تمتعت المرأة في دير الزور، بمكانة مرموقة في المجتمع الفراتي، وهذه المكانة المميزة لها أسبابها وأحداثها التاريخية في مجالات الحياة كافة وعلى مختلف الصعد؛ اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً وتربوياً وثقافياً.
وتعود المرأة الفراتية بأصولها الى قبائل عربية أصيلة حافظت على طباعها وتقاليدها، ولها تاريخ حافل بالكرم والتضحية حيث لعبت المرأة الديرية دوراً بارزاُ منحها مكانتها المرموقة بين أهلها وذويها؛ وهو ما جعل التكنّي بها مفخرة أمام المجتمع الديري.
ومن هؤلاء شاعرة الفرات الشعبية خرمة المعمارية ابنة سليمان الحمد من عشيرة المعامرة، ولدت في ديرالزور في مطلع القرن التاسع عشر، ولا يعرف موعد محدد لتاريخ ولادتها قالت الشعر وأجادت وقامت برثاء الكثير من شخصيات ووجهاء ديرالزور حيث أنشدت في رثاء (تركي بن مهيد)
الما حمت تركي مناجل
مناجل سوس سووها
عزوا الخيل عزوها
حليب بطاس وإسگوها
رماح الما حمت تركي
جوا الجدر وزوها
خيل الما حمت تركي
على الفدان شدوها
الانتخاء والتكني بالمرأة الديرية
كانت المرأة الديرية أثناء الغارات والمشاجرات بين العشائر تساعد إخوتها وأعمامها وعشيرتها وذلك بتحضير العصي والجنايات والبلطات وكلما كسروا عصا تقوم بإعطائهم الأُخرى وكانت تثير بهم الحماسة بإلقاء القصائد، وتضمد جروح أبناء عشيرتها أثناء قتالهم مع العشائر الأخرى لذلك كان لها عند الإخوة والأهل مكانة محترمة وعندما ينتخي هذا الأخ الشجاع يقول أنا أخو فلانة التي كانت قد ساعدته ومدت له يد العون في صد هجوم العشائر الأخرى، ومنهم على سبيل المثال (أخوة بطة والخرسا وصبحة وهدلة) وغيرها.
ومن هذه النساء السيدة هدباء بنت الصباغ من عشيرة الخرشان وهي البنت الوحيدة لعدة إخوة شباب وكانت المدللة وهي ذات شخصية قوية (أخت رجال) كما يطلق عليها في دير الزور وكانت جميلة فارعة الطول ذات عينين سوداوين واسعتين وأهداب طويلة لذلك سميت بهذا الاسم، ولاقت هذه السيدة محبة واحتراماً وتقديراً كبيراً بين أبناء عشيرتها، لذلك كان إخوتها ينتخون بهذه السيدة الحُرة ويقولون (أنا أخو هدبة) وكانت هدباء سيدة مرفهة وكريمة معطاءة جداً.
المرأة الفراتية مناضلة
برز دور المرأة الفراتية وخاصة الديرية في المجتمع جنباً إلى جنب مع الرجل، لا بل فاقته في بعض الأحيان؛ وهذا ما أعطاها الجرأة، كما شاركت الرجل أيضاً حتى في القتال ضد الطامعين من المستعمرين الغزاة بخيرات الفرات، وهذا الدور يعود إلى قوة شخصية المرأة الديرية التي تتميز بها،وهنا نذكر فاطمه جاسم الجذمور مناضلة الفرات الأولى وهي ديريه من عرب البو بدران قارعت الفرنسيين، ففي عام 1932 نظم نادي (الجراح) بديرالزور مباراة في الملاكمة بين الملاكم ابن ديرالزور (فريد عليوي) بطل سورية ولبنان بوزن الريشة وأحد ضباط سلاح الطيران الفرنسي وكان حكم المباراة فرنسيا والذي انحاز لصالح الملاكم الفرنسي مما أثار نقمة الجماهير الديرية المحتشدة، وكانت الشرارة الأولى لمعركة بين الفرنسيين وأهالي ديرالزور، وكانت أول مرة تشارك المرأة الديرية بهذه الحوادث.وعندما قامت القوات الفرنسية بتطويق النادي لاعتقال الشباب المحاصرين بالنادي.
حيث قام مجموعة من الشباب بخرق الطوق المضروب والهرب عندها قام الجنود الفرنسيين باللحاق بهم للقبض عليهم كانت فاطمة الجذمور قريبة من المكان فأسرعت برش الفليفلة الحادة (الحارة جدا)في وجوههم وعيونهم مما سهل للشباب الهرب إلى بر الأمان) وفي اليوم التالي قام الفرنسيين باعتقال السيدة فاطمة الجذمور مع عدد كبير من أهالي ديرالزور، ونقلوهم إلى حلب وتم سجنهم في (خان استنبول) قرابة شهر وبعد ذلك تم سوقهم إلى (سجن المنارة) واستقر بهم المطاف في بيروت (سجن المية ومية) حيث مكثوا أكثر من شهرين متعرضين لمختلف أنواع التعذيب.
