تطورت المفاهيم الخاصة بحقوق المرأة السياسية والفكرية والاقتصادية تبعاً لتغير المجتمعات وتطورها، إلا أن شيئاً واحداً لم يتغير، وهو أن المرأة بقيت هي المرأة، وهذا ليس نقيصة في تكوينها، بل هو جزء من كيانها الذي يرتبط بفكرتي الخلق والجمال كأم وحبيبة.
وقبل الدخول في صلب الموضوع أسوق طرفة على حساسية المرأة لجمالها، فقبل أكثر من عشرين عاماً أجريت حوارا صحفيا لمجلة “الحوادث” اللندنية، مع وزيرة التعليم العالي آنذاك الدكتورة صالحة سنقر، وكان في ملف الحوار قضايا ساخنة منها ما يتعلق بالفساد، وبعد إجراء الحوار والتقاط الصور وعرضها عليها قامت باختيار بعضها وكانت كلها مناسبة، وبعد يومين اتصلت وطلبت أن آتي إليها بشكل عاجل مع وقف النشر، قلت في نفسي إنها قررت سحب المقابلة لحساسية بعض القضايا، جئتها فطلبت منع أحد من الدخول وأخرجت من درج مكتبها ألبوم صور، وبدأت بصفة المرأة وليس الوزيرة المسؤولة تستمزج رأيي حول الصورة الأجمل، واخترنا بعد نصف ساعة بالتوافق “البورتريه” بـ”الجاكيت” الزهري.
في السنوات الأخيرة ظهرت حركات النسوية في المنطقة العربية مستفيدة من مستوى الانفتاح على الثقافات الأخرى بفعل التواصل والميديا التي اخترقت المجتمعات، ونشأ عن هذا الاختراق الكثير من التقدم في تشكيل مجموعات ضغط تدافع عن المرأة، لكنه تقدم يشوبه اضطراب له أسبابه ومنها السياسية والتركيبة المعقدة للمجتمعات وعقائدها وعاداتها.
أغرب ما في النسويات العربية قبل الربيع العربي أنها استخدمت لتأطير المرأة واستغلالها سياسيا، كما حصل مع الاتحاد العام النسائي في سوريا الذي تأسس عام 1967، وصدر قانون لاحق عام 1975 لتأطيره، ليتحول إلى مؤسسة تابعة للحزب، تتبنى كل نظريات النظام السياسي وتمثله فكره في مؤتمرات دولية، لكنها لم تستطع في خمسين عاماً فرض قانون واحد مثل حق المرأة السورية في منح الجنسية لأطفالها حتى تاريخ حلّ الاتحاد عام 2017.
استطاعت الحركة السياسية النسوية السورية التي تأسست عام 2017 إيصال صوتها بمنتهى المسؤولية والحضارة، وقدمت رسالة واضحة سعيا لترسيخ مفاهيم التعددية والعدالة ورفع مشاركة المرأة وريادتها في المجالات المختلفة وأهمها الإنسانية، لكن بالمقابل طفت على السطح ظاهرة “النسويات” اللواتي يظهرن على وسائل التواصل مستخدمات عبارات بذيئة للدفاع عن قضايا محقّة، الأمر الذي أعطى مفعولا عكسياً في الأوساط الاجتماعية، إذ يصعب على مجتمع النساء في سوريا اعتبار ما تقدمه بعض من يعرفن عن أنفسهن بـ”النسويات” اللواتي يعشن في أوروبا نموذجاً يقتدى به، وهذا ليس مسّاً بحرية تلك السيدات لكنه إشارة إلى خطر خسارة دور النسوية عبر الاستسهال، مثل اعتبار استخدام الفضائحية الجنسية إنجازاً هدفه كسر المعتاد وتغييره بطريقة الصدمة.
قد تعتقد بعض السيدات ارتفاع مستوى متابعتها على سوشال ميديا مؤشرا على أنها حققت الوصول المطلوب، والحقيقة اليوم هي أن نجوم تلك المنصات معظمهم يمارسون انتهاكات قانونية أو أخلاقية، أو هم مجرد ظاهرة كوميدية، والدليل أن آلاف المقالات الفكرية المتخصصة لا توازي بجمهورها جزءا من متابعي مرشح الرئاسة الكوميدي، أو النسوية التي تكتب عن آخر تجاربها الجنسية مع شاب اختارته بنفسها.
وفي أوروبا نفسها تعتبر الحريات الجنسية مسألة غير قابلة للنقاش، لكن اختراق رجل أو امرأة عاريين لساحة عامة سيقابل بمنع من قبل الشرطة، بمعنى مارس حقك كما تريد ولا تقتحم على الناس خصوصياتهم وحياتهم. إذا أرادت “النسوية” السورية أو العربية عموما تعزيز ثقافة البوح ومحاربة الكبت، فعليها ـ ربما ـ طلب مساعدة الرجل أو تثقيفه، وليس اعتباره خصماً كما هو حاصل.
لقد ناضلت الأوروبيات إلى جانب الرجال لتحصيل حقوق النسوية منذ أن كتبت البريطانية ماري وولستون كرافت عن حقوق المرأة قبل نحو 220 عاما، وبعدها بقرن ونصف حصلن على حق الانتخاب، في فرنسا عام 1944، وإيطاليا عام 1946، واليونان في عام 1952، وسويسرا في عام 1971، ووصلن لأعلى مرتبة سياسية في بريطانيا وألمانيا لكن لم يصلن بعد في الولايات المتحدة الأمريكية رغم أن القانون لا يمنع، ما يعني أن النضال مستمر، وأن المجتمع الغربي لا يزال في نفسه بقية جاهلية “قروسطية”.
وقد يستغرب البعض إن قلنا إن أول العربيات حصولا على حق الانتخاب هن اللبنانيات والسوريات عامي 1952 و1953 على التوالي، أي قبل سويسرا المتحضرة، لكن ذلك المكتسب لم يحقق أغراضه لأسباب سياسية واجتماعية وثقافية. لكن السوريات أنفسهن اليوم وبعد سبعين عاما لا تزلن ضحايا سلطة سياسية قهرية عززت سيطرة المجتمع الذكوري الديني التقليدي، وهن أنفسهن حفيدات “زنوبيا” ملكة تدمر و”ولادة بنت المستكفي” التي باحت دون إسفاف قبل ألف عام: “أنا واللَه أصلح للمعالي ..وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها ……أمكنُ عاشقي من صحن خدّي.. وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها”.
*علي عيد – “زمان الوصل”