“أخاف من الفضيحة” “لا أستطيع تحمل النتائج” “بدائل الحماية لم تكن كافية”.. تلك بعض الردود، التي تلقتها روزنة، من سيدات سوريات، تعرضن للعنف من أزواجهنّ، وتخشى بعضهن المواجهة، لأسباب مجتمعية وأخرى تتعلق ببدائل الحماية أو لعدم معرفتهن بالطرق المناسبة لحماية حقوقهن.
في هذا التحقيق يفند الصحفي الأسباب التي تمنع المرأة من الإبلاغ عن حوادث العنف التي تواجهها، وخصوصاً السيدات اللاجئات في تركيا.
أنتجت هذه المادة بدعم من مؤسسة (JHR) صحفيون من أجل حقوق الانسان.
في استبيان لِروزنة، أكدت 24 امرأة من أصل 51 (مجموع المشاركات)، تعرضهنّ للعنف، وذكرت إحداهن أنها تعرضت للضرب والإهانة، لتقوم بمغادرة المنزل وتركت أولادها، لتعيش مع أمها وتعمل في ورشة للخياطة.
بعض المشاركات في الاستبيان، أكدنَ أن النساء قادرات على مواجهة العنف وإيقافه، رغم كل الصعوبات، من خلال اللجوء الصحيح للقوانين التي تحمي المرأة، وللمنظمات التي تساعد المعنفات وترشدهنَّ إلى الطرق الصحيحة لتحصيل حقوقهنّ بأقل ما يمكن من أضرار ولكن التحديات التي تنتظرهن أيضاً ليست بالسهلة.
محيط المرأة الغير داعم لها، جهلها بقانون البلد المضيف، خوفها على الأولاد وحتى على الزوج من عقاب البلد المضيف، الوضع المادي الصعب، نقص دور الإيواء وغياب دور مؤسسات المجتمع المدني، كل ذلك قد يؤثر على قرار المرأة لمواجهة العنف، حسبما تذكره غيثاء أسعد دالي لِروزنة، وهي مدربة متخصصة بالصحة النفسية في منظمة “تستقل” ضمن مشروع الجامعة الأميركية “جورج ميسن”.
20 عاماً من العنف
شام محمد، هو اسم مستعار لسيدة (52 عاماً) تعيش في ولاية غازي عنتاب جنوبي تركيا، وافقت بصعوبة على رواية قصة معاناتها مع زوجها، الذي يعنّفها منذ أكثر من عشرين عاماً.
لا تفكر شام بخيار اللجوء للقضاء وطلب مساعدة المنظمات المعنية ليس في بالها، بسبب نتائج مرّت بها قريبتها ملاك العلي (30 عاماً)، وهو أيضاً اسم مستعار لسيدة في غازي عنتاب، فضّلت صاحبته عدم إظهار هويتها.
العادات والتقاليد تعتبر سبباً رئيسياً لامتناع الكثير من السيدات السوريات، من الظهور العلني في وسائل الإعلام، بخاصة إذا تعلق الأمر بمواجهة العنف، أو مناقشة أي ظاهرة سلبية ترتبط بحقوق المرأة في المجتمع.
شام كحال عشرات السوريات، اللواتي يتعرضن للتعنيف بمختلف أشكاله على يد أقاربهن، ويُقررن الصمت بسبب رواج فكرة بين المجتمع (يؤكد خبراء أنها ليست صحيحة) مفادها: “اللجوء إلى القضاء أو مؤسسات حماية المرأة، أمر معقد وليس بالمفيد، ولن تحقق نتائجه تغييراً إيجابياً لِلعائلة وتماسكها”.
“كارثة ما حصل” هكذا وصفت شام في حديثها لِروزنة، ما جرى مع قريبتها ملاك، بعد لجوئها للقضاء والمنظمات المعنية بحماية حقوق المرأة، مشيرةً إلى أنه لم يكن ذو تأثير إيجابي يذكر.
ترجع شام السبب إلى مدة الإجراءات القضائية الطويلة من جهة، والتأجيلات التي حصلت بسبب ظروف جائحة كورونا، والتعويضات الرمزية التي لا تتناسب مع حجم الأضرار الكبيرة التي واجهتها ملاك خلال الدفاع عن حقها.
