في كثير من الأحيان يريد سوريون أن يشعروا أن الأوكرانيين يحاربون بالنيابة عنهم، وخاصة عندما يطول القتل أو الأسر ضباطاً من الروس سبق أن عملوا في سوريا، أو حين تنتشر مقاطع تدمير دبابات وقصف أرتال لهم مسبوقة بجملة “متّع ناظريك” التي تبدو وريثة عبارة “اسمع وكبّر يا بطل”، التي شاعت خلال مواكبة الأخبار العسكرية للثورة السورية.
في تفسير ما يحققه الأوكرانيون من صمود، يكاد يشبه النصر، لدى السوريين المناهضين للأسد عامل موحد هو الضخ المفتوح للمساعدات الغربية؛ العسكرية والاقتصادية والإنسانية وبشتى الأنواع. ولفهم هذه القنوات المفتوحة ثمة رأي رائج كذلك، يقوم على أن العالم يكيل بمكيالين. وأخيراً، لتحليل سبب اختلاف المكاييل يسود القول إن الغرب “منافق”.
في “تحليلنا” يبدو التناقض غير قابل للحل بين دعوى الغرب أنه يؤمن بالحرية وبحقوق الشعوب والإنسان، وبين أن الدول “ليست جمعيات خيرية” كما تقول جملة قليلة الذكاء شديدة الذيوع. ففي عُرف بعضنا يجب على الدول الغربية أن تسارع إلى نجدة أي انتفاضة شعبية ضد الديكتاتوريات في العالم، بكل ما أوتيت من قوة ودون حساب للعواقب ولا للكلفة. وإذا كانت هذه الدول قد “زعمت” صداقتها لثورة الشعب السوري فقد كان عليها دعمها بمثل ما تفعل الآن تجاه أوكرانيا.
يُغفل هذا اللوم فوارق جوهرية بين الحالتين لأنه لا يريد أن يراها، فمن الواضح أن أوكرانيا تخوض المعركتين معاً؛ معركة الحرية ضد نظام طغياني يحاول إخضاعها واقتطاع أجزاء من أراضيها، ومعركة الغرب ضد معسكر الشر/الشرق الذي يقوده بوتين في استعادة عسكرية وجيو إستراتيجية وقيمية، للحرب الباردة بعقلية أكثر تخلفاً.
ازدواج الحرب واضح لجميع الأطراف، وما مسارعة أوكرانيا إلى طلب الانضمام للناتو سوى عنوان عريض له. أما نحن فقد دأبنا على إرسال إشارات مقلقة للعالم، وما نزال، منذ أن امتلكنا قوة عسكرية ذاتية وازنة في منتصف 2012. وقد فشلت محاولات التوصل إلى اتفاق مطمئن لأصدقاء الثورة الديمقراطيين لضمان قيام نظام حكم ديمقراطي في المستقبل وسلوكه داخلياً وعلاقاته الخارجية.
وحين كان التفاهم ينجح مع قيادات سياسية أو فصائل عسكرية كان هناك على الدوام من هو مستعد لتخريب ما تم التوصل إليه والانقلاب على ممثليه بدعوى أنهم لا يملكون القرار على الأرض، وكانوا غالباً كذلك بالفعل. وفي مقابل هذه الفوضى الهائلة التي أنتجت أكثر من 1000 فصيل، وعشرات الهيئات السياسية، وائتلافاً ينخره التناحر ويتناهبه العجز؛ يبدو العنوان الأوكراني واضحاً في حكومة شرعية تدافع عن بلدها بكل ما تستطيع، بما يتضمنه ذلك من قوات مسلحة نظامية تعمل بتراتبية هرمية تحدد المسؤوليات عن الأسلحة القادمة من الغرب والأيدي التي تستخدمها.
ونعرف جميعاً أننا لم نمتلك هذا؛ فلا احترام لمجلس عسكري أو هيئة أركان أو وزارة دفاع إلا بمقدار ما توزّع من أسلحة وذخائر ورواتب. وبعد ذلك يشعر قائد الفصيل أنه حر في فتح المعارك التي يقدّر أهميتها دون خبرة عسكرية تُذكر، والشعارات والأعلام التي يرفعها، والشراكات الميدانية التي تجاوزت جبهة النصرة إلى داعش في بعض الأحيان.
دون أن ننسى الحصة المحددة للقوى الإسلامية، طوعاً أو بالإكراه، في ما كان يصل إلى سواها من الفصائل المنضوية تحت مجالس تتلقى الدعم بشكل مشروع. فقد حصل الجهاديون، وهم آنذاك في ذروة شعاراتهم المناهضة للغرب، على أسلحة مدفوعة الثمن من هذا الغرب نفسه؛ بالتواطؤ الأخوي الخفي أو بالبيعات السرية أو بالاستيلاء عنوة أو بالشراء. ومن المعروف أن هذه الأخبار تصل بشكل عاجل، وأن شحنات العتاد ليست راتباً تقاعدياً مستداماً ولا شيكاً على بياض، بل إن قرار القادم منها مرتبط بمصير الشحنة السابقة ومآلاتها.
كما أن هناك فارقاً مهماً بات يجرح شعور السوريين اليوم، لأنهم سمعوه مراراً في بعض دول لجوئهم، وهو أن الأوكرانيين عمدوا إلى إجلاء النساء والأطفال وكبار السن من البلاد، محافظين على الرجال في عمر القتال ليشاركوا في الحرب. وقد أثمر حشد الطاقات البشرية في استغناء كييف عن طلب التدخل المباشر لقوات خارجية، مما كان سيعقد المشهد ويرفع سوية المواجهة ويركّز أعين حكومات الدول المتدخلة ومعارضتها وشعوبها على عدّاد قتلاها مما يشكّل عامل ضغط مؤثر.
وفي حين أن بعض السوريين أُخرِجوا من ديارهم مكرهين، عاجزين عن مواصلة المعركة، فمن الواضح أن أفواجاً من اللاجئين عبرت الحدود واجتازت البحر مستغلة الظرف لتحقيق حلم عتيق، شرقي وجنوبي، بالعيش في الغرب على المساعدات وتغذية الشعور بمعاداته داخل المنزل وفي نفوس الأبناء.
لقد اعتاد العالم على المقتلة السورية بعد هذه السنين. هذا سيئ بلا شك، لكنه يجب أن لا يُنسينا أن من نتائجه أنه صار في وسع من احتضنونا، بلهفة صادقة في البداية، أن يفكروا في أحوالنا بعقل بارد هذه الأيام. ودون تكاذب نحن أعرف الناس أن بيتنا الداخلي، النفسي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي، لا يسرّ الصديق، ويمنح اليمينيين والعنصريين في كل مكان حججاً تكفي وزيادة!
ومن المؤسف أن ردة فعلنا على ذلك هي مزيج غريب من لوم الآخر والقنوط العدمي من إصلاح الذات. تنتشر المخدرات في مجتمعاتنا المختلفة ويتراجع التعليم وتتفاقم الخلافات، فإن تبرّم منا بلد الاستضافة المؤقتة/المديدة انتقلنا إلى صورة مضخّمة عن أنفسنا نبارز بها عالماً لا يسير وفق قصائد الفخر.
المقارنة الأوكرانية فرصة كبيرة لإجراء كشف حساب دقيق مع ماضينا القريب والمستمر في حاضرنا. غير أننا نعرف أننا سنأخذ كتابنا البائس في شمالنا، ولذلك نفضّل تجاهله والبقاء في غيّنا سادرين.
حسام جزماتي _ تلفزيون سوريا