بدأت قيمة الليرة السورية بالانخفاض أمام الدولار الأمريكي، منذ آذار الماضي، لتتجاوز قيمة حافظت عليها لمدة لم تقل عن ثمانية أشهر تراوحت بين 3500 و3600 للدولار الواحد.
خلال الأشهر الأخيرة، انخفضت قيمة الليرة لتكسر حاجز أربعة آلاف ليرة سورية، منتصف تموز الماضي، وتصل إلى 4500 ليرة للدولار الواحد منتصف آب الحالي.
ووسط ضبط مصرف سوريا المركزي قيمة الليرة سابقًا بسلطات أمنية أكثر من التحركات الاقتصادية، برر المصرف الانخفاض الأخير في قيمة الليرة بالمضاربة على سعر الصرف، متوعدًا المضاربين بـ”وضع حد لهم”.
لماذا تنخفض قيمة الليرة؟
تشير الظروف الحالية المختلفة سواء السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية التي تعيشها سوريا، إلى أن الاتجاه الطبيعي لليرة السورية حاليًا هو التدهور، بحسب ما يراه الباحث الاقتصادي زكي محشي، في حديث إلى عنب بلدي.
وأوضح الباحث أن اتجاهها إلى التدهور مدفوع بعدة عوامل تراكمت خلال السنوات الماضية، مضيفًا أن العامل الأول والأهم الذي يؤدي إلى انهيار قيمة العملة يتعلق بتوقف الإنتاج المحلي، نتيجة لعدة ظروف منها دمار البنية التحتية، وتخريب المنشآت، والفساد، والإتاوات التي تُفرض على الناس، وهروب رأس المال.
بينما تتمثّل العوامل الأخرى بالعقوبات المفروضة على النظام السوري، وما يرافقها من صعوبات في التعامل مع العالم الخارجي من ناحية التجارة الخارجية للتجار الموجودين داخل سوريا.
كما يعتبر الاعتماد على الاستيراد بشكل رئيس عاملًا يزيد من أعباء الليرة السورية حاليًا ومستقبلًا، إذ يكون جزء من الاستيراد، خاصة المشتقات النفطية القادمة من إيران، مدفوعًا بشكل آجل، بحسب الباحث زكي محشي.
وأكّد الباحث أن المضاربة على الليرة السورية أيضًا عامل مهم، إذ يستفيد كثير من الأشخاص المقربين والمحسوبين على النظام، بالإضافة إلى سياسات المصرف المركزي، خصوصًا في المراحل الأولى من أزمة الليرة، من المضاربة على الليرة عبر فتح مزادات لبيع الدولار.
لماذا تستقر الليرة “مؤقتًا”
منذ عام 2011، بدأ مسلسل انخفاض قيمة الليرة السورية، لتستقر في مراحل زمنية عديدة عند قيمة معيّنة، تعود لتهبط بعدها بنحو الضعف أو أضعاف القيمة أحيانًا.
وكانت آخر فترة استقرار سجلتها في نيسان 2021، وذلك لمدة ثمانية أشهر تقريبًا تراوحت قيمتها بين 3500 و3600 ليرة للدولار الواحد، وذلك بعد أن لامست خلال الأشهر الأربعة الأولى حاجز خمسة آلاف ليرة مقابل الدولار.
الباحث الاقتصادي زكي محشي، فسّر حالة الاستقرار التي تشهدها قيمة الليرة بين فترة وأخرى، بارتباطها بعدة عوامل، من أبرزها السياسات النقدية التي يتبعها مصرف سوريا المركزي كونه متحكمًا بالعملة المحلية، والمتمثلة بضبط السيولة ومنع سحب الأموال بالليرة للحد من تذبذب أسعار الصرف.
وأضاف الباحث أن سياسات المركزي الأخرى المتعلقة بالتعامل مع مكاتب الصرافة ودعمها لشراء الدولار بسعر قريب من سعر السوق السوداء، تسهم أيضًا بخلق استقرار مؤقت في سعر الصرف، بالإضافة إلى العامل الأمني المتمثل بإجراء حملات أمنية واعتقالات عشوائية والدعاية التي تصدرها وسائل الإعلام لضبط سعر الصرف أمنيًا.
