كانت ترتدي الزي التقليدي متلحفة بأجمل الألوان مغطية شعرها بوشاح شفاف ملون ومزخرف بذهب، جاهدة بهذا أن تقدم صورة نمطية عن بلدها. كانت شابة وصغيرة جداً على أن تكون برلمانية وكانت جميلة نظنها عارضة أزياء للحظة الأولى، كانت لطيفة وتتحدث الإنجليزية بطلاقة ولكنها تبدو غير مدركة لأبعاد أي نضال نسائي بل مجرد سعيدة ومكتفية بدور شكلي تمثله عن المرأة الأفغانية وكان هذا كافياً للحضور.. هكذا التقيت منذ خمس سنوات للمرة الوحيدة ببرلمانية أفغانية في مؤتمر عالمي يخص المرأة والسلام.حاولت أن أفهم خلال تلك الأيام كيف استطاعت هذه الشابة الصغيرة بالعمر والتي يبدو واضحاً أنها لا تحمل في تاريخها أي معالم لطموح اجتماعي أو سياسي عام لبنات بلدها، أن تصبح برلمانية؟.
كانت قد تجملت بأزياء فلكلورية من المؤكد أنها لا تلبسها في حياتها اليومية ولا يلبسنها نساء أفغانستان في كل مكان، كان هذا للتصدير لتبدو كما يراد لها أن تبدو خارجة من فيلم بوليودي ورغم أنها في الواقع حتماً لها شخصية وحضور مختلف.. لكنها هنا كانت مدركة لما يتوقع منها الغرب بالتالي عندما أعطيت الكلمة لم يكن لها تلك المطالب النسوية لم تذكر سوى أنها من فئة ضحية أمام شيء ما لم تسميه.. وهي حتماً تقصد طالبان .
هل إرضاء الحضور الغربي، هو الانصياع لخيالهم الواسع الذي يرى بالمرأة الشرقية حيواناً أليفاً وجميلاً هارباً من أدغال أسيا أو من لوحة استشراقية لدولاكروا.؟لم أفهم لماذا كانت تجهد للمحافظة على الصورة النمطية المتوقعة منها ولما لم تجرب أن تريهم فكرة واقعية عن المرأة الشرقية تبين لهم أننا متساويين بندية على الأقل كبشر وبأنهم ربما مسؤولين ولو جزئياً عما يحصل لنا.. يكفيها لو قالت لهم يومها أنا لست فقط دمية جميلة تتباكون على حالها أنا عندي أيضا رأي وطموح لبلدي.
على هامش المؤتمر جربت أن أسألها عن نضالها وعن حياتها، ففهمت أنها كانت تعيش في لندن طوال حياتها من عائلة تقريباً غربية ولا علاقة لها بالتقاليد النمطية الأفغانية.. ولما لا فالمجتمعات الشرقية تحتاج هذا التمازج الفكري لتنموا وهذه الفتاة لديها حتماً الكثير لتقدمه لبلدها أفغانستان.. لم أجرؤ أن أسالها عن هذا الزي الفلكلوري وعن غطاء الشعر الشفاف المذهب الذي تعمدت ألا تخلعه؟ وكدت ألومها قائلة إن الأفغانيات المقيمات في الغرب وحتى في أفغانستان لا يلبسن هكذا فلكلور في حياتهن اليومية؟ تمنيت لو أني قلت لها يومها رفضي للقبول بالنمطية. تمنيت لو قلت لها انظري للغربيات بندية.. نحن لسنا هنا لجمع نظرات الشفقة ولا نحتاج لشفقة أحد بل نحتاج لاحترامهم لنا لكي نحترمهم.. تمردي.. ثوري على شرق السبايا كما قال نزار قباني.. لكني لم أشأ أن أبدو غير لبقة في محفل ديبلوماسي واكتفيت بسؤالي لها على انفراد هل كنتي تتجولين هكذا في شوارع لندن حين كنتي تقيمين هناك؟.
وللأسف يرى الغربي هذا الزي التنكري من ضمن شخصية الفتاة الأفغانية الضحية التي علينا القبول بها للوازم الحديث عن الشرق بهذا الأسلوب؟ هذا ما جربت أن أعبر لها عنه بلطف نوعاً ما.. وتمنيت لو قلت للمنظمين أنتم تسيئون للقضية. الشابة كانت مركزة على صورتها النمطية التي تصدرها عن فلكلور بلدها لا أكثر. وكثيرين في الغرب وكل مكان لا يبحثون عن أكثر من الصورة.كدت أفقد الأمل من إمكانية وجود نساء قادرات على السباحة عكس التيارات المفروضة على المرأة الأفغانية من الغرب ومن الشرق ولكن لحسن الحظ بعد هذا اللقاء بعامين التقيت بدكتورة مناضلة أفغانية لم يكن لها أي صفة رسمية سوى نضالها الهامشي في القرى.
ورغم عدم حصولها على أي منصب رسمي تكرمت دولياً بجائزة للسلام من منظمة عالمية وفي الواقع أحدثت هذه السيدة الكبيرة النقلة النوعية لدى الحضور بالإجماع لكونها حدثتنا بعمق عن معاناة المجتمع الأفغاني ككل وليس عن المرأة فقط.. حدثتنا عن حياتها التطوعية التي وهبتها للتنقل بين القرى المهملة وكيف أنها تقنع الأهالي في القرى النائية لإرسال بناتهم للمدرسة وكيف تنشئ المدارس واهبة ذاتها وعلمها كطبيبة لأهل بلدها وكيف أن تعليم الإناث هو حاجة ملحة للمجتمع لتطويره.
