منذ الثمانينيات، لاحظ عدد من الدارسين أن الأدبيات الماركسية التقليدية تُخفق في تبيان طبيعة النظام السوري، فخلافًا للماركسية، لم تكن الطبقة المسيطرة سياسيًا هي الطبقة التي تسيطر على الاقتصاد، ولم يكن لها حضور كبير في المجال التربوي والثقافي. هذه التركيبة المعقدة دفعت بعض الباحثين، كميشيل سورا، إلى دراسة النظام السوري من خلال مفاهيم تنتمي إلى عالم الدولة القروسطية التي تحدث عنها ابن خلدون، وذلك بتوظيف مفهوم العصبية (العلوية) والدعوة (الفكرة القومية) الذي وجد فيه قدرة على تقديم قراءة للنظام الأسدي، أكثر وضوحًا مما لو درس استنادًا إلى مفاهيم قادمة من علم الاجتماع الغربي الذي كان نتاج الدولة الحديثة والرأسمالية والتصنيع والحداثة، وأكثر صدقًا مما لو نظر إلى حالة الصراع المجتمعي آنذاك على أنها شكل من أشكال الصراع العالمي، بين القوى الاشتراكية والرأسمالية العالمية.
وعلى الرغم من كثرة التحليلات التي تناولت النظام السوري، ولا سيما ما قام به ميشيل سورا من خلال تسليطه الضوء على أكثر زوايا النظام عتمة، فإن طبيعة هذا النظام المركبة، وآليات اشتغاله، وارتباطاته الخارجية، تعطي الباحث فرصة متجددة لإعادة النظر في طبيعة العلاقات التي يُحكم بها النظام قبضته على المجتمع، والوسائل التي عمل بها على تمثيل مصالح فئات واسعة منه، بحيث تجد كل الجماعات المجتمعية والأهلية (تقريبًا) نفسها ممثلة في “الدولة السورية”.
منذ أن تولى الأسد الأب السلطة، لم ينظر إلى المجتمع السوري على أنه مكون من طبقات أو شرائح اجتماعية متنافسة، بل نظر إليه من خلال زاوية طائفية، ترى فيه مجتمعًا مكونًا من طوائف متعددة، يجب إدارة توازن الصراع فيما بينها، حتى تتحقق للأسد أبدية الحكم. ومن الطبيعي أن الطائفتين الأكثر حضورًا هما السنة والعلويون، ولهذا تحول الصراع الاجتماعي إلى نزاع أهلي، أو حرب أهلية صامتة.
إن الحديث عن عصبوية النظام السوري لا تفسّر وحدها قدرته على الهيمنة، على الرغم من أنها عصبوية حولت الدولة نفسها إلى أداة لإنتاج العنف. لهذا تقترح القراءة الحالية وجود ثلاثة مجالات، سياسية واقتصادية وثقافية، حاول النظام عبر عقود إدارة المجتمع والسيطرة عليه من خلالها. وستحاول هذه القراءة معاينة التغيرات التي طرأت على هذه المجالات والنتائج التي ترتبت عليها.
من الناحية السياسية، ألغى النظام السوري السياسة من حياة السوريين وصادرها، بل لنقل إنه جعلها طائفية، أي خاصة بطائفته “الأسدية” التي يشكل العلويون نواتها الصلبة، فالأسدي -وخصوصًا إن كان علويًّا- يحق له الكلام في السياسة والحديث عنها، دون أن يتعرض للمساءلة أو التخوين، أو محاولة “وهن عزيمة الأمة” في مرحلة السبعينيات، أو “الإرهاب” و”التكفير” منذ عام 2011. ولم يكن يسمح لغير “الأسدي” أن يتكلم في السياسة، وإلا عدّ خائنًا، بل إن حديث “الأسدي السني” في السياسة كان محلّ شك. في هذا السياق، حرص النظام منذ بداية وجوده في السلطة في السبعينيات على إبعاد السياسة عن الأكثرية المجتمعية، إذ جعل -على سبيل المثال- الوزارات وظائف تكنوقراطية لا سياسية، حتى لا يكون لها أي دور في المجال السياسي، واتبع من أجل ذلك سياسة تقوم على تبني شعارات قومية، ولكنها كانت تمارس كل ما يناقض تلك الشعارات على أرض الواقع، وذلك بترسيخ الطائفية والعمل على زيادة الانقسام المجتمعي والخوف من الآخر. وكما حرص النظام على إبعاد الأكثرية المعارضة له عن السياسة -والمكونة أساسًا من السنة- حرص النظام في الوقت نفسه على إهمال المناطق الساحلية اقتصاديًا، وعمل على عدم بروز شخصيات اقتصادية من البيئة العلوية. قد يفسر غياب شخصيات تجارية علوية بالمنبت الريفي الفقير لأبناء الطائفة العلوية، ولكن المراحل اللاحقة أثبتت أن النظام قادرٌ على صنع تجاره وطبقته التجارية، ولكن آلية الاشتغال التي عمل بها النظام لكي يستمر كانت تحتم عليه فصل المجالات، كي ترضى كل طائفة بما لديها، ولا تنظر إلى ما في أيدي الطائفة الأخرى من امتيازات وزعها النظام بما يحقق هدفه في الأبدية.
