“صديقاتي في بعض المحافظات الأخرى يصلن إلى سن الثلاثين ولا يُطلق عليهن هذا اللقب، أمّا أنا فالجميع يدعونني بالعانس التي تجاوزت سن الزواج.” تقول لنا ربا، الفتاة الثلاثينيّة ابنة ريف درعا الغربي.
معظم المصطلحات والمسميات التي تواجه النساء على اختلاف أوضاعهن، تبدو ملازمة لرحلة حياة المرأة لتُعطّل عملها وتطورها، وتقّلل من فرصها في النجاة من هذه الحدود التي رسمها المجتمع وأطّرها لها وسجنها داخلها، والتي قد تكون حدودًا مرهقة ومميتة.
تواجه النساء تحديات مستمرة، وأنواع كثيرة من العنف المباشر وغير المباشر، كالعنف الجسدي والاعتداء الجنسي والتحرش والاعتداء اللفظي، ومن أنواع الاعتداء اللفظي المختلفة ألقاب ومصطلحات تؤطر دور المرأة وتحدّد ما يمكنها أن تقوم به ونمط السلوك المتوقع منها.
تصبح هذه التحديات عقبة تمنع بعض النساء من تحقيق أهدافهن المستقبليّة، فالتحرّر من هذه القيود، يبدو وكأنّه بحاجة لاجتهاد و تمكين أكثر ممّا يحتاج تحقيق الأحلام الشخصيّة والعاطفيّة والمهنيّة في الحياة. وهذا يجعل من طريق المرأة طريق كفاح مستمر في مواجهة المفاهيم السائدة والموروثات والأفكار البالية التي كانت وما زالت مسيطرة على تفكير غالبيّة أفراد المجتمع رجالًا أو نساء، من أجل حصولها على أبسط الحريّات.
عن العنوسة كمصطلح صنعه المجتمع
لو ألقينا نظرة على معظم المصطلحات السائدة لوجدناها خاصة بالمرأة فقط، تتحكم بها وبمصيرها وبتعريفها في المجتمع، كمثال على ذلك كلمات “مُطلقة” أو “عانس” أو “أرملة” والتي تحمل تضمينات سلبيّة عندما تتعلق بالنساء، أو حتى مصطلح “سن اليأس” الذي ينطبق استخدامه على المرأة دون الرجل ويُستعمل كنوع من التمييز. تُعتبر هذه المصطلحات انتقاصًا من قيمة المرأة وتعطي تفضيلًا وقبولًا أكبر للرجل، أو حتى أنّها تخلق تمييزًا بين فتاة وأُخرى بناء على ما يُستخدم منها.
هذه الكلمة تحمل في طياتها الكثير من التجريح والاضطهاد للمرأة وتجعلها تعيش في ذنب لم تقترفه، حيث لا يستثني هذا اللفظ أيّ امرأة، وإن كانت قد قامت بخدمة المجتمع، وإن كانت قد حققت ذاتها على جميع الأصعدة، أو حتى تلك إن اختارت أن تكون عازبة كرغبة أساسيّة في نفسها أو رغبة منها في إعالة أسرتها، فيلاحقها هذا المصطلح ويفرض ثقله على حياتها ووضعها وتقبّل المجتمع لها. حيث لا يتوقف الانتقاد والحسرة والدعاء لها بأن تكون متزوجة لتنتهي من عذابها. لكن من قال إنّها في الواقع مُعذّبة؟
تقول ندى، المعلّمة التي تقارب الخمسين من عمرها وتعيش في ريف درعا، إنّ هذه الكلمات “تشغل تفكيري فأحزن وأنطوي على نفسي وأعيش لحظات مؤلمة بيني وبين نفسي، لكنني أعود وأنتفض على نفسي وأحترم اختياري وأخرج من هذا كلّه من خلال كتابة خاطرة تدور في ذهني”.
نساء تروين
تختلف نظرة المجتمع للفتاة التي تأخرت في الزواج من شخص لآخر، ويرجع ذلك إلى طبيعة المجتمع الذكوري الذي ينظر إلى المرأة بوجهات نظر غير منصفة، عكس ما يعتقد البعض حيث يعزو بعض الناشطين والمختصين الاجتماعيين سبب ذلك إلى الوضع الاقتصادي لبعض العائلات. لكن البحث والسؤال يوضح أنّ هذه المشكلة المجتمعيّة وبعض المصطلحات التمييزيّة السائدة متجذرة وموجودة بشكل كبير بغضّ النظر عن المستوى المادي أو البيئة التي تنحدر منها النساء، رغم أنّها قد تبدو أعنف في بعض المناطق.
تبدأ ربا قصتها بمرض أمها المفاجئ الذي أرقدها الفراش، ممّا اضطرها لترك دراستها في كليّة الهندسة الزراعيّة في السنة الثالثة، فهي البنت الوحيدة ضمن العائلة، ويتعيّن عليها التفرغ لمساندة أمها.
“توقف بي الزمن هنا وتوقفت حياتي بمرض والدتي فصرتُ حبيسة المنزل كجليسة ومُمرضة لها، أصبحتُ كالمنبه أصحو على موعد الدواء وعلى صوت أنينها، وأنام مع موعد نومها، وكأنّ لدي طفلة صغيرة، وقد برمجت حياتي على هذا الأساس، أتقنت مهمتي الجديدة وأحببتها بسبب حبّي لأمي وأصبحت أجيد استقبال الضيوف وأدبر المنزل بشكل جيد فأصبحت سيدة البيت الصغيرة.” تقول ربا.
