على الرغم من المنعطف العسير الذي تمرّ به الحالة السورية الراهنة، إنسانياً وسياسياً وأمنياً، وعلى الرغم من تهجير ملايين السوريات والسوريين قسرياً خارج البلاد أو داخلها ضمن موجات النزوح والتغيير الديمغرافي ما تزال المرأة هي الجهة الأضعف التي تدفع أثماناً غالية من غلواء الحروب ومقاديرها، ولأننا “محكومون بالأمل” كما يقول المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس، لا يسعنا إلا أن نستمر بالسير الصعب والثابت باتجاه سوريا المحرّرة إنساناً وأرضاً وسياسات.
فالثورة السورية لن تكتمل إلا إذا اقترنت ببرنامج حازم لتحرير الإنسان السوري، والمرأة أولاً، وعلى الصعد الاجتماعية كافة، وكذا مساواتها الدستورية والقانونية التامة بالرجل في الحقوق والواجبات. وعليه فالدستور المستقبلي في سوريا، ومجموعة القوانين التي ستنبثق عنه، يجب أن تؤكّد على حرية المرأة واحترام خصوصيتها وعقلها وعواطفها، وتضمينها في القوانين والتشريعات كافة، وتمكين نفاذها عن طريق تفعيل الأدوات والمؤسسات الموازية، وإنشاء الروادع القانونية والعقابية لكل من يستمر في الاعتداء على هذه الحقوق تحت أي مبرّر. كما يجب أن يشدّد الدستور المرتجى على حق المرأة في العمل السياسي، والشراكة في مواقع القرار العليا بالترشّح وإشغال أي منصب في الدولة بما فيها منصب الرئاسة والوزارات السيادية وكذا المناصب القضائية في القضاء المدني والقضاء الدستوري.
كانت لي تجربة نوعية في تدريس مادة الإسلام المعاصر في جامعة الجورجتاون في واشنطن لطلبة الدراسات المستمرة، وهم عادة من الموظفين الحكوميين والباحثين المهتمين بتاريخ الإسلام وقضايا الشرق الأوسط. وقد لفتني خلال تدريس مادة الأندلس ودور المرأة في التاريخ الإسلامي في الحكم والسياسة، كم من الجهل والنكران يعتريان الذهنية الغربية لحقائق في التاريخ والحاضر هي غرّة في الحداثة والاستنارة مقارنة بما يدور رحاه الآن من مشاهد التطرّف والفصل المذهبي، مشاهد معزَّزة بنظرة الغرب القاصرة للمناخ الاجتماعي والسياسي المحتقن الذي أنتج تيارات التطرّف والغلو تلك مقابل حالة الاعتدال والتسامح الديني التي يجب رفع النقاب عن وجهها بتداخل عاجل من أصحاب القلم والفكر التحرّري والتنويري المستقل.
فالإسلام لم يحرّم إمامة المرأة، والأدبيات الإسلامية تأتلق بأسماء ملكات ورياديات تركن بصماتهن على نواصي التاريخ من أمثال الملكة أروى بنت أحمد الصويلحي وفاطمة الزهراء وخديجة بنت خويلد وولاّدة ابنة المستكفي بالله وشجرة الدرّ وغيرهن من العلامات الناضرات في العلم والتجارة والسياسة والفكر الإنساني. بينما يفيد التاريخ الحديث، وفي معقل الديمقراطية الولايات المتحدة، أن المرأة الأميركية لم تحصل على حقها في التصويت حتى عام 1920، ولم تتقلد مناصب سياسية عُليا إلا في بداية الثلاثينيات، وهي ما زالت حتى الساعة تعاني تمييزاً إذا ما أبدت منافسة للرجل فيما يَعتبره ميداناً مهنياً حكراً عليه، ومعدل رواتب المديرات التنفيذيات في الولايات المتحدة هو أقل 40% للمرأة التي تشغل المنصب نفسه للرجل، وتتمتع بالخبرة المهنية ذاتها التي يملكها.
لا بد من التأكيد في هذا المقام على ثوابت سياسية وأخلاقية وقانونية هي في صلب مكافأة المرأة السورية لثورتها على ثالوث الاستبداد والتبعية والتعصّب
ولأن التغيير الاجتماعي والسياسي لا يتمّ إلا من خلال شغل فكري وعلمي وتربوي متأنّي وصبور من أجل ترميم وتغيير مسلّمات وأفكار راكدة، فلا بد من التأكيد في هذا المقام على ثوابت سياسية وأخلاقية وقانونية هي في صلب مكافأة المرأة السورية لثورتها على ثالوث الاستبداد والتبعية والتعصّب، أسرد بعضاً منها:
- ضمان مشاركة المرأة بنسبة مقبولة في التجمّعات الدولية، وفي لجان التفاوض والمصالحة والسلم الأهلي، وكذا في لجان تأسيس وكتابة الدستور.
- تمكين ودعم النساء في العمل السياسي من خلال تزويدهن بالمهارات اللازمة والتأهيل القيادي.
- حماية المرأة اجتماعياً وقانونياً من التعرّض للإكراه العقائدي (دينياً كان أم سياسياً)، وتفعيل قوانين ردع العنف الأسري والانتهاكات الجسدية، وسن أنظمة اجتماعية لحمايتها من الأذى الاقتصادي المترتّب على فقدان المعيل، وتجريم الزواج من القاصرات، وكذا نشر حملات التوعية التي تساعد في التعريف والاعتراف بفعل التحرّش على أنه جريمة يحاسب مرتكبها أمام القانون بأقصى العقوبات.
فصل المقال يكمن في طبيعة الظروف التي تسمح بنجاح الثورات الشعبية على المدى البعيد، وأن الثورة السياسية لابدّ من أن تُرافَق بأخرى ثقافية انقلابية على الراكد السلطوي ذي الفعل الرجعي المقيت، ثورة ثقافية هي الرديف والرافد للثورات السياسية على ألوان الاستبداد، وأن التحرّر السياسي المرتجى لا يستوي إلا موازاة بتيار من التغيير المجتمعي ينقلب على كل مثبّطات الحراك الثوري ومسكّناته وفي مقدمتها تغييب شراكة المرأة ـ نصف المجتمع الفاعل ونسغ المستقبل العميم.
مرح البقاعي _ تلفزيون سوريا