الكاتب الروائي والسياسي: عقاب يحيى _ سيريا برس
ليس دفقاً عاطفياً، أو تعبيراً أدبياً قولنا أن الشعب السوري بأغلبيته الساحقة رضع حليب فلسطين من أمهاتنا، وتعلّق بها قضية أولى له، وهي حقيقة تكتسي أبعادها النفسية والسياسية والوطنية والقومية .
ـ تعبير فلسطين بالقلب عن السوري ليس مجازياً وإنما ارتبط بالانتماء وبوعي أهمية وموقع فلسطين فيه، وفي الوطن العربي، فهي في التاريخ والجغرافيا والوقائع جزء صميمي من بلاد الشام التي ظلّت موحدة على مدى القرون فاختلطت العائلات والعلاقات بما يصعب فصمها رغم مما عرفته فلسطين من تعقيدات، وتآمر، ومحاولات اغتصاب تتجاوز الاغتصاب الصهيوني إلى غيره، بما في ذلك نزعها من جوهر موقعها، ودورها .
ـ فلسطين كانت الحاضر الأكبر والأقوى في الحياة السياسية السورية منذ أن قام بلفور بوعده المشؤوم، ثم انكشاف “مؤامرة سايكس ـ بيكو” بتواطؤ انكلترا وفرنسا لجعلها ” الوطن القومي لليهود” فكان ذلك زلزالاً سورياً شاملاً قوّض المألوف ووضع القضية في أول أولويات واهتمامات السوري، وتشكّلت أحزاب، وانتشرت أخرى برايات فلسطين وتحريرها والموقف منها، بينما اندثرت أخرى لتخاذلها، أو مواقفها الضعيفة والخاطئة .
ـ حينما وقعت نكبة فلسطين 1948 كان أثرها كبيراً في سورية إن كان ذلك من خلال سلسلة الانقلابات العسكرية التي كانت تضع في صدر بيان رقم واحد لها تحرير فلسطين، أو بتوسيع الجيش السوري أضعافاً ونتائج ذلك على الحياة السورية بتدخّل الجيش القوي فيها وما حمله ذلك من نتائج ما تزال سورية تعاني آثاره حتى اليوم .
ـ منذ الأشهر الأولى للنكبة ووصول أعداد من اللاجئين إلى سورية صدرت تباعاً مجموعة من القوانين التي تنظم حياتهم وحقوقهم، وكان أشهرها القانون 260 الصادر عام 1956 الذي ساوى تماماً الفلسطينيين بالسوريين ومنحهم كافة الحقوق سوى حق الترشّح والانتخاب وحق الاحتفاظ بجنسيتهم وكان السبب أن تبقى الجنسية الفلسطينية حيّة فلا تتعرّض للتغيير .
ـ اندمج الفلسطينيون بالمجتمع السوري تماماً، وأسهموا في كافة شؤونه ومجالاة العمل والحياة فيه، وبرز العديد منهم في الثقافة والأدب والفن والاقتصاد وفي التزواج والعلاقات الاجتماعية والحياة السياسية إلى درجة أن الفوارق”القطرية” وغيرها نادراً ما ظهرت، ولم يكن هناك من يفرّق بين فلسطيني وسوري .
ـ بغض النظر عن مسار حرب حزيران 1967 فقد كان دافعها الرئيس للكيان الصهيوني ضرب النظامين الوطنيين في مصر وسورية لمواقفهما من القضية الفلسطينية، لذلك جاء العدوان مبيّتاً، وقد حقق بنتائجه الكبيرة جملة من المهام الخطيرة، في مقدمها محاولة انتزاع الاعتراف بالكيان، وإبعاد القضية الفلسطينية عن موقعها المركزي باعتبارها قضية العرب الأولى وإحداث بديل عبر ما يعرف ب”إزالة آثار العدوان” والتعامل معها كقضية لاجئين، كما نص على ذلك القرار /242/ الصادر من مجلس الأمن عقب الهزيمة، والذي رفضه النظام في سورية وكان ذلك الرفض ضمن عوامل سقوطه وقيام الطاغية الأكبر خافظ الأسد بانقلابه في تشرين الثاني 1970 .
كان الأسد مقايضاً بكل القضايا الوطنية والقومية بغية الوصول للسلطة والاستمرار فيها، لذلك أرسل مجموعة رسائل لإسرائيل والدول الغربية عن استعداده للاعتراف بالقرار /242/ وتبعاته، وتأمين حدود الكيان الصهيوني قبيل وصوله للسلطة، وكانت أحداث”أيلول الأردن” ثم الوفاة الفجائية للرئيس عبد الناصر بمثابة الضور الأخضر للانقضاض على السلطة بانقلاب مشبوه ما زالت سورية وفلسطين ـ بالخصوص ـ تعانيان منه ومن آثاره .
