أثار قتل الشابة آيات الرفاعي حفيظة وغضب جزء كبير من السوريين، داخل الوطن وخارجه، بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية ومواقفهم السياسية، التي راوحت بين تأييد الأسد ومعارضته، وبين اليسار العلماني واليمين المتحفظ الديني، وهو ما يقدّم دليلًا على أهمية القضايا اليومية والمعيشية في توضيح المواقف وتقريب وجهات النظر؛ فهذه الحوادث أو التجارب اليومية واضحة وضوح الشمس، والموقف منها محسوم لدى قطاع واسع، بعيدًا عن فذلكات ومراوغات الخطاب الثقافوي والأيديولوجي المعقد والمتزمت الذي يدعي الكمال والمتبحر في التنظيرات المبهمة الهادفة إلى إرباك المستمع والتحكم في عقله وتصرفاته، حتى يغدو مجرد تابع جديد ينحكم لقرار الزعيم أو الشيخ المحصن من الخطأ.
إذن؛ لا خلاف سوريًّا حول الموقف من جريمة قتل آيات، كما لا خلاف حول دور المجتمع والقانون فيها، وهو الإجماع المعلن بشأن قضايا وجرائم سابقة مشابهة، كما في وفاة أو قتل الطفلة نهلة حبيسة القفص في مخيمات إدلب، وكذلك في حادثة قتل أستر وزوجها من قبل شقيقها في محيط أريحا، أو بما يخص حوادث خطف النساء والأطفال وتجنيدهم قسريًا، خصوصا في مناطق “الإدارة الذاتية”، وغيرها من الحوادث المؤلمة المرتكبة بحق النساء والأطفال. طبعًا لم تثمر المواقف الشعبية الغاضبة من هذه الحوادث حتى الآن عن أي إجراء عملي يطوي هذا الملف، إذ لم تتمكن من فرض تغييرات هيكلية وقانونية ومؤسساتية تدعم وتناصر حقوق المرأة، بل غالبًا ما انتهت زوبعة الغضب الإلكتروني بخبر اعتقال الجاني وتحويله إلى القضاء المختص، الذي غالبًا ما يتهاون بعد انتهاء موجة الغضب مع هذه الجرائم، خصوصًا إن نجح الجناة في تحويلها إلى جريمة شرف، أو نجح المجرم في إرهاب ذوي الضحية!!
من هنا، أعتقد أننا نفتقد الخطوة التالية، الخطوة التي تتطلب تحويل القضية من قضية رأي إلى موقف صلب ومتماسك، وهو ما يتطلب عملًا مؤسساتيًا منهجيًا، لكننا، مع الأسف، أمام تقصير خطير من قبل النظام المسيطر فاقد الشرعية الشعبية، ومن قبل ما يعرف إعلاميًا بمؤسسات المعارضة الجامعة والفئوية، أي الائتلافية منها والحزبية، التي لم تسارع الخطى من أجل تبني موقف سياسي حاسم من هذه الجرائم، كما لم تحاول معالجة المشكلة عبر اقتراح أي حلول لها ولو كانت شكلية، وهو ما يعبّر عن ضحالة هذه المؤسسات وقصر نظرها، وعجزها عن تحليل الواقع وفهمه. حيث يظهر من التدقيق في الواقع السوري مؤشران بالغا الأهمية، يعبّر الأول عن تطلعات ومبادرة ودور الكتلة الاجتماعية السورية، في حين يعبّر الثاني عن التبدلات الاجتماعية والاقتصادية القسرية التي وقعت في الظرف السوري.
فقد تحولت الكتلة الاجتماعية، منذ اندلاع الثورة السورية، من كتلة صماء حيادية إلى كتلة متفاعلة مع جميع الأحداث الصغرى والكبرى، السياسية والاجتماعية، وهنا نتحدث عن مجمل الكتلة الاجتماعية السورية، بشقيها السياسيين المؤيد والمعارض للنظام. فقد فرضت الثورة واقعًا معيشيًا جديدًا، بالرغم من عنف النظام وجبروته، وهو ما تمثل في كثرة تداول الشأن السياسي في الأحاديث العامة، داخل المؤسسات والمصانع والمدارس ووسائل النقل والأعراس وبيوت العزاء، طبعًا باستثناء الأصوات السياسية المعارضة للسلطة المسيطرة في كل منطقة، وخصوصًا مناطق النظام، التي تراوح بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كما تكرست هذه الظاهرة بصورة أكبر في السنوات القليلة الماضية، بين ثلاث إلى أربع سنوات، بفعل تزايد النشاط السوري عبر صفحات التواصل الاجتماعي، الذي بات ساحة من ساحة التعبير الحر، إذ بات للسوريين رأيٌ في جميع قضايا الكوكب، ثانوية كانت أم رئيسية، سياسية أم ثقافية، ومنها -بلا أدنى شك- القضايا الاجتماعية السورية، وبالتحديد قضايا المرأة. إذن، هناك موقف اجتماعي سوري من قضايا المرأة عامة والجرائم المرتكبة بحق النساء خاصة، الأمر الذي يستوجب على أي جهة أو طرف أو فرد، يدعي تمثيل الشارع السوري أو تمثيل جزء ولو صغير منه، مصارحته بحقيقة موقفه من المرأة وحقوقها ومن الجرائم المرتكبة بحقها.