كما تعتبر التحويلات المالية القادمة إلى سوريا، إما للعائلات وإما عبر المنظمات الدولية، من العوامل المهمة لاستقرار الليرة “المؤقت”، بحسب الباحث زكي محشي.
لا أدوات اقتصادية جديدة لدى “المركزي”
اتهم مصرف سوريا المركزي التجار وصرافي السوق السوداء بالمضاربة على سعر صرف الدولار، على لسان مصدر فيه لم يذكر اسمه، تحدث إلى صحيفة “الوطن” المحلية، في 17 من آب الحالي.
واعتبر المصدر أن مطالب التجار بتمويل “المركزي” لمستورداتهم “وسط وجود ما يكفي من حاجة الأسواق الأساسية”، هو ما يضغط على الليرة، مطالبًا إياهم بأن يكونوا شركاء في “دعم عملتهم الوطنية، والاكتفاء بما تحتاج إليه السوق من مواد، والاستيراد بحسب حاجة المستهلك الفعلية، لا بحسب رغبتهم بمزيد من الأرباح”.
المضاربة على العملة هي صيغة تبادل، تجري في سوق تداول العملات، وليس لها أي علاقة بحركة المبادلات التجارية (بضائع وخدمات).
تندرج في تفاصيل المضاربة عمليات شراء عملة محددة، مع نية بيعها مجددًا في وقت مناسب تكون فيه قيمة العملة المشتراة مرتفعة، ما يحقق ربحًا سريعًا لصاحبها.
ولا تقتصر عملية المضاربة على العملات فحسب، بل تصل إلى حدود العقارات والعقود الآجلة والمشتقات المالية.
من جهته، أوضح الباحث الاقتصادي زكي محشي، أن المصرف المركزي لا يملك أدوات اقتصادية جديدة من شأنها إيقاف تدهور الليرة بشكل كامل، إنما قد يستطيع الحفاظ على سعرها الحالي “مؤقتًا” بالأدوات النقدية التقليدية التي يمارسها، كوقف السيولة، والمراقبة الشديدة على التعامل بالعملات الأجنبية، وتسهيل وصول الحوالات لتغذية الخزينة بالعملة الأجنبية.
كما تعتبر الأداة الأمنية أداة النظام الرئيسة للسيطرة على سعر الصرف، لكنها أساسًا أداة مخترقة وفاسدة، ما يؤكد وجود تعاون بين المضاربين ورجال الأمن وأصحاب الأعمال، الذين يصوّرهم النظام على أنهم داعمون لليرة، ولكنهم في الواقع مضاربون ومستفيدون من انهيار قيمتها.
ما مستقبل الليرة
قال تقرير لصحيفة “البعث” الحكومية، مطلع الأسبوع الماضي، بعنوان “لصوص الصرف“، إن الإجراءات الإدارية التي يتخذها مصرف سوريا المركزي غير قادرة على ضبط سعر الصرف، إن لم تكن قائمة بالأساس على أخرى اقتصادية يتصدّرها “الإنتاج”.
واعتبر التقرير أن الإجراءات الإدارية المتمثلة “بالتلويح بعصا العقوبات لمن يتلاعب بسعر الصرف من المضاربين الكبار قبل الصغار”، ضرورة في هذه المرحلة، إذ يمكن اعتبارها بمنزلة مرحلة “مخاض إنتاج”، لكن متابعة صغار المضاربين فقط، وهو ما يجري حاليًا، هو سبب التذبذب المتكرر بسعر الصرف.
من جهته، أكد الباحث الاقتصادي زكي محشي، أنه ما لم يحدث أي تغيير جوهري وصريح في العوامل المذكورة سابقًا والتي تؤدي إلى انخفاض قيمة الليرة، كإصلاح اقتصادي جذري وإصلاح سياسي، وما يتبعه من دخول الاستثمارات الأجنبية، فإن مستقبل الليرة السورية إلى المزيد من التدهور حتمًا.
جنى العيسى _ عنب بلدي