“تقدم لي بعض الشباب لكن تمّ الرفض من قبل والدي وإخوتي دون الرجوع إليّ. مع الوقت ازداد وضع والدتي الصحي سوءًا إلى أن توفيت. لقد كان رحيلها صعبًا عليّ للغاية، وبعد رحيلها، وبالإضافة إلى حزني الشديد، بدأت أرى نظرات الشفقة في عيون الجميع وأسمع كلمات مواسية في ظاهرها وواخزة بمعناها كقولهم: «بقيت وحيدة، لا زوج ولا ولد… يا حرام»، «لو تزوجت لكان أولادها بطولها الآن»، وكم كان صعبًا على فتاة مثلي تصحو لتجد نفسها أمام كلّ هذه التعليقات الساخرة والمستفزة أو بعض التصرفات المنفرة، كتقدّم المسن ليتزوجني من أجل أن يجدّد أيام شبابه أو مواجهة نظرات الكهول وبعض الكلمات الجارحة التي تشعرني وكأنّني سهلة المنال ولقمة سائغة، ولكن هذا كله لا يوازي الألم الذي واجهته عندما قامت بعض الصديقات المقرّبات إلي من قطع علاقاتهن بي خوفًا على أزواجهن مني.” تتابع ربا القول. لكنّها وعلى الرغم من كلّ الكلمات والتجريح والإهانات راضية عن نفسها، فهي لا ترغب بزوج من أجل خدمته، أو زواج قائم على مصلحة ما، لأنّها قد قرّرت أن تعيش لنفسها وأن تتعمل في زراعة الورود، تلك المهنة التي تُحبّها، “فلتخبئ النساء أزواجهن عني وليتحدث الجميع كما يريد، أنا اليوم ملكة نفسي”.
كذلك تقاوم ندى العادات الاجتماعيّة وتقول لنا إنّها قرّرت الخروج من خجلها وعن صمتها لتحكي قصتها بكلّ شفافيّة: “أنا أعمل مُدرسة لمادة التربية، أحبّ اختصاصي. لم أحظ بحظ وافر من الجمال في نظر المجتمع، أعيش مع والدتي في بيت العائلة، وهو بحكم العُرف يجب أن يبقى مفتوحًا للجميع في ظل وجود والدتي، فيبدو وكأنّه روضة يجتمع فيها أبناء إخوتي وأخواتي، وأنا بنظرهم/ن تلك المتفرغة التي لا مسؤوليات لديها، بل البعض يرى بأنّ من واجبي رعاية أبنائهم/ن، ولكن إذا حصل ورفضت ذلك بسبب تعبي أو انشغالاتي فأُقابل من آبائهم/أمهاتهم بالكلام السليط الجارح والذي ينبهني بأنّني ناقصة لا أطفال لدي وغير متزوجة وأنّني على الأقل يجب أن أتفرغ لخدمتهم/ن. كما أُقابل باللوم من قبل والدتي عدا عن الضحكات الصفراء التي توجه لي مع بعض الكلمات السامة كأن يقال لي: «خايفة يزعجوا جوزك وأولادك». يأتي هذا كلّه من عائلتي المقرّبة، أمّا على الصعيد الأكبر أو العائلة الأكبر فهنا يبدأ الهمز واللمز والتغامز بين النساء عليّ كأن أنعت بالغبية التي لم تعرف كيف تحظى بزوج أو بأنّني «معقدة» أو «بايرة» لم يتقدم لها أحد، أو «لو تقدم لها أحد لما وفرته»، ومن هذه الأحاديث الجارحة والتي تحمل الكثير من الاضطهاد والانتقاص، كما تحمل فكرًاً محدودًا يظن بأنّ الزواج هو أسمى هدف تحققه المرأة في حياتها”.
كلّ هذا في الدائرة الضيّقة أمّا في الشارع أو في المناسبات الإجتماعيّة وخاصة عندما ترافق أمّها، فحجم الكلمات يبدو أكبر وأصعب فالجميع “يدعو الله لسترها” والجميع يقول جملًا مثل “من جيلها لديهن أحفاد” أو “راحت عليها” أو “هرمت” وغيرها من الكلمات التي “تمزّق قلبها”، “فهل أنا ناقصة بدون زوج مع أنّني رفضت الزواج لأنّني لم أجد الزوج المناسب ممن تقدموا لخطبتي!” تقول ندى، “لم أرغب يومًا في الزواج كي أبعد عن نفسي لقب عانس، لقد آثرت العزوف عن الزواج، على أن تتعثر حياتي بزواج فاشل”.
ما زالت ندى تمارس عملها وتتمتع بحياتها واستقلالها، حسبما قالت لنا، وبإمكانها أن تُسعد صغار العائلة ووالدتها بنزهة صغيرة في سيارتها، وتستطيع أن تجتمع بصديقاتها، وأن تتابع حياتها التي اختارتها “رغمًا عن أقوال وضغط المجتمع.”
أسماء الأحمد _ حكاية ما انحكت
تم إنتاج هذه المادة خلال مرحلة المتابعة والإرشاد في برنامج “النساء والسلام والأمن”، من مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات، وبإشراف الصحفية زينة قنواتي. حُرر ونُشر بالتعاون بين حكاية ما انحكت وشبكة الصحفيات السوريات.