يسعدني أن أمهد لهذا الموضوع بقول للفيلسوف والمفكر والأديب الفرنسي فولتير: “إن تقدم العقل بطيء بينما جذورُ الأفكار الفاسدة ضاربة في العمق”. نعم إن تغيير المفاهيم الموروثة وما يتعلق بالعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية أمر شديد الصعوبة، وتغيير قناعات عقلية كان مقتنع بصحتها لأمر أكثر صعوبة، فما رأيك إذا كان الأمر متعلقاً بالأسطورة المتوارثة أو الدين أو الشريعة أو العقيدة، أي بما هو مقدس بالنسبة للإنسان، فالقداسة تلك تمنعه من التفكير بصحة هذه المقدسات، ولا يمكن العمل على تغييرها؛ ولكن الإنسان بعقله أيضاً كأداة رئيسية للمعرفة والبحث عن الحقيقة؛ تجعله دائماً في حالة من الشك، وفي رغبة بالتغيير والتطور، كما أن التطور والتغيير حالة طبيعية في الطبيعة والمجتمع حيث أن من طبيعتهما الجوهرية الحركة وعدم السكون أي في سيرورة دائمة.
ويسعدني أيضاً أن تعرف قناعتي دون أن أفرضها عليك، ولا أعتبرها كاملة غير منقوصة، وليست بعيدة عن النقد، أرى أن المرأةَ كائن إنساني لا يقل أهمية عن الرجل في فعل الحياة وديمومتها للجنسِ البشري، ولا أرى مسوغاً عقلياً واحداً لتعطيل نصف المجتمع عن أداء دوره المفترض في الحياة، والاختلافات البيولوجية والنفسية وما فرضته الطبيعة على الجنسين لم تعد مبرراتٍ كافية وليست مقنعةً للحط من قدر المرأةِ وشأنِها وأهمية دورها.
كلنا يعلمُ أن المجتمعَ الذكوري بفعل التربية الاجتماعية الخاطئة ولأسباب متعددة كرس قيمَ الموروثِ التاريخي وأعرافَه في ذهن المجتمع. وانسحبَ في اللاوعي، سواء الوعي الفردي أو الوعي الجمعي، أي وعي الفرد ووعي الجماعة (المجتمع)، من هنا تكمن مسؤولية المثقفين والباحثين والفلاسفة ورجال العلم والمعرفة بتغيير حالة الوعي ونقلها لدرجة أعلى وأكثر إنسانية وأكثر حضارة.
فعلى منتجي الثقافة أن يُشكلَ انتاجهم منظومة وعي جديدة، وعي يتجاوزُ حالة التخلف ويُحارب تكريس المفاهيم التي لا تليق بإنسانية الإنسان ذكراً كان أو أنثى.
أعتقد أن هذه المجتمعات المحكومة بالأعراف الموروثة المتعلقة بالمرأة تُعاني حالة الانفصام في اللاوعي الذي يعيشُه الفردُ، فالفرد يعاني من الكبت الجنسي المشوه لأعماق الذات والممزِق للشخصية فيدخل الفرد في حالة الانفصام، يتجلى ذلك بسعيه لتفريغ نزعاته الغريزية هذه بأشكال مختلفة ومتعددة كالتحرش الجنسي بالمرأة، أو التغزل بها شعراً ونثراً أو مقايضة جسدها بالمال، ويحط من قدرها وشأنها الاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى وبالوقت نفسه يتغنى ويفتخر بأنها شرفه وكرامته وعرضه ووووو.
سؤال يجب أن نفكر فيه: هل القناعة المزيفة والخاطئة والكاذبة القائلة بدونية جنس النساء، وأفضلية جنس الرجال، اقترنت بخلق الإنسان أم أنها نشأت في لحظة تاريخية لاحقة على خلق الإنسان؟ سؤال على درجة من الأهمية يتطلب بحث علمي وتاريخي للإجابة عليه.