القانون وحماية النساء
وفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ينطبق القانون التركي على جميع إجراءات الزواج والطلاق، لطالبي اللجوء واللاجئين (بمن فيهم السوريين) وعديمي الجنسية في تركيا.
وتمنع القوانين التركية العنف العائلي، وتتضمن تدابير لحماية الأسرة ومنع العنف ضد المرأة، وتتيح للشخص الذي يعاني من العنف الأسري مراجعة الوحدات المعنية، وأخذ خدمات الحماية، الإسكان، الحقوقية والطبية.
وتتيح السلطات التركية، عبر تطبيق الهاتف المحمول “KADES” الخاص بمكافحة العنف ضد المرأة، إمكانية الإبلاغ عن الحوادث العنيفة بنقرة واحدة، وتقدم مراكز الإرشاد النسائي الموجودة في مختلف الولايات، الخدمات للنساء والأطفال تحت سن 12 الذين تعرضوا للعنف داخل الأسرة.
وعبر الرقم 183 يوفر الخط الساخن للخدمة الاجتماعية، الدعم النفسي والاقتصادي والقانوني للنساء اللواتي يتعرضن أو من المحتمل أن يتعرضن للعنف، ويوفر لهن الخدمات التي يحتجن إليها.
لكن مشكلة اللغة والتواصل، وعدم توفر الوسائل التكنولوجية اللازمة بشكل دائم، إلى جانب العوائق المجتمعية (رفض فكرة الشكوى ورفع الدعاوى القضائية)، قد يجعل اتخاذ خطوة مثل هذه أمراً صعباً بالنسبة لبعض السيدات السوريات في تركيا، بخاصة عند تعرضهن لعنف يستدعي تدخلاً سريعاً.
يعتبر تأخر المرأة عن مواجهة العنف، سبباً في تفاقم المشكلة، ووفق خبراء فإن سكوت النساء عن معالجة الحالات في بدايتها يؤدي لتطورها إلى مستويات من الصعب تجاوزها، ولذلك ينبغي عدم التأخر في طلب الاستشارة والبحث عن حلول.
المجتمع ومواجهة العنف
تؤكد المدربة النفسية غيثاء أسعد لِروزنة، أنه إذا توفرت لدى المرأة بدائل مناسبة ودعم مناسب بعد قرار الطلاق، كصديق مناسب وجهة داعمة، وفرصة عمل واستقلال اقتصادي، ستأخذ هذا القرار بالتأكيد.
وتضيف غيثاء بأن المرأة قد تعيش تحت ضغوط تكون سبباً بإصابتها بما يسمى متلازمة استوكهولم، وتعني تعاطف الضحية مع الجلاد، فتعيش في وهم محاولة إرضاء محيطها، وتحتفي بصورة الأم الضحية، ويحصل ذلك بشكل خاص في المجتمعات الشرقية.
ملاك روت لِروزنة قصتها، مؤكدة أن جميع أفراد عائلتها، بمن فيهم والدتها ووالدها، وقفوا ضدها، ووصفوا خطوتها باللجوء إلى القضاء، والمنظمات المعنية بحماية المرأة في تركيا، بالفضيحة.
وبدأت القصة حين واجهت ملاك، حادثة عنف شديدة من زوجها، تعرضت فيها لعدة لكمات وضربات بواسطة القَدَم على وجهها وجسدها، ما ترك آثاراً “أليمة وبشعة” في عينها وخاصرتها حسبما رَوَته لِروزنة.
تقدمت ملاك بشكوى للشرطة بشكل مباشر قبل اللجوء للمنظمات، التي تساعد النساء في معرفة الوسائل الصحيحة والمناسبة لمواجهة العنف، وتقدم لهنّ بدائل لحمايتهن كتأمين مأوى ومساعدات غذائية ومبالغ مالية توصف بـ “الرمزية”.