ديريات تميزن في عهد الوحدة 1958
في تلك الفترة قامت السيدة خديجة فرحان العليوي من عشيرة البوعوجة من أهالي ديرالزور ببناء مسجد بمحلة علي بيك (من مالها الخاص) اسمه جامع حرويل نسبة الى زوجها وفي ذات الفترة تخرجت أول طبيبة هي عايدة نافع عزاوي سليلة عائلة أحبت العلم وتعتز بجذورها العربية الأصيلة هذه الفتاة التي كانت وبعض زميلاتها الديريات ممن حصلن على الثانوية العامة، حيث كان التعليم في ديرالزور تحكمه العادات الاجتماعية، إذ لا يحق للفتاة أن تكمل دراستها الجامعية (فهذا أمر معيب جداً).
يقول القس الذي كان يعمل في كنيسة الرقة وهو من عائلة الرويق الحلبية “عايدة عزاوي أول فتاة على مستوى الجزيرة والفرات تحصل على شهادة الطب بتفوق، ومن القلائل على مستوى سورية، إن عايدة عزاوي لم تستكن للعادات التي تمنع الأنثى من متابعة دراستها، وقررت أن تذهب إلى حلب وتتابع دراستها في الصف الخاص ثم اتجهت إلى ألمانيا الغربية لتكمل تحصيلها العلمي وانتسبت إلى كلية الطب البشري، وقد كانت عايدة من المتفوقات الأوائل في جامعة Greifswald الألمانية، هذا التفوق أعطاها الأحقية لمتابعة الدكتوراه ونالت من الجامعة درجة الدكتوراه في الطب. وتم تكريمها بسبب تفوقها من قبل البروفيسور(dr. professor ZippeL) ومازالت مقيمة في ألمانيا.”
وأصبحت مثال لنساء ديرالزور اللواتي قهرن الحواجز الاجتماعية حيث كان، سلاحهن، العلم والتفوق ونذكر في هذا المجال أيضاً الدكتورة لمياء الجوهري التي حصلت على شهادة الطب من جامعة دمشق متخصصة في طب الأطفال وذهبت إلى فرنسا لمدة سنتين وعادت إلى حلب وعملت في مشفى الولادة بحلب ولها في حلب عيادة خاصة.
صالحة أول معلمة
وجدير بالذكر أن أول أمرأه قامت بتعليم بنات ديرالزور القراءة والكتابة بدون أجر، وكان لها الفضل في هذا المجال هي (صالحة بنت حاج محي الدين) زوجة (سليم عبدالله بكر) من أهالي الموصل جاءت إلى ديرالزور عام 1875 مع والدها الذي كان أميناً للسجل المدني بديرالزور.
حيث كان متصرف ديرالزور لديه ابنة يريد لها أن تتعلم. فأرشده الناس على الآنسة صالحة وأصبح كبار الموظفين يرسلون بناتهم للتعليم لديها.واستمرت في تعليم الفتيات في بيتها بمحلة الشيخ ياسين لمدة ستين سنة حتى تاريخ وفاتها رحمها الله عام 1941.ودفنت بمدفن جامع السليمية بديرالزور وأسس ابنها محمد نوري السليم مدرسة في سنة 1933 لتعليم الصبيان في الجامع السليمي.
وجاءت بعدها (فاطمة بنت سليم عبدالله بكر) زوجة خالد رشيد بكر وابنة (صالحة حاج محي الدين)، حيث كانت تساعد أمها في التعليم. وهي والدة كاتب العدل بديرالزور سليمان خالد رشيد.
أول امرأة تحصل على شهادة جامعية
حصلت على أول شهادة جامعية وكانت أول مديرة ديرية جامعية لثانوية البنات السيدة ليلى نجم الدين عبدالله الدرويش المدلج والدها نجم الدين المدلج من المدرسين الأوائل بدير الزور لاحقته سلطات الاحتلال الفرنسي وذهب إلى العراق.
حيث ولدت ليلى مدلجي في 21/12/1930 وتابعت دراستها الابتدائية وهي في سن الخامسة من عمرها ونبغت بتحصيلها العلمي، إلى أن حصلت على الشهادة الثانوية بتفوق رغم صغر سنها وانتسبت بعد ذلك لجامعة بغداد، كلية الطبيعيات (ر. ف. ك)، كان لها نشاطها الوطني وهي طالبة جامعية حيث شاركت بمظاهرات الطلبة ضد معاهدة (بورت سموث) التي وقعت بين بريطانيا والحكومة العراقية عام 1948.