وقبل الإجابة على هذا السؤال لابد من الإجابة على سؤال يساعد بالإجابة على السؤال السابق وله أهمية في البحث والتقصي من أجل الوقوف على الحقيقة حقيقة هذا الأمر:
من أين جاءت هذه القناعة؟
يوجد في موروثنا الثقافي المعرفي الإنساني اتجاهان: الأول يؤكد دونية المرأة خَلقْاً، أي من طبيعة الخَلْق، وقد ساهم في ذلك الدين والأسطورة. والثاني يؤكد أن فكرة دونية المرأة نشأت في لحظة تاريخية يسميها بعضهم لحظة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة؛ لكن الذي بقي مسيطراً على مفاهيمنا ومستوى وعينا هي الفكرة الأولى والتي أخذت تزداد عمقاً ورسوخاً في الذهنية البشرية، وهو ما أغرى الكثيرين، ومنهم الفلاسفة ورجال الدين بتأكيدها وترسيخها في وعي الفرد والمجتمع. وأعتقد أن ذلك مرتبط بتطور المجتمع الطبقي وظهور الملكية الخاصة، والعلاقة طرداً بين الاغتراب الثقافي ورسوخ القناعة القائلة بدونية المرأة وخضوعها للرجل، فكلما زاد الاغتراب ترسخت تلك القناعة، والعكس صحيح. هذا الاغتراب يعيشه الرجل والمرأة وليس خاصاً بأحدهما دون الآخر. لذلك تحرر المرأة مرتبط بتحرر الرجل، وكلاهما مرتبط بتحرر المجتمعمن العبودية والاستغلال والاضطهاد، وتقدمه الفعلي بجميع جوانبه ومقومات تطوره السياسية والاقتصادية والثقافية وتحقيق الديمقراطية والعدالة”… إلخ، لذلك من المألوف أن نجد في المجتمعات الموغلة في الاغتراب امرأة تدافع عن دونيتها، وتباهى بخضوعها للرجل، وتعمل على تلقين صغارها، إناثاً كانوا أم ذكوراً، هذه القناعة.
قبل ما سُمي بالهزيمة التاريخية للمرأة كانت تعيش سيدة في جماعتها (الجماعة التي هي عضو فيها)، وعائلتها وأسرتها تلك المرحلة تسمى بعصر نظام الأمومة، كان الرجل مهمته الصيد البري والبحري والتقاط الثمار، وكانت المرأة تهتم بتغذية ذريتها وتتعهد بالحماية وتعالج الأمراض وهي مسئولة عن الحفاظ على النوع البشري، وهي التي تفكر بالطبيعة وتحاول فك الغازها، وتبادر لإيجاد الحلول المناسبة، فاستحقت من الرجل الاحترام والتبجيل والانصياع لأوامرها، وفوق كل ذلك كانت المرأة هي الإلهة المسؤولة عن التناسل والخصب، والمتميزة بالذكاء.
باكتشاف النحاس والحديد والبرونز وصناعة الأسلحة والأدوات المعدنية ونشوء الصراعات، وظهور الملكية الخاصة والانقسام الطبقي، وتراكم الثروة في الأسرة بدأ الرجل يعمل على تقليص سلطة المرأة، وبدأ الصراع بين الذكورة (الرجل) والأنوثة (المرأة) والتي كانت الغلبة بنتيجتها للرجل، واستمر العمل على سلبها مركزها الاجتماعي والاقتصادي فترتب على ذلك هزائم أخرى كثيرة، ومنذ ذلك الوقت وعبر أنظمة العبودية والإقطاع والرأسمالية تعاني المرأة من اضطهاد مزدوج، اضطهاد طبقي (اجتماعي، اقتصادي، سياسي) واضطهاد ضمن نطاق الأسرة.
وقد أوضحت بعض الدراسات الأنثروبولوجية المتنوعة أن الذكور في ثقافات كثيرة يعتقدون أنهم روحياً أعلى مقاماً ومنزلة من الإناث، وأن الإناث كائنات خطرة ونجسه وضعيفة، وأنهن غير جديرات بالثقة، ونتيجة لذلك تظل الأنثى خاضعة ومستعبدة، وتقبل غالباً المبررات التي يسوغها الذكور للمحافظة على ذلك الوضع.
وتكشف أيضاً بعض الدراسات الأنثربولوجية عن وجود أفكار راسخة في الوعي الشعبي تدور حول دناسة الجسد الأنثوي، وامتداد تأثيره إلى ما يحيط به، حيث يفسد كل ما يلامسه، وله القدرة على تغيير طبائع الأشياء.
وهذه الصورة للجسد الأنثوي، كجسد نجس، تنتشر في معظم الثقافات التقليدية عربية وغير عربية، وبقيت سائدة في المجتمعات الغربية حتى القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، وكشفت معظم الدراسات أن هذه الأفكار ترتد في جانب كبير منها إلى تعاليم «توراتية» تعود بدورها إلى «ميثولوجيا» وأفكار بعض الحضارات القديمة التي عاصرها بنو إسرائيل، فقد أدان العهد القديم المرأة أبشع إدانة، وحملها المسؤولية كاملة عن تلك الخطيئة، وعاقبها على ذلك أشد العقاب، جاء على لسان الرب في سـفر التكوين – الإصحـاح الثالث: وقال للمرأة: تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك.
كانت تلك أول إشارة إلى حادثة الولادة باعتبارها عقاباً للمرأة.
