ينتظر السوريون ما لا يعرفونه، فلا يقين لديهم حيال الغد، ولا مؤشرات بحوزتهم تبيّن لهم فصيلةَ دم يومهم التالي، يذوبون داخل ملحمة الغلاء الكبرى، متكئين على عجزهم السياسي، وعلى انتقال شاشة العرض السينمائي من بلادهم إلى أوكرانيا وهي تنعى للعالم خذلانها ودمارها ونزوح شعبها. والسوريون هنا لا يفصلهم عن الفناء المؤكد سوى رقم، قد يكون معدل تضخم قياسي غير الذي يجوب حياتهم الآن، أو انهياراً درامياً غير مقصود في قيمة ليرتهم السورية غير الانهيار المتمسكة به خلال الشهر الفضيل، أو مشتملات جبايةٍ جديدة تسترسل السلطة من خلالها بسرقة أرصدة جيوبهم الخاوية. ماذا تراهم يفعلون إذاً أكثر من أنهم يتابعون بلا كلل مسلسل “كسر عظم” ويتساءلون بحيرة عن مصائر شخصياته الغائمة المسروقة من ورق فؤاد حميرة، بعد أن هنّأهم عمرو سالم وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام بأن تجربة البطاقة الذكية في بلادهم صارت تجربةً كونية مبهرة، وهي على وشك التعميم في ألمانيا وروسيا وكوكب زحل.
وطن بمساحة ملعقة
لا تزال التعزيزات الأمنية تتقاسم بعض الساحات والشوارع داخل مدينة السويداء، تظهر كقوة احتلال أكثر من أي شيء آخر، إذ لم تكن لها أدوارٌ أخرى تلبسها غير إشاعة الرعب النفسي بين الناس، أو التلويح به ما أمكن، فالجريمة المنظمة لم تتقلص بمحتوياتها، ولم تهزمها الجحافل التي ساقتها العاصمة إلى المحافظة الجنوبية المزعجة لها بصحواتها المتقطّعة، بقيت معدلات الخطف والسرقة والقتل على حالها، هذا إن لم تزد عن منسوبها المعتاد، وعناصر تلك التعزيزات لا تكفّ عن الشكوى والتذمر من سوء أحوالها، وكأن سلطة النظام رمتهم هناك ونسيتهم، ينامون في خيام مرتجلة أو في أروقة أبنية تتبع لسلطة نظامهم، التي لم تصرف لهم بعد مكافآت مهماتهم الخارجية، فيستدينون المال لقضاء أيامهم المهمة جداً في المحافظة التي لم يطبّعها النظام حسب أهوائه بعد، في وقت تناقل الكثيرون فيديو يبيّن كيف أن كلفة رغيف خبز، وعليه ملعقة لبن واحدة باتت تتجاوز ألف ليرة.
تلك الحياة المهزومة تحاصرهم حتى النهاية، والنظام السوري يستقوي عليهم بتغييب أساسيات حياتهم عن قصد، يمارس وقاحته بلا حدود فيحرمهم من الغاز المنزلي في وقت يصدّره إلى لبنان “الشقيق”، ألم يصرّح النظام مؤخراً بأن “القضية الفلسطينية ستظلّ قضية سوريا الأساسية” يصرّح بذلك، وبغيره ولا يستحي، ولن يستحي. أليست سوريا هي الإقطاعية المسيّجة بالحماية الدولية لتلك الطغمة الحاكمة منذ أكثر من نصف قرن؟! أليس السوريون أقناناً لا يأبه بمصيرهم أحدٌ من سادة هذا الكوكب التافه؟! وهذا يتجاوز بكثير ما نشره الممثل السوري عدنان أبو الشامات عبر حسابه على فيسبوك، بأن قال: طالما أنت موظف أو أجير عند أحد، فأنت عبد. إذ إن مفهوم العبودية بثّه، وثبّته حكم البعث وطغمة المال السياسي التي رافقته خلال العقود الماضية، وصار جليّاً أكثر من ذي قبل خلال السنوات الماضية، حتى إن الثورة السورية جرى تفريغها من محتواها الراديكالي باكراً بتواطؤ دولي مخجل للغاية.
بانتظار سبارتكوس
مناطق سيطرة النظام السوري سجونٌ بشرية كبيرة، بداخلها أقنانٌ لم يخرج منهم سبارتكوس بعد، وقد لا يخرج. الحياة هناك تنزح من ضفة ذليلة إلى أخرى، هناك أيضاً لا يستقيم المعنى السياسي لمعادلة الصمت المعادية لشروط الحياة الآدمية، وليس سهلاً تفكيك مكوناتها، ليأتي رمضان كما الأعوام الماضية، فاضحاً الجوع العميق كأحد مخرجات المعادلة الاجتماعية الاقتصادية، وفاضحاً في آن فرجة النظام السياسي على معاناة الناس، بل ومزاولته مزيداً من التسلط لنهب دخولهم، وإتخامهم بوجبات لا تحصى من الذلّ اليومي، فهو ببساطة نظام حكم معادٍ لشعبه، وهذه معادلة سياسية يسهل إثباتها في كل حين.
في السويداء ظهر حراك غذّاهُ صراع عدّة أطراف على محطات نفوذ محلية، وحين بدأ يكسب قبولاً اجتماعياً وأدته تلك التفاهمات السرية خلف ستارة المسرح. في دمشق العاصمة وباقي مناطق نفوذ النظام لا تقوم قائمةٌ للناس هناك، وإن قسنا فعلهم السياسي نجده لا يتعدّى دلالات الانتقاد لحكومة العرنوس بنسختها الثانية على منصات التواصل الاجتماعي، أو بعض الشتائم والسباب الذي قد يتخلل أحاديثهم الاعتيادية.
والآن، فالسوريون الصائمون جداً بحاجة لظهور سبارتكوس أكثر بكثير من حاجتهم لظهور المهدي المنتظر، أو ظهور الجزء الخامس عشر من بقعة ضوء على موائدهم الرمضانية، يحتاجون قيامةً تنهي صيامهم الطويل جداً.
أيمن الشوفي _ أورينت نت