أرفقت ملاك للشرطة الوثائق اللازمة لإثبات تعرضها للعنف، وتحول الأمر إلى دعوى قضائية، لتقع في مشكلة بين رفض عائلتها أي إجراء بحق زوجها، بحجة منع “الفضيحة”، ولأجل الأولاد (لديها 3 أبناء)، وبين مدة الدعوى التي وصلت إلى نحو عامين، بسبب جائحة كورونا.
في تلك الفترة، حاولت عائلة ملاك الضغط عليها عدة مرات لإجبارها على التنازل وإسقاط الدعوى، ومع إصرارها على اللجوء إلى المحاكم، قرر والدها طردها من المنزل، لتلجأ إلى أقاربها وصديقاتها.
ثقافة العيب، متحكمة بمجتمعاتنا وبكل تفاصيل حياتنا، ومنعت الناس من التدخل لإنقاذ المرأة من الضرب وحمايتها، كما أجبرت المرأة أن لا تفشي ما يحدث داخل منزلها مهما كان، وهذا كله لتكريس خضوع المرأة للرجل، وفق ما تعتقده الباحثة الاجتماعية “وَضحة العثمان” في حديثها لِروزنة.
وتقول ملاك لِروزنة: “لا يمكن وصف الحالة النفسية التي مررت بها، فقد تعرضت للضرب والأذى النفسي من أقرب الناس لي (والدي وزوجي) وليس بيد والدتي حيلة سوى تأييد أبي الذي يرد بعنف شديد كل من يخالفه”.
وتضيف: “أقمت عند زوجة خالي عدة أيام، وبسبب موقف خالي الذي أظهر تعاطفاً مع زوجي، انتقلت إلى منزل صديقتي وحاولت حينها اللجوء إلى المنظمات النسائية”.
نقص البدائل
ويبدو أن التعويضات التي تقدمها المنظمات النسائية، ليست كافية، لتشجيع المرأة للمطالبة بحقوقها، فبعض النساء لا يجدن بدائل كافية تحفظ لهم أدنى متطلبات المعيشة، كما ترفض أخريات وضع أنفسهن في موقع المحتاج وتلقي المساعدات بخاصة المادية منها.
وتتابع السيدة قصتها لِروزنة: “بعد بذل جهد كبير، والتواصل مع صديقاتي، استطعت إيصال معاناتي إلى قسم حماية المرأة في جمعية اللاجئين، التي تتخذ من إسطنبول مقراً لها، وفيها مكاتب في مختلف الولايات بما فيها غازي عنتاب”.
قدمت الجمعية لملاك منزلاً وتعويضات رمزية وخدمات استشارة نفسية، لكن ذلك لم يتناسب مع حجم الأضرار التي تعرضت لها ملاك، حسب وصفها.
وأوضحت ملاك: “كل التعويضات التي قدمت لم تكن كافية لتعيد لي كرامتي وحقوقي المسلوبة من عائلتي وزوجي، لم أشعر بالأمان والراحة أبداً، بسبب ملاحقة والدي لي وبحثه عنه، وكنت أتواصل سراً مع أمي للاطمئنان عليها وعلى أطفالي الذين بقوا مع عائلة زوجي”.
الخوف والشعور بالعجز
الباحثة الاجتماعية وَضحة العثمان تؤكد لروزنة أن استقلال المرأة المادي أهم خطوة لحمايتها من التعنيف، وتضيف: “لو أن كل امرأة اتخذت موقفاً في أول مرة تعرضت فيها للتعنيف، لما تجرأ الرجال على تكرار ذلك”.
شام زوجة خال ملاك، التي استضافتها لأيام في منزلها، لحمايتها من تهديدات والدها، ذكرت بأنها اعتادت على معاملة زوجها العنيفة معها، وعندما كانت تفكر باللجوء إلى القضاء في حال تعرضها للعنف الشديد، كانت تتردد في ذلك.
وأوضحت السيدة لِروزنة: “لا أريد خسارة عائلتي وأقاربي، لست مضطرة لتحمل النتائج الكارثية التي لحقت بملاك، وأدركت من قصتها أن هناك عواقب فوق طاقتي لا يمكنني تحملها ولو ليوم واحد”.