ـ لقد تكشّفت تماماً طبيعة النظام الأسدي حينما عقد تلك الصفقة المشبوهة مع أمريكا، وبموافقة إسرائيل للتدخّل في لبنان بهدف ضرب التحالف بين الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، ومحاولات الإمساك بالورقة الفلسطينية للمتاجرة واللعب بها .
ـ بالمقابل، ورغم ما وجهه النظام من ضربات مؤذية للقضية الفلسطينية، إلا أن الشعبين السوري والفلسطيني، وبنسب عالية فيهما التحما سوية لمواجهة ذلك النظام المتآمر وتجسّد ذلك في عديد الأنشطة والتحركات السياسية والمعارضة، وشبكة واسعة من العلاقات بين المثقفين السوريين والمعارضين مع الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير، وأصبح مخيّم اليرموك مأوى وملجأ آلاف السوريين المعارضين، كما التحق بالعمل الفدائي وبالفصائل الفلسطينية آلاف السوريين واندمجوا فيها .
لذلك لم يكن مستغرباً أن يلتحق، وينضمّ جلّ الفلسطينيين السوريين إلى الثورة السورية منذ بداياتها، وأن يقدّم الآلاف منهم مختلف التضحيات، وأن يكون أول شهيد في مخيّم اليرموك فلسطيني عبر المواجهات التي كانت تحدث بين الثورة والنظام، وأن ينشقّ عدد مهم من ضباط وجنود ” جيش التحرير الفلسطيني” إلى الثورة، وينخرط الآلاف في الجيش الحر، وأعمال الطبابة والتمريض والإغاثة وإيواء النازحين السوريين حيث تعانق الهمّ السوري بالفلسطيني، وقد عانى الفلسطينيون معاناة مركّبة تفوق ببعض وجوهها معاناة السوري، خاصة عبر محاولات النظام تشويه النضال الفلسطيني وموقفه من الثورة بإنشاء ما يعرف ب”لواء القدس”، أو من خلال مشاركة بعض التنظيمات التابعة للنظام في الحرب ضد الشعب، كالجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، وبعض الشبيحة المرتبطين بأجهزة المخابرات
ـ يجب أن نعترف أنه ومن خلال تعقّد الوضع السوري، وإطالة زمن الأزمة السورية الطاحنة وحرب الإبادة والتدمير والتهجير، وتقديم أكثر من مليون شهيد، وانسداد الأفق أمام مخرج سياسي يحقق مطالب الثورة في إنهاء نظام الاستبداد والفئوية والفساد ويقيم النظام الديمقراطي، التعددي .. حدث إهمال كبير في التعامل مع الأخوة الفلسطينيين الذين وقفوا مع الثورة وضحّوا بالكثير لأجلها، وهناك جهل لدى عديدين من السوريين بدورهم وتاريخهم وعلاقاتهم بالشعب السوري ووقوفهم معنا في الخندق الواحد، كما ترتفع أصوات ـ متفرقة ـ عن حصر الاهتمام، أو الانشغال بالهمّ السوري وحده من منطلق” سوري بحت”، وأن ما لدينا يكفينا.. يشمل ذلك الموقف مما تتعرّض له القضية الفلسطينية من تآمر ومحاولات تصفية عبر ما يعرف بصفقة القرن وتوابعها في “اتفاقات” التطبيع والشراكة مع العدو الإسرائيلي، وينسحب الأمر أيضاً على العلاقة مع الفلسطينيين السوريين الذين شاركونا المحنة والهدف وتُركوا وحدهم يعانون اللجوء والهجرة والاعتقال والتصفيات .
ـ ورغم أكوام الانهيارات في المنظومة العربية الحاكمة ستبقى فلسطين في وعي وإيمان السوري قضية مصيرية ترتبط بتحرره ونضاله المشترك، كما سيظلّ الفلسطينيون السوريون أشقاء، وجزءاً منّا، وواجبهم علينا أن ننهض بمسؤولياتنا إزاءهم وتقاسم العمل والهمّ والحلم الموحد ..
ـ الائتلاف مطالب، باعتباره ممثل الشعب السوري، أن يأخذ مطالب الفلسطينيين السوريين بعين الاعتبار، وأن يضعها على جدول أعماله، وأن يصحح علاقاته بهم وضمان مساهمتهم في مختلف أنواع الحراك الثوري والسياسي، وفي المؤسسات المعنية، وبشكل خاص العمل على إعادة هيئة اللاجئين الفلسطينيين كدائرة خاصة في الحكومة السورية المؤقتة، والاهتمام بأوضاع المهجرّين منهم فلي الشمال اسوة ببقية السوريين، وتفعيل العلاقة معهم وفق صيغ واقعية تجعلها مستمرة ومثمرة .
الكاتب الروائي والسياسي: عقاب يحيى _ سيريا برس