطباء، في الدوائر الحكومية، بائعات علب المناديل والفول السوداني.
ثمّة حضورٌ واضحٌ لهذه الطبقة من النساء في المجتمع المصري، وثمّة رغبة ليس من الصعب اكتشافها لديهن بأن يعيش أبناؤهن وبناتهن حياة مغايرة لما عشنه هن، سواء في التعليم أو زواج بناتهن.
لا يتوقفن عن العطاء في سبيل ذلك، حتى أن ثمّة مصطلح لم أسمعه سوى في مصر هو “الغارمات”، وهن أمهاتٌ ينتمين إلى هذه الطبقات يوقعن أو يبصمن على سندات أمانة مقابل شراء مستلزمات الجهاز لبناتهن حين زواجهن، وغالبا ما يعجزن عن تسديد السندات فيدخلن السجون تحت مسمّى الغارمات، واللافت أن هناك حملات دائمة للتبرّع لتسديد ما في ذمّة الغارمات وإخراجهن من السجون.
لا أعرف كثيرا عن حال المرأة من هذه الطبقات نفسها في سورية خلال هذه الفترة، لكنني أعرف أن حضور المرأة السورية قبل 2011، ومن كل طبقات المجتمع، كان قليلا وغير ملموس في المجتمع السوري، إلا في شرائح مجتمعية قليلة (فنية وثقافية وزراعية)، فقد كانت المراة موجودة لخدمة البيت فقط. استمر هذا طويلا في المجتمع قبل أن يسمح الرجل لزوجته بالعمل في الوظائف الحكومية بعد الاحتياج المعيشي إلى أكثر من دخل، والذي بدأ مع ثمانينيات القرن الماضي، بينما ظل حضورها في الشارع عاملة نادرا وقليلا، بسبب ذكورية المجتمع السوري، حتى طقس الزواج وتكفل العريس بكل شيء هو من باب الذكورية لا أكثر، بينما حضور المرأة في شارع العمل المصري واضح جدا، ويكاد يكون هو الغالب. وربما ستسمع من كثيرات، لو تكلمت معهن، حكايات عن أزواج عاطلين من العمل، أو مرضى أو مدمنين.
ومع ذلك لا يكفّون عن التنمّر على زوجاتهم وأولادهم، وعلى المرأة التحمّل، ففي هذه الطبقات يصبح المثل “ظل راجل ولا ظل حيطة” هو حماية مجتمعية لهاته النساء العاملات.
رشا عمران _ العربي الجديد