دور هذه السيدة في بلد كأفغانستان أساسي حيث في المجتمعات الإسلامية الفقيرة التي لا تدار من أحد جديا، لم تنشئ الحكومة مدارس بعدد كاف ولم تصرف على تطوير مناهج التعليم وتخريج أساتذة بكفاءات، وكذلك الدولة في القرى البعيدة عن العاصمة “غائبة” عن هموم الناس لا تعبد حتى الطرق ولا يتشارك سكان القرى مع غيرهم من بعض سكان المدن بخيرات الحضارة من كهرباء وماء وغذاء وحد أدنى معيشي.
كانت الدكتورة سيدة مؤثرة كلامها حقيقي وسألتها كيف يا ترى تقنعين الأهالي المقتنعين بفكر التطرف وتحت سيطرة طالبان بإرسال البنات للمدرسة وما هي حجتك فأجابت بالإنجليزية أتلوا عليهم كلام مولانا.. هذا سلاحي.هل كانت تقصد مولانا جلال الدين الرومي؟ لا أعرف.. لم يسمح لها الوقت أن تشرح لي أكثر في قاعة كبيرة في مقر الأمم المتحدة في فيينا، لكن المفهوم بما تقصد أن سلاحها كان الحجة.
لا يواجه أي تيار ديني متطرف ومعادي للنساء والبشرية إلا بالحجة والفكر هم يستعملون الدين والحجة ليقنعوا الناس بعداء الغير وضمهم لهم، وأما الإنسان فهو في صلبه حر يحكمه العقل.. لكن لماذا نواجه العقل بالسلاح والقتل؟.هذا ما تفعله الديكتاتوريات في بلادنا يواجهون الفكرة بالقمع.. ولكن أليس الغرب الديمقراطي أيضا يتصرف بذات الطريقة ويحارب من لا يتفق معه بالعنف وبالسلاح؟.
هذا ما حصل في أفغانستان عندما سقطت الدولة في المرة الأولى، كانت نساء أفغانستان يشبهن كل نساء العصر وكن كالسوريات واللبنانيات والعراقيات في المدن يلبسن الزي الغربي والموضة وفي القرى كان للبعض الزي التقليدي. كانت هناك المحجبات وغير المحجبات كما كان الأمر في سوريا قبل الثمانينات، قبل أن تستقيل الدولة. في كل مكان نلاحظ أنه مع انهيار الدولة واستقالتها عن دورها الاجتماعي والاقتصادي تصبح المرأة هي الضحية الأولى.في الواقع السؤال المطروح هو كيف ننير عقول أناس لا تصلهم الكهرباء ولا الماء ولا توفر لهم دولهم أي شيء من مقومات الحياة العصرية؟.كيف نطالبهم بالعصرية واحترام حقوق الإنسان وهم لا يعاملهم أحد كبشر بل مجرد سواعد مأجورة في حروب تدار بالوكالة بدماء أباء وإخوة هؤلاء النساء اللواتي نتحدث عنهن كضحايا..؟.
في الحقيقة نحن نتحدث منذ مدة في الغرب والعالم عن المرأة في أفغانستان والمشرق وكأنها منفصلة عن مجتمعها أو كما لو كانت بمعاناتها منفصلة عن الواقع وكأن الرجل الذي يعيش معها عدو لها لا إنسان وننسى أن الرجل هناك هو أيضا ضحية مثلها: حتماً هو لا يفرض عليه المجتمع والأسرة الزواج (الاغتصاب) في عمر العاشرة ولا يباع ولا يمنع باسم الدين من العلم ولا يفرض عليه تغطية رأسه ووجهه غصباً عنه كما يفعل مع المرأة ولا يمنع من العمل والتعليم ولا يعيش سجين بيته، لكنه بالمقابل لا مفر لديه من حمل السلاح أي الاقتتال والقتال.. لا مفر لديه من الحرب وموقعه فيها هو أن يحارب ذاته. لا يملك الرجل في المجتمعات الشرقية المنكوبة حرية التفكير والتعبير والثورة على الموروث هو أيضاً سجين المجتمع والتقاليد والمفاهيم الخاطئة. ما نسميه في المجتمعات العصرية بالتجنيد الإلزامي يأخذ صفة درامية في دول الصراعات فالطفل الصغير هناك يجند ويقتل بشر ولا حق له بالطفولة كالمرأة التي تزوج طفلة هناك ويدرب على السلاح والقتل ويصبح الموت لعبة والعنف لغة تعامل مع المرأة والعالم حوله.. يستوحش بمعنى آخر يصبح حيوانياً بتعامله.
لا أبرر بهذا الكلام أي سلوك وأي ظلم يقع على المرأة ولكن لهذه الأسباب ولغيرها أرفض أن يحصر النضال الاجتماعي التنموي بالنسوية لأن النضال الأوسع للمساواة والسلام هو ذاك الذي ينصف المرأة والطفل والرجل والمجتمعات أكثر. ولا يضع المرأة والرجل في صراع.. في الواقع النضال لتوسيع مكانة المرأة واحترامها ونيل المساواة مع الرجل أي ما نسميه بالنضال النسوي هو يخدم الرجل كذلك وهو من صلب قضيته. حيث دون إعادة النظر بمكانة المرأة في المجتمعات الذكورية المشرقية لن تتطور تلك المجتمعات، ومن لا يناضل لكي تحترم جارته وأمه وأخته وزوجته وابنته ومن لا يتمرد على كل الظلم والتجاوزات التي تتعرض لها فهو غير معني بقضية التطور قط. ومن يفصل قضية الكرامة والحريات في المشرق عن قضية المرأة والأقليات مصاب بنوع من أنواع انفصام الشخصية المزمن وما أكثرهم.
لمى الأتاسي _ نورث برس