مثّل وصول حافظ الأسد إلى السلطة نكوصًا على السياسات التي اتبعها البعث سابقًا. فقد تراجع الأسد عن السياسات السابقة، فأرضى البرجوازية السنية عبر الإحجام عن متابعة سياسات التأميم والتضييق، فكان عقد السبعينيات عقد مصالحة بين البرجوازية والنظام الذي اعترف بحق البرجوازية في السيطرة على السوق، على أن تتخلى له عن المجال السياسي نهائيًا.
وعلى الرغم من فساد النظام ومحسوبياته ورغبته في الهيمنة الاقتصادية التي توفر له موارد من خارج الدورة الاقتصادية، والجباية الرسمية -وهي العملية التي شرع بها بعد عام 1982- فإنه لم يسمح لعناصره بالاقتراب من الاقتصاد الذي ظلت الهيمنة فيه لصالح البرجوازية التقليدية. لقد وضع النظام يده على النفط وتجارته، وعلى العديد من المؤسسات والشركات العامة الرابحة، ولكنه لم يزاحم البرجوازية في علمها ونشاطها الاقتصادي.
كانت القومية العربية هي الدعوة التي وصل بها النظام إلى الحكم، والتي كانت تسوغ أفعاله وتعطيها صبغة شرعية، ولهذا كان حريصًا أشد الحرص على الإبقاء عليها واجهة، على الرغم من موت الحزب منذ السبعينيات وتحوله إلى ستار يخفي هيمنة الأسدية التي يشكل المكون العلوي “نواتها الطلبة”. أدرك النظام التلازم بين القومية والإسلام الشعبي، بنسخته السنية (وهل يوجد سواها في منطقة بلاد الشام؟)، فعمل جاهدًا على تثبيت هذه النسخة في المجال الثقافي العام، فالمناهج الدراسية كانت تتبنى الرؤية السنية بحذافيرها، مع بعض التعديلات أو التعميات التي لا تؤثر كثيرًا في جوهرها، فالاعتزاز بالتاريخ الأموي حاضر في المناهج الدراسية، والطوائف والفئات الأخرى وضعت في إطار الهامش أو صنفت ضمن العصاة والخوارج، ويتضح هذا في أي قراءة عجول لكتب التاريخ التي تتحدث عن “القضاء على خصوم عبد الملك بن مروان”، أو “أنهى الخليفة العباسي تمرد الزنج وعصيان القرامطة”…إلخ. فعلى الرغم من وجود “سردية علوية” للتاريخ تتصل بالأحداث السابقة، فإنها كانت غائبة كليًا، فما كان موجودًا هو الثقل الثقافي للأكثرية السنية، وهو ثقل كان النظام يدرك مدى خطورة التعرض له. هكذا كانت الحقوق المعنوية محصورة بالسنة وحدهم، إذ بقيت رموزهم وسرديتهم هي المهيمنة، مثلما أبقى النظام -كما أسلفنا القول- على شعارات العروبة التي تمثل مجالًا لاعتزاز الأكثرية بموروثها الحضاري. وحتى في مجال الأحوال الشخصية، كانت الطوائف الإسلامية كلها (باستثناء الموحدين الدروز) تحتكم إلى قانون الأحوال الشخصية المستمد من المذهب الحنفي. هذا لا يعني أن الأسدية كان تبحث عن إسلام خارج رؤيتها، ولكنها كانت تعمل على المواءمة بين هذا الإسلام وما يخدم مشروعها في أبدية الحكم.