حصلت ليلى مدلجي على الشهادة الجامعية من كلية العلوم عام 1952 (بدرجة الشرف) وكانت الخريجة التي تحصل على الدرجة الأولى. لذا قررت الحكومة العراقية اختيارها للإيفاد إلى بريطانيا للحصول على الدكتوراه كونها الأولى على دفعتها لكنها رفضت البعثة وأيدها والدها بهذا الاختيار.
وعملت مفتشة لمادة (العلوم والكيمياء) بوزارة المعارف وبعد ذلك تم اختيارها لتكون أول سورية مديرة (لثانوية ومتوسطة الأنبار للبنات) وكانت أول مديرة لثانوية البنات (حاصلة على الشهادة الجامعية) وفي عام 1961 دعاها مدير التربية بديرالزور لتكون مديرة ثانوية البنات الأولى. حيث عملت على ترسيخ العلم والمعرفة بهذه الثانوية التي ارتبط اسمها بالمديرة (ليلى مدلجي) واستمرت في التعليم حتى عام 1986. حيث احيلت للتقاعد.
لبيبة حسني تحصل على أول أهلية تعليما
المعلمة لبيبة حسني الدخيل تلك السيدة التي أحدثت ثورة تعليمية وتربوية وإنسانية في مدينتها وكان لها دور بارز في إخراج المرأة الديرية من أقبية الحريم وفتحت أبواب المدارس في وجه نساء دير الزور وبناته.
ولدت لبيبة عام 1915 في مدينة “الميادين” وحفظت القرآن منذ طفولتها وبسبب عمل والدها مديراً للمال انتقلت الأسرة إلى “حلب” وفيها حصلت على الشهادة الابتدائية بتفوق عام 1926 وهي أول شهادة ابتدائية تمنح في سورية.تابعت تعليمها لتحصل على أول “أهلية تعليم ابتدائي” تُمنح في سورية عام 1932. تعرضت عائلتها لكثير من الضغوط الاجتماعية لمنع لبيبة من متابعة تعليمها، لكن تلك الضغوط قوبلت بالرفض من قبل العائلة.
بدأت مشوارها المهني بإدارة مدرسة الإناث الوحيدة في المحافظة، التي سميت فيما بعد مدرسة “فاطمة الزهراء”، وهنا بدأ المجهود الحقيقي للبيبة، حيث تواصلت مع كل الشرائح الاجتماعية والعائلات لكي يرسلوا بناتهم إلى المدارس ليكملن تعليمهن، عملت بكل طاقتها لجلب الفتيات الصغيرات إلى رحاب العلم واتبعت كل الوسائل لتقنع الأهالي بتعليم بناتهم.كانت تتجول في شوارع المدينة لتقابل كل فتاة وتقودها بجولة في المدرسة مع والدتها وتنجح في اقناع الأهل بأهمية تعليم الفتيات. وبسبب مكانتها الاجتماعية وثقة الناس فيها أصبح عدد الطالبات في السنة الثانية 60 طالبة في الصف الأول وحده.
سعت لبيبة لافتتاح عدة مدارس ثانية مثل مدرسة “الخنساء”، “خديجة الكبرى”، “خولة بنت الأزور”، “غرناطة”.في تلك المرحلة كانت لبيبة هي الوحيدة التي تحمل شهادة تؤهلها لتدريس المرحلة الإعدادية، بسبب عدم وجود معلمات مؤهلات للتدريس، رفضت وزارة التربية افتتاح صفوف بعد الصف السادس فعرضت لبيبة أن تدرس كل المواد بنفسها بالإضافة لمهمة الإدارة وهنا تم افتتاح “إكمالية البنات” وهذا الإنجاز يعتبر خطوة جبارة بالنسبة لمن عاش تلك المرحلة من نساء “دير الزور” فتخرجت أول دفعة سنة 1948 وأصبحن معلمات كما ساهمت السيدة لبيبة بافتتاح دار للمعلمات، التي تم افتتاحها عام 1955 وتخرجت الدفعة الأولى منها عام 1957 و في عام 1959 استطاعت افتتاح الصف الأول الثانوي للبنات.بعد التقاعد أسست مع مجموعة من تلميذاتها “جمعية المرأة العربية” عام 1960.
ومن نشاطاتها:1_ افتتاح روضة للأطفال باسم بيت الطفل تستقبل الأطفال الأيتام والفقراء مجاناً
2 _ افتتاح صفوف لمحو الأمية
3_ افتتاح دورات لتعليم الخياطة والتطريز في المدينة
4_كانت أول من طالب بشكل رسمي بافتتاح جامعة في “دير الزور” وذلك في مذكرة قدمتها لرئاسة الجمهورية من خلال جمعية المرأة العربية.