وكذلك وعلى سبيل المثال لا الحصر: شريعة مانو وكتاب موسى يأمران بهجر الزوجة العقيمة، وبعض كتب الهند المقدسة تحرم المرأة من حقها بالحرية والامتلاك، وأنها مادة الإثم، وكانت تحُرَق أو تُدفَن مع زوجها بعد وفاته. بينما في الصين فقد ظُلمت المرأة ظلماً كبيراً فقد سلب الزوج ممتلكاتها ومنع زواجها بعد وفاته، وكانت نظرة الصينيين لها “كحيوان معتوه حقير ومهان مع أن فلسفة كونفشيوس تؤكد على أهمية الاسرة ودورها الاجتماعي. وفي بلاد فارس منحها زرادشت حقوق اختيار الزوج وتملك العقارات وإدارة شؤونها المالية. كما لا زالت هذه المكانة المتميزة موجودة عند المرأة الكردية، التي تتمتع بحريات كبيرة وتقاليد عريقة. كما كان من الأمور الشائعة بين طبقة الأشراف والأغنياء في إيران القديم تعدد الزوجات، فلم يكن محدوداً بعدد معين، ولا يشترط فيه أي شرط، ولا تتمتع جميعهن بحقوقهن الكاملة، بل تكون إحداهن صاحبة حقوق كاملة والبقية كخادمات. كما لا تملك البنت حق اختيار الزوج، ولا للزوجة حق التصرف في أموالها بدون إذن زوجها، وللزوج الحق أن يمنح إحدى زوجاته لرجل آخر في نفس الوقت التي تكون فيها تابعة لزوجها الأول قانونياً ودينياً، وإذا أنجبت من الثاني فالأولاد ينسبون للزوج المانح. كم في هذه العادة هدر للكرامة الانسانية، كرامة المرأة كإنسان؟! هل ممن يقرأ هذا المقال يقبل ذلك لزوجته أو لأمه أو لابنته أو لأخته؟
أعطت شريعة حمورابي للمرأة حقوقاً كثيراً من أهمها: حق البيع والتجارة والتملك والوراثة والتوريث، كما كان لها الأولوية على الزوجة الثانية في السكن والملكية وحفظ حقوق الوراثة والحضانة والعناية عند المرض. كما شهد العصر البابلي بوصول الملكة سميراميس إلى السلطة لمدة خمس سنوات رخاءً كبيراً. وكانت للمرأة لدي قدماء المصريين منزلة كبيرة. فكانت تشارك زوجها في العمل في الحقل. كما كانت لها مكانة كبيرة في القصر الفرعوني، فكانت ملكة تشارك في الحكم وتربي النشأ ليخلف عرش أبيه الملك، كما كانت تشارك في المراسم الكهنوتية في المعابد. في عهد الفراعنة في مصر كانت للمرأة حقوق لم تحصل عليها أخواتها في الحضارات السابقة، فقد وصلت للحكم وأحاطتها الأساطير. وكان للمرأة المصرية سلطة قوية على إدارة البيت والحقل واختيار الزوج، كما أنها شاركت في العمل من أجل إعالة البيت المشترك. وكان الفراعنة يضحون بامرأة كل عام للنيل تعبيراً عن مكانتها بينهم، إذ يضحى بالأفضل والأجمل في سبيل الحصول على رضى الآلهة.
تعددت الآلهة لدي المصريين القدماء فكان منهم الذكور والإناث، منهن هاتور وإيزيس وموت وتفنوت، ونوت وغيرهم. وخلفوا لنا تماثيل كثيرة تظهر فيها الزوجة متأبطة زوجها، علامة صريحة على الوفاء والود والإخلاص. كما ورد في النصوص الدينية لهم أن الزوجة تقترن بزوجها في العالم الآخر، كما يبين التراث المصري القديم في وثائق عديدة. وعندما تكون أعمالهما أعمالا طيبة في حياتهما فتمنح لهم في الآخرة حديقة يزرعونها سويا ويعيشون من ثمارها ويستمتعون بها، يساعدهم في ذلك خدم يسمون “مجيبون”، أي المُلبونَ للأمر. ففي تصورهم أن العمل في حديقة “الجنة” لا يقترن بالتعب والعناء، إذ يمكنهم نداء خدم مخلصين يسمون “وجيبتي” (المُجيبين أو المستجيبين) فيساعدونهما في أعمال حياتهما الأبدية.
