ارتبط تداول مصطلح المجتمع المدني في الفترة التي تلت تآكل الاشتراكية وظهور أجندات الليبرالية الحديثة New Liberal، والتي ترتبط بالدول الديمقراطية العصرية، التي تقوم على الحريات العامة والفردية والمساواة والحقوق والمواطنة وتداول السلطة وما إلى ذلك، مما يوصلنا إلى العدالة.
ويعتبر المجتمع المدني جزءاً من المجتمع السياسي العام، الذي ينهض بالمجتمع ويهيئه للمشاركة والتفاعل بالفضاء العام، من خلال العمل على المبادرات المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، كما تختلف النظريات في ماهية المجتمع المدني، وإذا ما كانت الأحزاب تصنف ضمن المجتمع المدني قبل وصولها للسلطة، أم لا!
لكن الأكثر وضوحاً، هو دور المجتمع المدني المنخرط في تنظيمات ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام مستقلة، إضافة إلى دور العبادة من مساجد وكنائس – في توعية المجتمع الذي يشكل أحد أركان الدولة.
في سوريا ما قبل ثورة آذار 2011، كانت تلك التنظيمات موجودة من حيث الشكل ومغيبة وفارغة من مضمونها؛ لأسباب عديدة تتعلق باحتكار السلطة من قبل الحزب الحاكم (البعث).
لكن مع انطلاق شرارة الثورة السورية وتشكيل التنسيقيات التي بدأت تأخذ شكلاً تفاعلياً على المستوى الإعلامي والسياسي، بدأت تتبلور ملامح ظهور مجتمع مدني فاعل، هدفه الفرد والدولة والمجتمع، وهو ما عبّر عنه في الشعارات والبيانات التي ظهرت منذ بدء الحراك حتى التحول نحو مرحلة عسكرة الثورة، الأمر الذي أفرز مناطق خرجت عن سلطة النظام وفرار بعض الموظفين الحكوميين من تلك المناطق والأحياء، ما دفع برواد التغيير على العمل لتغطية الفراغ الحكومي، من خلال تشكيل مجالس أحياء لتأمين المواد الأساسية كالطحين والمازوت للمخابز، والأدوية للصيدليات والمشافي الميدانية.
ثمّ تطورت الحالة نحو تشكيل مجالس محلية تقوم بدور القطاعات الخدمية، وبموازاة ذلك كان هناك نشطاء إعلاميون ينقلون معاناة الناس جراء القصف على المناطق التي خرجت عن السلطة، وآخرون يتواصلون مع منظمات ومانحين دوليين لتأمين مواد غذائية للقاطنين في مناطق سيطرة الثوار.
وفي مراحل متقدمة بدأت منظمات دولية بتدريب هؤلاء النشطاء لإتقان الأدوار التي اختاروها لأنفسهم أو التي فرضتها الحاجة، كلٌ منهم بحسب اختصاصه ما قبل الثورة، وما يملكون من مؤهلات علمية ومهنية.
ما أتينا على ذكره آنفاً، هو نتيجة حتمية لأشخاص وجدوا من الثورة فرصة للانعتاق السياسي عن النظام، والعمل على بديل يلبي طموحات المجتمع السوري بكل مكوناته ويراعي مطالب الثورة بالحرية والدولة الديمقراطية، وحقوق الإنسان التي نالت منها سلطة البعث مدة خمسة عقود، فلا حياة سياسية ولا مجتمع مدني يعبر عن آمال المجتمع، بل تغول على الدولة بكل أركانها.
في المقابل، جاء إنهاك المجتمع المدني (ثوار، رواد تغيير، نشطاء) في مصلحة النظام من ناحية ومن جهة أخرى لمصلحة المعارضة السياسية التي تشكلت وتبلورت منظومتها العملية عقب الحراك الشعبي، أي أفرزتها الثورة، وبالتالي كان يفترض بها (المعارضة) أن تكون حاملاً وطنياً لمطالب من انشغل بتأمين احتياجات الناس، وليس امتطاء حصان مآثرهم، والسير بعكس مطالب السوريين التي تنادي بالخلاص من الاستبداد ودولة الخنق والتعسف.
اليوم، المجتمع المدني الممثل بالمنظمات والهيئات ذات الهيكليات المؤسسية والدعم المادي المتواصل، عليه مسؤولية المرحلة الأهم، وهي التوعية والتنمية السياسية، والتي من خلالها يمكن للنشطاء أن يكون لهم دور في المستقبل السياسي لسوريا، وبالوقت نفسه فهم ما يجري على مستوى الإقليم والساحة الدولية من متغيرات، وكيف يمكن لهم أن يقاطعوها مع مصلحة بلدهم ومطالبهم بالتغيير المنشود.
ومما يجب استيعابه، أن الأحزاب السياسية جزء من الحراك الديمقراطي الذي ينتج حالة وطنية، بعيداً عن التشكيلات المجتمعية الجهوية التي تؤدي لأغراض فئوية ضيقة ليست لمصالح شرائح واسعة من المجتمع السوري.
كما تؤدي البرامج السياسية إلى مراعاة مصالح السوريين، وما خرجوا من أجله، فالمجتمع المدني جزء من الفواعل السياسية التي عمِلت على التغيير في مناطق واسعة من العالم، وذلك في الأزمنة والأمكنة التي لا تبعد عن محيطنا القاري كثيراً، كأوروبا الشرقية والمجر على سبيل المثال.
ونحن نعيش في طفرة العولمة والثورة الرقمية، حيث كل شيء متاح من تدريبات وورشات عمل وحلقات حوار تفاعلي.
لذا، يتوجب الاستفادة من هذه الطفرة والاستثمار فيها إلى أقصى حد ممكن، وإلا سنبقى نحارب طواحين الهواء دون أي فائدة تعود على سوريا والسوريين.
درويش خليفة _ الطريق