أشهر المعلمات: أسماء خانم البيروتية، خديجة خانم، أمينة خانم، رئيسة مدارس الإناث عام 1893م، خدوج خانم بنت موسى، رئيسة مدرسة الصنايع عام 1893م ومن أوائل المعلمات الديريات نذكر : جيهان طبال، صفية الشيخ، راجحة قدوري، زينب الخيري، ليلى سبع الدير، سهام العمر، هدنة عطالله، وفاء الشيخ، سمية السراج، خالدة العبدالله، خديجة العبدالله، فتحية حساني، ماري روز كوز، شكرية عبد الغني.
الجمعيات النسائية في دير الزور
من خلال سرد تاريخي، لتاريخ الجمعيات التي أحدثت في ديرالزور سنتعرف على أهم ما قدمته هذه الجمعيات وهي مرتبة حسب قدمها وتاريخ إحداثها:1- جمعية المرأة العربية، تأسست في 24/ 8/ 1959، ترأسها السيدة (لبيبة حسني) كانت مديرة لثانوية بنات، وبعد إحالتها للتقاعد تفرغت للجمعية.وللجمعية نشاط محمود بتعليم الأميّات وإدارة حضانة الأطفال (بيت الطفل) وكانت مديرته (فرات عياش).
أقامت الجمعية معرضين ودعت إلى عدة محاضرات ولها دار خاصة وشاركت بعدة مؤتمرات نسائية خارج ديرالزور .
2- جمعية النهضة النسائية، تأسست في 10/12/1960، لها إعدادية للبنات (خاصة أهلية)، تشرف على تعليم ورعاية اليتيمات، رئيستها السيدة (وداد طبال) (ثالث محامية بديرالزور).
في هاتين الجمعيتين تفوقت المرأة الديرية على الرجل الديري في حقل الخدمات الاجتماعية، فالرجل ليس له أي نشاط يذكر.
3- الجمعية الخيرية الإسلامية، تأسست عام 1937، تخصصت في العمل الخيري في دير الزور.
بعد مرحلة السيدة لبيبة الدخيل، تابعت السيدة مها الفياض الرسالة في جمعية المرأة العربية بما ورثته عن والدتها السيدة لبيبة الدخيل من حب لخدمة البلد بالإضافة الى كونها مديرة لدار المعلمات الابتدائية وقد تمتعت بكل معاني الانسانية والأخلاق والثقافة حاملة أعباء وهموم فتيات بلدها كوالدتها.
أما السيدة سلوى الفياض (رحمها الله) فقد درست الهندسة وكانت من أبرز العضوات في جمعية المرأة، ولها دور مهم في كل المجالات الخيرية التي أنجزتها الجمعية وخاصة رعاية الأيتام.
نائبة فراتية في البرلمان السوري
ومن المحاميات الأوائل نذكر المحامية زهرة الحافظ أول محامية بدير الزور ونهلة كريم حنتي وغادة رداوي، التي عملت محامية وقاضية استئناف وفي النيابة ومحكمة النقض ولا ننسى أميرة الحاج حسين التي عملت مديرة مكتب اليونسكو بدمشق وسعاد قصار التي أصبحت بعد ذلك أول قاضية بدير الزور كما أننا نستذكر أن أول نائبة فراتية بالبرلمان السوري هي شكرية عاروض من مدينة دير الزور .دخلت البرلمان في ستينيات القرن العشرين وزهرة الجاسم من الظفير (عشيرة البوعويص) نائبة عن دير الزور لثلاث دورات في البرلمان.
ولا نغفل أيضاً عن مهندسات ديريات حصلن على شهادة الهندسة وعملن بدير الزور :عايدة دعيجي، عمارة 1977، عالية مهلهل، مدني 1978، سهام حامد عبدالوهاب، مدني 1979، كلوديا السبع مدني 1978.ولا ننسى أوائل المهندسات الزراعيات بديرالزور وهنا نذكر :المهندسة فريال سنجار والمهندسة شهرزاد حداوي. وهما أول مهندسات في دير الزور.
يحق لنا أن نرفع رؤوسنا وأن نفخر بهؤلاء الماجدات اللاتي كن وبحق مفخرة لديرالزور بشكل خاص ولسورية بشكل عام.لقد أثبتت الوقائع أن المرأة الديرية (الفراتية) تركت بصمات مشرفة في عملها وكانت معطاءة كريمة مثل فراتها الخالد، بالرغم من كل الظروف القاسية التي عاشتها.
جيهان الخلف _ نينار برس