أما عند اليونان، فقد عاملها الإغريق معاملة تؤكد تبعيتها للرجل فالزوج من حقه المقايضة بها ومن حقه أن يهبها وكانت المرأة معزولة عن النشاط العام فهذا الفيلسوف العظيم فيثاغورس يميز بين مبدأ الخير الذي خلق النظام والنور والرجل ومبدأ الشر الذي خلق الفوضى والظلمات والمرأة\ بينما أبقراط يعلن أن المرأة مهمتها خدمة البطن، وأفلاطون آراءه في المرأة في كتابه (الجمهورية) تنسجم مع آرائه في الدولة والسياسة وتقسيمه الاجتماعي للطبقات، وبيان أدوار كل منها ووظائفها. فوظيفة المرأة ــ من وجهة نظر أفلاطون ــ يجب أن تكون لخير المجموع. لكنه يرى أن المرأة تتصف عادة بأنها أضعف من الرجل، ومصلحة الدولة تقضي اختيار الممتازات من النساء إلى جانب الممتازين من الرجال لإيجاد نسل ممتاز لتلبية حاجة الدولة.وأكد أن المرأة يمكن أن تناط بها أعمال الرجال، فإذا كانت أقل خبرة من الرجال فهي لا تقل عنهم كفاءة.
بينما نجد آراء تلميذه الفيلسوف أرسطو تختلف من حيث الوصف والمبدأ، فهو ينتقد آراء أستاذه في مشاعيه الأسرة والمرأة، ويعتبر أن الأسرة ضرورية للمجتمع وأساس له، وقد دافع أرسطو عن قدسية الأسرة وسمو روابطها وضروراتها لحفظ الكرامة الإنسانية ونشر الفضائل. لكنه اعتبر أن الزوج هو رأس الأسرة لكمال عقله، بينما المرأة فهي أقل من الرجل عقلاً وكفاية وأضعف بنية وأحط مرتبةً، لذلك يجب أن تعمل المرأة بتوجيه من الرجل وبإشرافه.. وهو يشير إلى أن المرأة ليست مهيئةً للأعمال الحربية والسياسية. قد نجد في آراء أرسطو السابقة شيئاً من الغرابة ــ على الأقل من وجهة نظرنا ونحن نعيش في مطلع القرن الحادي والعشرين.والحقوق الرومانية البدائية لم تعترف بأن للمرأة إرادة مستقلة، وأخضعتها لوصاية الأب. لكن تركت لنا الآثار الكثير من المعلومات التي تشير إلى أن المرأة كانت قاضياً أو كاهناً أو بائعاً، ولها حقوق البيع والشراء والوراثة كما كان لديها ثرواتها الخاصة.
وبقدوم المسيحية استبشرت المرأة خيراً فأعتبر الدين المسيحي أن المرأة والرجل جسداً واحداً، لا قوامة ولا تفضيل بل مساواة تامة في الحقوق والواجبات. وحرم الطلاق وتعدد الزوجات، وأعطيت قيماً روحية أكبر. وأعطيت لمؤسسة الزواج تقديساً خاصاً ومساواة في الحقوق بين الطرفين.
ولكنها ومع تحول المسيحية من دين الفقراء إلى دين الأغنياء ودين دولة خاب أملها بالتحرر والانعتاق، وأن تغيرت قليلاً بعض المفاهيم فإنها لم تصمد أمام الفكر الرجولي، فهذا القديس بولس يقول: “إن الرجل لم يخلق للمرأة، ولكن المرأة خُلقت للرجل” ورأى فيها أباء الكنيسة مفسدةً وفخَ الشيطان وهلاك الروح، فالقديس يوحنا يقول: “ليس هناك بين كل وحوش الأرض المفترسة من هو أشد أذى وضرراً من المرأة” وقال القديس والفيلسوف البارز في العصور الوسطى توما الإكويني “إن المرأة قد كتب عليها أن تحيا تحت هيمنة الرجل، وألا تكون لها أي سلطة”. هل يستحق أحد من هؤلاء لقب قديس؟!
وعند العرب بالعصر الجاهلي (قبل الإسلام) في جزيرة العرب فقد شاركت المرأة في الحياة الاجتماعية والثقافية، وفي نفس الوقت كان بعضهم يقوم بوأد البنات بسبب الفقر، وسبيت وبيعت، بالضبط كما بيع العبيد من الرجال. والمرأة كانت لها حقوق كثيرة مثل التجارة وامتلاك الأموال والعبيد، كما كان الحال مع خديجة زوجة الرسول محمد بن عبد الله(ص)، كما كان لها الحق في اختيار الزوج أو رفضه. وكان منهن الشاعرات المشهورات كالخنساء.
(كما تولت الكثير من النساء الحكم في بعض المناطق مثل الملكة زنوبيا في تدمر أو الملكة بلقيس في اليمن.) ما بين القوسين لا علاقة له بالإسلام لأنه سابق زمنياً له.
سليمان الكفيري_ نينار برس