أما المؤشر الثاني، فهو متعلق بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية داخل سورية وخارجها، فقد تحولت المرأة السورية إلى قوة إنتاجية وازنة داخل الوطن وخارجه بحكم العوامل المتغيرة، إذ تؤدي المرأة في غالبية دول اللجوء المستقر وشبه المستقر، أوروبا وأميركا وكندا وتركيا، دورًا اقتصاديًا فاعلًا ومستقلًا، الأمر الذي فرض على المجتمع السوري التأقلم مع هذه الوضع، لا سيما في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة والحاجة إلى دخل إضافي. أما داخليًا فقد تقلص حجم العمالة الذكورية المتعلمة وغير المتعلمة، بفعل تصاعد العنف في سورية، كالاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري والقتل العشوائي والتجنيد القسري والإعاقات الجسدية، فضلًا عن الفقر والعائد المادي المنخفض ومحدودية فرص العمل وغيرها من العوامل العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، التي دفعت العائلة إلى تهجير الشباب بأسرع وقت ممكن، على أمل لمّ الشمل أو الدعم الاقتصادي لاحقًا. بالمحصلة، زادت نسبة مساهمة النساء في النشاط الاقتصادي، حيث تبين أرقام منظمة العمل الدولية أن مساهمة المرأة في قوة العمل عام 2010 كانت بحدود 22.5% فقط، في حين تقول دراسة صادرة عن مركز السياسات وبحوث العمليات إن مساهمة النساء في العام 2020-2021 قد بلغت 48.8% (العيش في دمشق بعد عقد من الحرب: العمل، الدخل، والاستهلاك، 22/6/2021).
لقد تضاعف حجم مساهمة النساء في الدورة الاقتصادية السورية، بالرغم من الانكماش الاقتصادي الراهن ومحدودية فرص العمل، وهو ما يؤشر إلى تحوّل جوهري في دور المرأة السورية، من دور التبعية الاقتصادية المطلقة، إلى المرأة العاملة ذات الدخل الشهري، ولو كان شحيحًا، لكنه دخل يمنحها قوة اقتصادية، يجب أن ينعكس على مكانتها الاجتماعية والسياسية والقانونية أيضًا. فقد علمتنا تجربة المجتمعات الأوروبية، في إبان الحرب العالمية الثانية، أن مساهمة المرأة الاقتصادية قد لعبت دورًا كبيرًا، في رفع مستوى وعي المرأة، وفي تمكينها واستقلالها اقتصاديًا، وفي تطور نضالها الاجتماعي والطبقي الهادف إلى انتزاع حقوقها المستلبة من قبل المجتمع والأسرة وربّ العمل.
يشكل غياب الموقف المعارض الواضح والصريح، من حقوق المرأة وقضاياها، وصمة عارٍ على هذه القوى، لا سيما في ظل التحولات التي يشهدها المجتمع السوري منذ 2011، حيث بات الشارع متقدمًا بأشواط معتبرة عن المؤسسات التي تدعي قدرتها على تحديد مستقبل سورية، وهو ما يشكل دليلًا جديدًا على مدى فشل هذه المؤسسات والدوائر الائتلافية والحزبية، ويعيد التأكيد على حاجة الكتلة الاجتماعية السورية إلى خلق هياكل تمثيلية وتنظيمية جديدة ومتجددة، هياكل ذات رؤى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية واضحة وصريحة، تعكس طموح السوريين ومصالحهم، ولا سيّما المفقرين والمستَغلين والأطفال والنساء.
حيان جابر _ مركز حرمون للدراسات