لا تعلم شام كحال ملاك والعديد من النساء، أن بإمكانهنّ اللجوء لمنظمات ترشدهنّ للطرق الصحيحة لمواجهة العنف، وتؤمن لهنّ معلومات عن كيفية تحصيل حقوقهنّ وحمايتهنّ قانونياً، ومساعدتهنّ في تجاوز أي آثار مجتمعية سلبية.
تقول شام: “لا سبيل لي إلا اتباع ما يقوله لي زوجي حرفياً دون أي اعتراض، وهو ما أوصاني به والدي في ليلة زفافي، بأن طاعة الزوج فوق كل شيء وأن أوافقه في كل شيء وإن قال اللبن أسود”.
وختمت حديثها لِروزنة بالقول: “أشعر أنني عاجزة، لا أستطيع حماية نفسي رغم أن الحلول أمامي لكن المجتمع لا يرحم، والنتائج لا تأتي بخير دائماً.. أخاف على أبنائي ولا أريد الابتعاد عنهم”.
إحدى المستجيبات للاستبيان وهي مقيمة في ولاية أضنة جنوبي تركيا، وتبلغ من العمر 24 عاماً، ذكرت أنها تعرضت للضرب من زوجها ولا تستطيع فعل شيء، وهو حال قريباتها أيضاً، وفق قولها.
وقالت أخرى في الاستبيان، و تبلغ من العمر 28 عاماً، وتعيش في سوريا إن معظم النساء في منطقتها (لم تحددها)، يتعرضن للعنف من قبل الأهل أو الزوج ولا يمكنهن إيقاف هذا العنف أو حتى البوح والشكوى لأي جهة مسؤولة.
تسببت الحرب في سوريا، بتزايد مستويات العنف ضد المرأة، جراء تركيز الأجهزة القضائية على القضايا السياسية، فضلاً عن عوامل مجتمعية تتهاون أو تبيح تعرض النساء للإيذاء وتمنع لجوئهنّ للقانون بحجة “الفضيحة”.
لكن الأمر يبقى مختلفاً خارج سوريا، لا سيما في تركيا، حيث العدد الأكبر من اللاجئين السوريين، إذ يمنح القانون وسائل حماية متعددة، و تعمل منظمات دولية على تعزيز الوعي، وتصحيح الأفكار المجتمعية الخاطئة حول مواجهة المرأة للعنف وسعيها لتحصيل حقوقها.
تأخر الحلول ينتج أنواع عنف جديدة
بحسب تقرير لِمنظمة النساء الآن حمل عنوان “قراءة معمقة للنساء السوريات حول الراهن والمستقبل والمفاهيم المتعلقة بهما”، عددت النساء أنواعاً من العنف لم تكن متوقعة، منها عنف الحنين، عنف اللجوء، عنف النزوح، عنف الأماكن، عنف العلاقات العاطفية بعد انطلاق الثورة وخلال الحرب، عنف الاعتقال، عنف التهجير، عنف الهوية.
وبعد عام 2011، ارتفع عدد الحالات التي تتطلب أن يكون للمرأة حق في منح جنسيتها لأطفالها، ومن ذلك حالات الإنجاب نتيجة اغتصاب معتقلات، وزواج سوريات من مقاتلين أجانب مجهولي الهوية، إضافة إلى الانتهاكات في مخيمات النزوح.
وفي اليوم الدولي لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات المصادف لـ 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، أوصت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها، المجتمع الدولي بضرورة تأمين حماية ومساعدة للإناث المشردات قسرياً من نازحات ولاجئات، وخصوصاً الطفلات منهن ومراعاة احتياجاتهن الخاصة في مجال الحماية تحديداً.
وتؤكد الأمم المتحدة أن مسؤولية حماية المرأة من العنف، تقع على عاتق الجميع، بمن فيهم المجتمع ووسائل الإعلام، للمساهمة بشكل رئيسي في نشر التوعية، وتوضيح ما للنساء من حقوق لمواجهة العنف، وتصحيح المفاهيم الخاطئة حول ذلك.
محمد أمين ميرة _ روزنة