هذا التوازن بين المجالات الثلاثة بدأ في الاختلال منذ بداية الألفية، ولا سيما مع صعود الجيل الثاني من النظام إلى السلطة، وغياب جيل المؤسسين الذي كان يدرك الخطوط الحمر التي قد يسبب تجاوزها تحديات للسلطة والنظام.
نَهَم الجيل الأول للثروة كان محدودًا، بحكم نشأته الريفية، ولكن الجيل الثاني الذي عاش في العاصمة، وتوفرت له ما لم تتوفر لجيل الآباء، أراد أن يجمع الحسنيين: السلطة والمال. لقد قسم الجيل المؤسس الموارد إلى سلطة سياسية يتحكم فيها، وثروة تركت للبرجوازية، ووجاهة أو عالم الرموز الذي أعطي للأكثرية الاجتماعية لكي تجد نفسها ممثلة في النظام، ولكن الجيل اللاحق لم يكن قادرًا على إدراك الفوارق والحدود بين هذه المجالات، فبدأ باحتكار المجال الاقتصادي، كما احتكر من قبل المجال السياسي، فشرع بعمليات الخصخصة، وسهل استيلاء النظام ممثلًا بأفراده كرامي مخلوف، أو ممثلًا بواجهات تابعة له كمحمد حمشو وغيره، على القطاع الاقتصادي، فأزاح البرجوازية وسلبها الامتيازات التي كانت تتمتع بها من قبل، وبدا الأمر أكثر وضوحًا في مدينة مثل حمص.
مع الثورة السورية عام 2011، وخروج موارد مهمة كالنفط عن سيطرة النظام، سعى النظام إلى إحكام قبضته على النشاط الاقتصادي، من خلال “تجّاره” الذين أدخلهم إلى السوق، بغية احتكاره وتوجيهه نحو خدمة الآلة الحربية وتمويل الحاضنة التي خسرت وظائفها وأبناءها، الأمر الذي شكل ضربة للنشاط الاقتصادي، ولا سيما القطاع الصناعي الذي فرّ كثير من العاملين فيه، وكثير من رؤوس الأموال، ولا سيما في السنوات الثلاث الأخيرة.
حين استعاد السوريون الكلام في السياسة في عام 2011، ردّ النظام على هذا من خلال التعدي على المجال الثقافي، فقد نظر النظام إلى السياسة على أنها حقل طائفي خاص به، لا يجوز للفئات الشعبية الثائرة أن تقترب منه، مثلما لم يكن مسموحًا لطائفة النظام أن تشكك في السردية التاريخية الرسمية، أو أن توجه نقدًا للرموز الثقافية التي تشكل جزءًا من المخيال الجمعي، أو أن تلمز الشخصيات البارزة في التاريخ الرسمي، إلا من خلال منابر غير رسمية، يمكن التبرؤ منها بسهولة. لهذا ارتفعت الأصوات التي تنادي بالابتعاد عن العروبة، والتخلي عنها، وتصاعد هجاء “شاربي بول البعير”. ومع أن ظاهر الكلام كان يقصد به الخليجيون، فإن باطنه كان موجهًا نحو الأكثرية المجتمعية، على اعتبار أنها تشترك مع الخليجيين في الانتماء المذهبي نفسه. كذلك تصاعدت الدعوات لتبني “الفينيقية”، ووصل الأمر إلى التعدي على رمزية “الأمويين” في نفوس السوريين، حين وصفهم رئيس النظام بأنهم “بدو” قدموا من الصحراء، وأنهم لم يكونوا أصحاب حضارة. هذا إذا لم نذكر حديث أبواق النظام عن رغبتهم في تدمير مكة، وكذلك التعدي على رمزية دينية “سنية”، حين ألغى النظام في الآونة الأخيرة منصب المفتي، وأحل بدلًا منه مجلسًا للإفتاء يتكون من مجموعة رجال دين من مختلف الطوائف الإسلامية.
حتى في أكثر الأنظمة دموية وقمعًا، لا بد من ممارسة السياسة وإدارة التوازن المجتمعي. الأنظمة التي تعتقد أن بإمكانها الاستحواذ على كل شيء لا تترك خيارًا لمحكوميها إلا الثورة عليها، أو التخلي عنها وتركها تواجه مصيرها المحتوم. وهذا هو مصير الأسدية.
سليمان الطعان _ مركز حرمون للدراسات